ادب وفن

النص الروائي بين الواقعي والمتخيل (3-3) / جاسم عاصي

ثالثا ًــ المستوى التاريخي

لا شك إن الاشتغال على هذا المستوى من الكتابة، يتطلب معرفة بالتاريخ، سواء تاريخ الأجزاء منه أو الكليات. وهذا يستدعي الوثيقة التي اشتغل عليها الروائيون وبطرِقٍ متباينة، حتى عُدّت الرافد الرئيسي للنص، ليس من باب الموضوع فحسب، وإنما من باب البنية الفنية له، لاسيّما تلك التي اشتغلت على الهامش من التاريخ للوصول بمداولات سردية باتجاه المركز. ولعل المخيّال يلعب دورا ً في بعض ما أنتجه الكتّاب. وأرى أن كَزار عمل على أن يكون نصه الروائي مقتربا ً ومخترقا ً المألوف في هذا الضرب من الكتابة، إذ بذلت الوثيقة لديه جُهدا ً كبيرا ً لاحتواء ما هو مدوّن أو شفاهي. وأجرى على واقع المدينة نوعا ً من الانزياح، وتمسّك بما هو دال على الواقع. ووثيقته كانت من باب الشفاهي أو المسرود له. وبهذا حاول العامل مع الوثيقة، سواء كانت متابعة سيرة نماذج الحاضر، أو سيرة الأشخاص الذين تستنهض تاريخهم ومستويات ما بُذِل من جهد من قبل النساء الثلاث العوانس ولعل اختيار صفة العنوسية، تعني إقفال الوثيقة أي استظهار ما توقف عليه أصغر أكبر وفشل مشروعه. وهذا تطلب غلبة وطرح الرأي في ما هو حاضر، والذي تتحكم فيه أساليب الانمحاء الذي يتعرض إليه تاريخ المكان، عبر التجاوز على خصائصه. إن ما تقدمه النساء هو استنهاض الذاكرة للمكان والأحداث وبأسلوب وسردية متداخلة زمانا ً ومكانا ً. فالذي يؤشر العناية بالتاريخ يتمسك بتصورات السارد أو الراوي عبر إحياء ما خلفته مطبعة السيد أصغر أكبر وبهذا الأسلوب وضعنا الكاتب أمام مستويين من التعامل مع التاريخ؛ الأول: تطوير وحث ما تنتجه مخيلته والثاني: بما يتصفحه من تاريخ المدينة من أحداث خاصة عبر الاحتلال العثماني والبريطاني, وصولا ً إلى حقبة النصف الثاني من القرن العشرين وحصرا ً انتفاضة عام 1991، ثم الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، لكن الذي يميّز وثيقة "مرتضى" كونها تستحلب الواقع وتدفع بسلطة الكتابة والمخيّال لتأخذا بزمام السرد والروي. من هذا نرى أن تاريخية الرواية منظور إليها بكيفية ذاتية. بمعنى أسس وبمنطق تداخل الأزمنة وعبر الأمكنة المتناوبة في الحضور، حيث تشكّل بمجموعها سيرة المدينة مكانيا ً، كذلك ما فرزته في الجانب المعرفي والفكري. فالتاريخ معزز بالمكان من جهة، وبالنموذج من جهة أخرى. فوثيقته تحت سلطة السرد، وبالتالي قاد السرد إلى الاختزال والاكتفاء بالإشارة إلى بنية التاريخ. ونقصد هنا؛ إنه تعامل مع مكوّنات التاريخ من باب الشفرة، وهي بمثابة وحدة سردية ــ سيرتاريخية ــ عمل الكاتب على ابتكار أسسها ومكوّناتها الذاتية والموضوعية. ولنر كيف استدرج مثل هذه الوثاق التاريخية، وجعلها من روافد النص الفنية.
