شهداء الحزب

الشهيد كاظم عبيد "أبو رهيب" / محمد علي محيي الدين

قد يعتقد القارئ للوهلة الأولى أن مقالي هذا عن إرهابي قتل الآمنين،أو تلطخت يداه بدماء العراقيين،أو يتصور أنها قصة تحاكي القصة الروسية ايفان الرهيب،ولكن مقالي ليس عن هذا أو ذاك،وإنما هو ومضات من سيرة الشهيد الشيوعي البطل كاظم عبيد اليساري (أبو رهيب) وكان رهيبا فعلا في أقدامه وتضحيته وبسالته وشجاعته وتضحيته النادرة المثال،فقد حاكى الرعيل الأول في الصمود والفداء وكتب بدمه الطاهر سطوراً ناصعة في السفر الشيوعي تستحق الإشادة والتبجيل،ورغم أني لم أرتبط معه بعلاقة قوية أو صلة تنظيمية،إلا أني عرفته من خلال عمله في محلية بابل أيام الجبهة الوطنية في سبعينيات القرن الماضي،فوجدت فيه الكثير من الخصال الرائعة،والصفات الشيوعية الأصيلة،والمبدئية النادرة المثال، فهو من الشغيلة الكادحة والطبقات الشعبية الفقيرة،ذاق اليتم والفقر والعوز والحرمان، وشعر بعمق المعاناة التي تواجه هذه الطبقات التي لا تفقد غير قيودها كما قال الخالد ماركس، في مواجهتها للرأسمالية المتغطرسة.
وكان لانحداره الطبقي أثره في صدق انتمائه، ونبل دفاعه عن طبقته، وشعوره بمشاعرها وما تعانيه من قهر وظلم ومهانة، ونال نصيبه من السجن والتعذيب والتشريد في حياته النضالية الزاخرة بالأمجاد والبطولات،وظل حتى لحظاته الأخيرة رافعا راية النضال،لم يعلن استسلامه حتى خر صريعا برصاص البغي والنذالة.
نشط للنضال في صفوف الحزب بعد ثورة تموز الظافرة،وكان عضوا بارزا في قيادة خلية الدورة التربوية لعام 1958-1959 مع كل من الفقيد جعفر هجول والرفيق عبد الأمير الشلاه،وظهرت قدراته في المجالات المهنية،وبعد تراجع الثورة وانحراف مسيرتها كان عرضة للاعتقال والتعذيب،دون أن يفت ذلك في عضده فواصل مسيرته الكفاحية،ليكون الانقلاب الفاشي في 8 شباط 1963 بداية لمسيرة طويلة من الألم والمعاناة ويلقى القبض عليه من قبل جلاوزة السلطة والحرس القومي في منطقة مشروع المسيب، وحكمت عليه المحكمة العرفية بالسجن ليخرج منه أواخر 1966،فنسب للعمل في قضاء الهاشمية التي شكلت لجنتها حديثا،ولنشاطه اختير عضوا فيها،ولكونه معروفا فقد ارتأت اللجنة أن يرتدي الزي ألفلاحي،فكان يجد صعوبة في ارتدائه لعدم تعوده عليه.
كانت محلية بابل في تلك الفترة تتكون من الشهيد كاظم الجاسم (أبو قيود) سكرتير المحلية وعضوية (أبو عباس) تركي الهاشم ومحمد حبيب وعبد زيد نصار، ولنشاطه وقدرته على التحرك نسب للعمل في محلية بابل أواخر 1967، وبعد انقلاب تموز 1968 وحدوث شيء من الانفراج في العلاقات مارس عمله السري عضوا في المحلية، وعندما قررت السلطة أعادة المفصولين السياسيين عاد للتعليم معلما في مدارس كركوك، وكان معه الراحل معن جواد وقد تزوج في تلك الفترة وولد أبنه البكر (رهيب) في كركوك،وعاد إلى الحلة عام 1972، ليصبح مسؤول لجنة التوجيه الفلاحي حتى سنة 1975 حيث أرسل بدورة دراسية الى موسكو في تموز من نفس العام، ومكث ثلاثة أشهر هناك عاد بعدها لتسلم مسؤوليته في المكتب ذاته،إضافة لمسؤولياته الحزبية الأخرى.
ونسب للعمل السري بعد تفاقم الخلافات مع حزب البعث، حيث أختارت قيادة الحزب الرفاق المتمرسين بالعمل السري والقادرين على العمل في الأوساط الفلاحية، وكان معه الشهيد جبار جاسم وآخرون.
بعد انهيار التجربة الجبهوية،وتصفية أكثر القواعد والقيادات الحزبية التي أضطر بعضها إلى الهجرة خارج البلاد، أو اللجوء إلى كردستان العراق للانضواء في فصائل الأنصار الباسلة، أو التخلي عن العمل السياسي والانصراف للحياة العادية، او مسايرة السلطة البعثية الجائرة، فقد اقتحمت مفرزة من الأمن والشرطة والبعثيين المدرسة التي يعمل فيها لإلقاء القبض عليه فتمكن من الإفلات بعد أن قفز من سياجها الخارجي، وواصل النضال بما عرف عنه من بسالة واقتدار وحيوية على العمل في أشد الظروف حراجة، فأضطر للاختفاء ومواصلة العمل السري،وإعادة بناء التنظيمات الحزبية في أشد الظروف حراجة وقسوة، بإصرار على مواصلة المسيرة حتى الرمق الأخير رغم القمع الفاشستي، فالتجأ إلى منطقة(عون) في ريف المدحتية،وكان يزور قرية تركي الهاشم،وقرية عون الذي كان سدنته من رفاقنا المخلصين،ويرافقه في هذه الزيارات الشهيد البطل(أبو عبيس) وبعد استشهاده كان يزورها أبو رهيب منفردا،وقد شكلت محلية ميدانية في تلك الفترة من الرفيقين أبو رهيب وجبار جاسم عبد (أبو عبيس) وقد حدثني تركي الهاشم أنه في تموز 1979 ،جاءني الرفيقان أبو عبيس وأبو رهيب وطلبا مني السفر إلى خارج العراق،فقلت لهما إذا سافرت فسوف لا أعود،فقالا لا عليك العودة فور أكمال المهمة،حيث ستحمل رسالة إلى المدرسة الحزبية في صوفيا ،وهناك تطلب مقابلة الرفيق حميد مجيد البياتي ،وإذا تعذر وجوده عليك الالتقاء بأي طالب عراقي فيها وتسلمه الرسالة،وسلمني رسالة ملفوفة على شكل زبانه قمت بوضعها في الطية السفلى للبنطلون الذي أرتدي ووصلت صوفيا يوم 30 تموز1979 وعندما وصلت المدرسة سألت عن الرفيق حميد فلم أجده عند ذلك طلبت مواجهة إي طالب عراقي،وفعلا التقيت بطالب لم اعرف اسمه وطلبت منه تسليمها إلى الرفيق حميد،ثم عدت إلى العراق،وعلى أثر ذلك تم ربط التنظيم بمركز الحزب،وعندما القي القبض على أبو عبيس طلبت من أبو رهيب البقاء في قريتنا إلا انه رفض ذلك حيث كان دائب التنقل بين المدن الفراتية ومتابعة التنظيم ومواصلة الاختفاء،وكان آخر لقاء معه سنة 1983 في قرية عون.
كانت له القدرة الفائقة على التنكر وارتداء مختلف الأزياء فقد جاء إلى ناحية القاسم ذات مرة مرتديا الملابس الريفية وكأنه شيخ من شيوخ الأعراب،وكان وصوله في يوم الجمعة حيث تزدحم المدينة بالوافدين من الريف ،وكان حضوره مفاجئا لأقرب المقربين إليه بهذا الشكل السافر،إلا أن روح الأقدام التي جبل عليها جعلته يتحدى السلطة العاتية ويتحرك بين المدن المتباعدة ليعيد الصلات الحزبية التي أخذت بالانقطاع،بسبب الممارسات القمعية للسلطة العفلقية الغاشمة،وبعد أكمال مهمته عاد من حيث أتى ليعود بعد شهور في جمعة أخرى وهو يرتدي الملابس الزيتونية واضعا مسدسه في مكان بارز وكأنه احد مسؤولي البعث الكبار الذين عرفوا بهذا الزى ،الذي جعله بنظر الآخرين بعيدا عن المساءلة والشك،وتمكن بهذه الطريقة من إيصال البريد الحزبي والالتقاء بالرفاق الذين كانوا يمارسون التنظيم الفردي الخيطي لتجنب انكشاف أمرهم من قبل السلطة التي كانت تحصي على الناس حركاتهم وسكناتهم.