فمنذ البدء استحضرت السردية طبيعة المدوِّنات ــ النساء الثلاث ــ وعكس وجهة نظرهنَّ في ما هنَّ مقدمات على انجازه "الحل الأخير الذي توصلنا إليه في الساعة الثالثة فجرا ً، ضم المكعبات إلى "بقجدة" الأوراق والتخطيطات ومشجرات النسب وبيعها جميعا "ً وهذا بحد ذاته نوع من إعطاء صفة الندرة من تأريخ الجد، وبالتالي من تاريخ المدينة. وتستطرد النساء في عكس تصوراتهنَّ بهذا الشأن "نحن لا نفكر في خوض مهنة الأب، فضلا ً عن الغوص في مسوّدات الجد أصغر أكبر، مع أن كل واحدة منها تجيد كتم أنفاسها لساعات طويلة في صفرة الأوراق الداكنة" يُضاف إلى ذلك تصورات وقناعات النسوة بما هو متوفر من وثائق "تلك التي عشنا على يباسها طفولتنا وشبابنا، حتى كدنا نشعر أحيانا ً ؛ بأننا لم نسكن فوق بغلة عباس شبه الجزيرة التي تبعد عن النجف عشرة أميال، كما سكنا فوق أكداس أشجار النسب وكتب الأنساب والعشائر والبيوتات والأُسر" إن الرواية عبر رواتها تقدم صورة تؤكد أهمية الوثيقة التاريخية، حيث تتصل بشكل مباشر بمركز الانتساب إلى المدينة ــ عبر النسّابة ــ وما وجود المحامي "حسين ظافر محمود تموزي" سوى واحد من استنهاض ذاكرة التاريخ، فجده "نفي إلى الهند مع الثوار في الأحداث التي أعقبت حصار النجف واجتياح البريطانيين لها عام 1918هذه التواريخ صحيح أنها ذات صفة توثيق، إلا أنها بمثابة إسهام المخيّال في الموازنة بين التاريخ الحقيقي والآخر المفترض. ولعل السؤال حول كفاية تلك الحروف ــ المكعبات ــ في انجاز مدوّنة الجد يقود إلى البحث عن وسيلة أخرى لهذا التدوين لذا كنَّ "نتجمع حول الصواني ونلتقط الحروف ونصفّها من جديد، كما لو كنّا نتشارك في إعداد الكليجة" وثمة تأكيد على ابتكار تاريخ للمدينة عبر الحفر في ذاكرة الجد من خلال كل السبل المتيسرة. وهي من باب صياغة تاريخ المدينة "كيف له أن يعرف مصدرها؟! كيف سيدرك أن اختنا نظمة، كانت تضرب مكعبات الرصاص وتصفّها بقوة، وهي تكتب كما لو كانت تلعب الدومينو".
لقد وقفنَّ أمام تزوير التاريخ منتبهات إلى ما يحصل ويجري، لكنهنَّ مصّرات على كتابته على وفق ما حصل لمدوّنة الجد "فقد يحصل على شجرة نسب تعود إلى عالم الذر والأصلاب المجمّدة ما قبل الخلق، لقاء أجر كبير لا يمكن لمعينة أن تشتري به سوتيان أو مانجي المضخم للأثداء، لكنه كان كافيّا ً لتشييد قبتين مرصعتين بالبلاط القاشاني فوق منزل الجد" كذلك ما حصل لهنَّ بعد الانتفاضة الشعبانية واستدعاؤهن لكتابة شجرة نسب القائد، وتحت أنواع أساليب الترغيب والتعذيب. ثم أن الرواية تتعامل مع التاريخ بوقائعه كما حصل بشأن الصراعات الدائرة بين عشيرتي الشمرت والزقرت وأخبار تموزي المحامي الذي زور تاريخ عائلته بما يتلاءم مع تاريخ الآخرين في مقارعة الانكليز:
لقد حاول الروائي أن يستند على التاريخ الشفاهي والذي هو جزء من مدوّنة الجد، ليحقق توازنا ً أو يخلق سندا ً من خلال الوثيقة التاريخية. فالمتخيّل هنا هو الوجه المنعكس على سطح المرآة:
"في النهارات كانت جماعة من أهل الولاية تقاوم الثوار من الداخل، تبحث عنهم في البالوعات والآبار التي ردمت من قبل بنائيّ الكوفة. وفي ساعات أخرى من النهار كان الثوار أنفسهم يخوضون جولات تفتيشية عمن يبحث عنهم، أو بحثا ً عن سلاح يعززون به ذخيرتهم، أو قَوْصرّة تمر البصرة يسندون بها أجوافهم".

رابعا ً ــ المستوى الأسطوري والحكائي

ما نعنيه بالأسطورة هنا هو تحديد زاوية النظر على وفق المجال المخيلاتي، بمعنى تصور حراك الحيوات في المكان، وتوالد الصور والأفعال ينبني على منظور أسطوري أو هو أقرب إلى الأسطورة منه إلى الواقع. وتحديدا ً لما كانت الأسطورة مروية تتناول محتوى شاملا ً لتفسير الكون وحركة الوجود ـ فمن الممكن أن يتخذها منتج النص كقناع فني. ولقد لاحظنا الكثير من كتاب السرد يستفيدون من هذا الضرب من التوظيف لتعميق محتوى النص فالأسطورة ذات تأثير ليس من خلال المعنى بل من خلال الشكل والبنية الفنية، ذلك لأنها كسردية أيضا ً تتوفر على ممكنات ذاتية في التشكيل الفني. من هذا المفهوم نجد الروائي مرتضى يميل إلى الأسطورة من باب تعميق وإثراء نصه. فهو في الحقيقة يعمل على ــ أسطرة ــ ثوابت النص، مستفيدا ً من غرائبية وفانتازية ما كان يجري في الواقع وبما يكون بمصاف الأساطير. فالأسطورة باقية في العقل الفردي والجمعي، وما يستنهضها هو حراك الواقع وتغيراته سلبا ً أو إيجابا ً. لقد حاول الكاتب الميل إلى الأسطورة منذ الاستهلال الأول للنص وبما ذكرته راويته نيابة عنهنَّ الثلاثة "نحن معينة ونظمة وواحدية بنات السيد خنصر علي وحفيدات السيد أصغر أكبر، الذي تـُشير مشجرات نسب العائلة بأنه مدفون هنا في هذا السرداب، تحت بيتنا القديم، الذي يسميه الناس بيت الشرايك" هذا الاستهلال ينطوي على محركات أسطورية، في ابتدائها؛ كون النساء يبحثنَّ عن شيء مضمر، سواء كان من حياة الجد، أو من سيرة المدينة. ذلك لأننا نقف على؛ أن سيرة أصغر أكبر مكوّن أساسي لسيرة المدينة. كذلك من ورود مسميات تنحو إلى المنحى الأسطوري كالسرداب والبيت القديم كونها تقود بمؤشراتها إلى متون لابد أن يكشفها السرد أو الراوي. أي أن الأمكنة السفلية والغامضة تنطوي على المسكوت عنه، وحسب منظور "فرويد" هي دالات معرفية مضمرة، لأنها تمثل لا وعي المكان، ولأنها في الأساس بمثابة مدوّنة المدينة التي كتبها السيد بحروف مطبعته التي دأبت على جمع حروفها الرصاصية النساء العوانس، وريثات الأب والجد. وما انتقالهنَّ من "بغلة علي" قرب بحر النجف، سوى الشروع لدخول متن الأسطورة التي ينطوي عليها البيت القديم والسرداب. بمعنى أننا بإزاء حث يقودنا إلى مداخلات واسعة، وانكشاف لم يرد في بالنا، سوى ما كان يساورنا من شك في ديدن هذا البحث. وما يرفد هذا التصور هو الكشف الأولي لطبيعة المدينة من خارج ما هو مضمر في البيت. إن الأجواء التي انطوى على كشفها الاستهلال توحي بالغرائبية، والغرائبية جزء من مكوّن الأسطورة "نزلنا منذ الفجر، مع صوت أول جللجي نشيط تسلَّم نوبته، مع أول "جل الله سبحان الله" مدوية وواضحة أيقظتنا". وما يعمق هذا المنحى؛ هو الكيفية التي دخل فيها الجد المدينة. فقد دخل من فم البحر، وقد