وقد حدثني الرفيق فلاح أمين الرهيمي أنه كان ذات يوم مكلفاً بواجب الكشف على الدور المشيدة حديثا لإكمال معاملة تسليفها بوصفه رئيس لجنة الكشف،وعندما نزل من السيارة بعد تعذر دخولها الى الدار المطلوبة بسبب الحفر الموجودة،شاهد شخصاً يرتدي الكوفية والعقال يومئ له،وعندما أقترب منه سلم عليه دون أن يعرفه،وعندها أخبره أنه أبو رهيب،فدخلت معه الى أحدى الدور غير الجاهزة،وسألته عن أخباره ،وبعدها قدمت له مبلغا من المال فرفض استلامه فقلت له انه اشتراكي عن سنوات الانقطاع ،ثم أعطيته عنوان منزلي في الفياضية، وعندما عدت سألني الموظف الذي يرافقني في لجنة الكشف فأخبرته انه لديه دار يحاول إجراء الكشف عليها فطلبت منه مراجعة الدائرة بعد أيام لإكمال معاملته.
ويمضي ليقول وبعد فترة طرقت باب الدار فخرج احد أبنائي لفتحها وعاد ليخبرني إن شخصا يرتدي ملابس ريفية يريد مقابلتي فخرجت إليه فشاهدت شخصا يرتدي دشداشة متهرئة وقد تمنطق بحزام علقت فيه سكينة تكريب النخيل وقد لبس الكوفية على رأسه ،وأخبرني أنه أبو رهيب بعد أن أزاح الكوفية عن وجهه قليلا فدعوته للدخول حيث قدمت له ما تيسر من طعام ،ثم قام بتكريب النخيلات الموجودة في الدار وتحدثت معه عن الوضع وأموره فشكا لي المرض والجهد والمعاناة التي يعانيها جراء الاختفاء،وبعد أن أكمل تكريب النخل أعطيته مبلغا من المال رفض استلامه فقلت له أنه اشتراكي المقرر للفترة القادمة ،وبعدها غابت عني أثاره الى أن علمت أنه القي القبض عليه وأعدم من قبل السلطة.
هكذا كان الشهيد يواصل نضاله والتحرك ضمن المجالات المتاحة دون أن يعطي الفرصة لرجال الأمن الذين يتعقبون آثاره للامساك به ولكن لكل جواد كبوة فقد كان ذات يوم على موعد مع شقيقة زوجته التي كانت تعمل مراسلة له في منطقة النزيزة بالقرب من دائرة الإطفاء ،وكان الأمن قد وضعها تحت مراقبته ورصد تحركاتها بعد وشاية احد الخونة المندسين، فنصب له كمين في تلك المنطقة وتمكن من إلقاء القبض عليه سنة 1984،وكانت فرحة كبيرة لرجال الأمن والبعثيين بهذا الصيد الثمين فأودع في مديرية آمن بابل في زنزانة صغيرة وربط بوثاق متين إلي أنبوب الماء المار بها.
وقد حدثني الرفيق (أبو غسان) أنه بتاريخ 11/3/1986 كان معتقلا في زنزانة رقم (2) في مديرية أمن بابل وقد ربط الى أنبوب الماء الكائن في جدار الزنزانة،فسمع صوت يسأله من وراء الجدار من أنت ومن أين فذكرت له اسمي وأني من أهالي القاسم،فأخبرني أنه من منطقة(الفياضية) ومتهم بالانتماء لحزب الدعوة وأن أسمه(هور)،وكان قد عمل فتحة صغيرة إلى جوار الفتحة التي يمر منها الأنبوب نتكلم من خلالها،فأخبرته أني موقوف لوشاية لأني لم أثق به وخشية أن يكون من رجال الأمن المندسين،وكنت في كل مساء يأخذني الأمن إلى غرفة التعذيب،ويمارسون معي مختلف أنواع التعذيب دون أن أعترف بما نسب لي رغم وجود شهود، و يعيدوني إلى الزنزانة بعد أن يغمى علي،،وبعد ثلاثة أيام أرسل هور إلى المحكمة وبرئت ساحته على ما علمت بعد فترة،وحدث تبديل في الزنزانات،فجيء بشخص جديد إلى الزنزانة التي بجانب زنزانتي فناداني الضيف الجديد سائلا عن أسمي بعد أن أخبرني أنه كاظم عبيد أبو رهيب وكنت على معرفة وثيقة به فأخبرته بأسمى وتعارفنا وأخذنا نستذكر الأيام السالفة وقد أخبرني بأنه لقن هور أفادته التي يقولها في المحكمة وقد برأ من التهمة وأطلق سراحه،وأنه يتوقع أن يقوم الحزب بمهاجمة السجن وإخراجه عنوة،خشية على الأسرار التي يعرفها والتي لم يفشها لحد الآن، وذات يوم أخذوه لعدة أيام لأني افتقدته عندما أردت مكالمته فلم يجبني فاعتقدت أنه نقل إلى سجن آخر،وبعد أيام سمعت حركة في الزنزانة المجاورة، وكنت أخشى مكالمة من فيها خوفا من انكشاف أمر الفتحة أو يكون من رجال الأمن، وبعد دقائق كلمني فإذا هو أبو رهيب وقد أخبرني أنهم مارسوا معه مختلف أنواع التعذيب دون أن يتمكنوا من انتزاع اعتراف منه،وقد أبقوه معلقا في المروحة السقفية لأربعة أيام،وقد قام ملازم أول ياسين الملقب ياسين الدوري وهو من أهالي الحلة بربط قدميه ويديه إلى كرسي حديدي بوسط الغرفة،وسكب النفط على أقدامه وأشعل النار فيهما مما جعلها ترتفع بعد أن اشتد ضرامها الى ركبتيه،وقد جاء مدير الأمن العام من بغداد ليشرف على التحقيق وعندما رآني بتلك الحالة المفجعة،أمر بخروج منتسبي الأمن وبقي لوحده معي وقال لي أنت بطل والله (وحرامات أن يكون مثلك تحت الأرض) ثم أمر بإعادتي إلى زنزانتي،وقد مكث معي في الزنزانة المجاورة 78يوما نقل بعدها الى مكان آخر،وقد سمعت من آمر حرس السجن المدعو(جبار)من أرياف الحلة، أنه قد أرسل الى مديرية الأمن العامة حيث مورست معه أبشع أنواع التعذيب من قبل رجال مكتب مكافحة الشيوعية الذي يشرف عليه (علاء) المعروف بحقارته وحقده على الشيوعيين وقد تمرس بالتعذيب وأشرك في دورات خارج العراق لتعلم فنونه،وأنه كان يبتدع أقذر طرق التعذيب لممارستها مع الشيوعيين،وأن صدام حسين قد أمر بإحضار (أبو رهيب) لمواجهته وعندما أدخل عليه كان يقرأ في أوراق أمامه،ثم قال له بعد قليل (شسمك)فقال له كاظم عبيد، فسأله هازئا أسمك الحركي لو أسمك الحقيقي فأجابه أبو رهيب لا أسمي الحقيقي،فقال له صدام إذا كنت تريد الحياة وأن تعود لعائلتك لتمارس حياتك الطبيعة فأنا على استعداد لإصدار عفو عنك بشرط أن تعطيني (كل مالاتك)فرد عليه الشهيد البطل بجرأة الشيوعي الحقيقي الذي لا يعبأ بالموت في الساعات العصيبة،لقد مارست العمل السياسي قبلي فلو كنت في مكاني فهل تفشي أسرار حزبك وتعترف على رفاقك،فقال له صدام (أني مالاتي عزيزات) فأجابه الرفيق بجرأة منقطعة المثال(وأني مالاتي أعز)فصمت صدام لحظات ثم قال له (مبروك عليك الشهادة) وأشار لزبانيته بإخراجه،فاقتيد إلى سجن أبو غريب حيث هيئت أوراقه على عجل وأحيل إلى محكمة البندر لتصدر حكمها الجائر بإعدامه،لينفذ الحكم وسط حفلات الإعدام البربرية التي يحضرها رموز السلطة آنذاك لأنها خير مكان لتسلية البعثيين المرتزقة، وتحضرها الماجدات من رفيقات منال الآلوسي اللواتي قال فيهن شاعر العرب الأكبر:
وخطت الله على صدرها وخوضت بالدم حتى الحزام
لتزغرد لهلوبة الطرب منال، ويقيم حفلات الذكر عزت، ويلقي المداحون من جماعة البندر قصائدهم الفرحة بالدم المراق،وينادي البعثيون المجتمعون بالبعث الذي تشيده الجماجم والدم ليتهدم ذلك البناء الهاري وينهض الحزب الشيوعي من جديد رافعا أعلام النصر خفاقة في ربوع العراق الجديد،رغم أنف أعدائه الطبقيين الذين كانوا يتوقعون نهاية الحزب بوسائلهم الرخيصة تلك،ولكن الشعب الذي أوجد الخالد فهد،والنسر الأشم سلام عادل،والبطل أبو رهيب،وأشبال الأسود أبناء الصفار الأشاوس لن يموت وسيبقى كالطود الأشم هازئا بالطغاة وعتاة الجلادين ليعلن بزوغ فجر جديد، ويتواصل نضال الحزب لبناء وطن حر وشعب سعيد.