تناص هذا بدخول "نوح" أرض اليابسة ما بعد الطوفان. إذ تذكر السردية "ففي سفينته التي لا يعدو طولها ثمانين قدما ً، وعرضها ثلاثين قدما ً، والتي يسمى نوعها "بغلة" في قواميس البحر ومسافن الخليج، اعتاد أن يكتب أوقاته ويحفرها على بدنها" هذا السرد ينطوي على صياغة قريبة من تبدل الكون وظهور اليابسة التي تطامن فوقها نوع من تبعه. والسيد أيضا ً حمل آنذاك رعيته واستقر بعد ترك البحر متخذا ً من اليابسة مستقرا ً لإقامة وتشييد المدينة كما تقول رواية النساء الثلاث. وما وصول النساء وانحدارهنَّ أيضا ً من "بغلة عباس" كما الجد نحو البيت القديم، سوى تناسخ مع نهاية طوفان الجد واستقراره على أرض المدينة المفترضة. ذلك لأن النساء كنَّ قد شرعن بالكشف عن المسكوت عنه من سيرتها. وما يدعم مثل هذه القراءة ما توالى من كشوفات في النص، وهي مداولات أدت إلى كشوفات ذات صيغة أسطورية غرائبية من مثل "لكن عباس ما برح أن نزل إلى الطبقة السفلية، ثم إلى خزّان بغلته، حيث رصفت مومياءات الهنود الأثرياء، ليخرج بعدها قنان صُفر أحكم إغلاقها بنوى التمر وبسدادات خشبية، فتحها وجمع ما فيها من أوراق، ثم أدخلها كلها في قنينة واحدة } وهذا ميل واضح نحو أسطرة المكوّنات في النص. ولعل شخصية "شمخت" تتناوب صورتها في النص باعتبارها الأم، وهذا تخريج لشخصية شمخت محظية المعبد السومري، التي أنسنت "إنكيدو" وقادته باتجاه مدينة أوروك. فوجودها في النص بمثابة شكل للهيبة والإجلال . لقد حاول السارد أن يعمق شخصية "شمخت" باعتبارها دالة أسطورية ذات علاقة بإنتاج حيوات الواقع والتاريخ، فقد كان سهلا ً على خصوم أمنا من النساء ومهمشي النسب، أن يضيفوا للاسم نقاطا ً ثلاثا، هذه المحاولات الجادة في تقريب النص من الحراك الأسطوري، يؤلَف عبر الشفرات وليس التفاصيل، مما دفع النص إلى استثمار وتوظيف مثل هذه المؤشرات لصالح تصعيد بنية النص معنى وشكلا ً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه فتح أفقا ً باتخاذ أساليب غير تقليدية في صياغة النص وأسطورته. فالكاتب راوح من خلال تهشيم الزمن واللعب في صياغة خصائص المكان. فهو تارة يقترب من الواقعي بما يتكئ عليه من مسميات أسطورية، وتارة أخرى يسميها لتكون من باب بنية ذاكرة النص الواسعة والشاملة. لقد حاول الكاتب في هذا الضرب من التوظيفات في الأشكال والبنيات، أن يؤسس لنصه قاعدة معرفية أسطورية. لاسيّما حين وقـّع نهاية الرواية بأسماء المدونات الثلاث "واحدية، معينة، نظمة/ 15آذار 1994" وبذلك اكتسب النص الروائي حيازة خصائص الوثيقة التي اعتمد رواتها على مكوّنات موثوق فيها، وهي وثائق الجد السيد أصغر أكبر. فسيرة المدينة من سيرته. ونعني كونه يحتمي ويحتفظ بذاكرة مدوّنة وأخرى شفاهية حفظتها ذاكرة النساء الثلاث، اللائي انقطع عندهنَّ النسل بسبب عنوستهنَّ.