ادب وفن

الصكار ينهي رحلته ويعود ليتوسد تراب العراق / حسين كركوش

عندما وصلت مبكرا صباح يوم الأثنين 24/3/2014 ودخلت غرفة الصكار في المشفى الباريسي الفاره ، كانت زوجته السيدة أم ريا الصكار قد سبقتني. ظلت واقفة في مكانها على اليمين و أنا أمامها على اليسار وبيننا الصكار ممددا على سريره يتنفس بصعوبة بالغة.
انحنت أم ريا ونادته بصوت عال: ( أبو ريا، أبو ريا: هذا حسين وصل. ابو ريا هذا حسين.)
اتسعت حدقتا عينيه وبدأ ينظر نحوي ويحرك يده اليمنى ويهمهم بكلمات لم نفهم منها شيئا. انحنيت علني أسمع وأفهم ما يقول. دون جدوى.
خؤون هو الجسد و غدار، يخذل صاحبه دون حياء. الصكار، الفصيح البليغ المتدفق إذا تحدث، يخونه لسانه فلم يعد قادرا إلا على الهمهمة !
وضعت كفي داخل راحة يده فأطبق عليها بأصابعه بكل القوة التي ما يزال يملكها كأنه يريد أن يبقيها ما استطاع. فورا تذكرت البيتين اللذين كثيرا ما كنت وإياه نرددهما في جلسات سمر لن تتكرر بعد الآن:
مسحت بكفي كفه أطلب الغنى وما كنت أدري الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغني أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي
وفي كل مرة نردد البيتين كان تعليق الصكار واحدا لا يتغير: (أي يباه أي يباه . يا أخي ما عليك بالمعنى. ركز على الصورة الشعرية، وبعدين على المعنى.)
(ركزت)، كما يريد الصكار، على الصورة الشعرية، على صورة الصكار الممددة أمامي في طريقها للأختفاء ، وشرعت أركز على المعنى.
ما معنى أن أمسح كفي بكف الصكار وهو في لحظات نزاعه مع الموت، وما معنى أن يمسك هو بيدي بكل ما تبقى عنده من قوة ؟ ماذا أطلب أنا من الصكار في هذه اللحظة وماذا يطلب الصكار مني ؟
أنا لا أطلب منه شيئا غير أن يبقى، أن لا يغادر الحياة، فأخسر تلك البهجة وتلك السعادة اللتين كنت أنعم بهما خلال ليالي الأنس معه التي تمتد أحيانا حتى الفجر.
أما (غنى) الصكار فكم تمنيت أن تصيبني عدواه، لكن هيهات. ف"لكل امرئ من دهره ما تعودا." و "عادات" الصكار كانت كل شيء ألا "الطعن في العدا". العادة الوحيدة التي لم يعتدها الصكار هي الطعن، والثانية هي حرصه على خلق المزيد من الأصدقاء وتقليل ما أمكنه من الأعداء. ومن عادات الصكار الأخرى ، أعني غناه وثروته الروحية هي، سماحته وروحه المسالمة السمحة المشرقة دائما وأبدا ، و أناقته في كل شيء، من اختياره لكأس الماء الذي يشرب به إلى انتقائه للمفردات اللغوية التي يتحدث بها، و أريحيته وخلقه الرفيع وأدبه الجم، و وحلمه وسعة صدره، وكياسته حتى مع الحمقى من الناس، وظرفه الذي لم يصل قط حد السفه والابتذال، ومروره باللغو مرور الكرام ، وقدرته على كظم الغيظ وترفعه عن صغائر الأمور، وغابة علاقاته الإنسانية الحميمة المتشابكة الأغصان بثمارها المختلفة والمتنوعة حد التنافر، وتبحره في اللغة وآدابها ومواهبه المتعددة وثقافته الموسوعية. هذا هو (غنى) الصكار الذي لا أملك منه شيئا.
إذن، ماذا يطلب مني الصكار وهو يمسك بيدي الآن ويضغط عليها بكل ما بقى له من قوة ؟
يقينا، كان الصكار يطلب الحياة، أن تصيبه (عدوى) الحياة، منا ، نحن الأحياء الواقفين أمامه.
دخلت ممرضة ومعها جهاز للتنفس الاصطناعي وبدأت تشغيله. لم يطرأ أي تحسن واستمر تنفسه يزداد صعوبة. أصبح نشيج أم ريا مسموعا ثم أصبح عويلا عندما أعلنت الممرضة الماسكة برسغ الصكار: إن أنتهى الأمر، وما من ثمة أمل.
وهي تنحب وتندب، أخرجت أم ريا تلفونها النقال وطلبت من أبنهما البكر مازن وأبنتهما ريا، اللذين لم يتغيبا يوما واحدا عن زيارة أبيهما واللذين كانا يحافظان عليه كما حدقة العين، أن يقطعا دوامهما الرسمي ويحضرا فورا. أتصلت أنا بالعزيز وثاب السعدي، كتلة الشهامة المتنقلة، وأخبرته فأخبر بدوره الصديق فخري كريم، ثم اتصلت ببغداد وأخبرت العزيز الذي يعشقه الصكار رائد فهمي وأخبرت أصدقاء أخرين في باريس.
بعد وقت قصير جدا امتلأت الغرفة وممرات الطابق في المصح الفخم، بأهل بيته وأصدقائه. جاءت موظفة وتمنت بأدب جم لو أن الحاضرين يخففون من بكائهم خوفا من إقلاق راحة المرضى في الغرف المجاورة.
تذكرت المرة الأولى، وربما الوحيدة التي بكى فيها الصكار أمامي طوال سنوات رفقتي معه. كنت وإياه في الصيف الماضي نتنزه في حديقة أحد المستشفيات الذي كان راقدا فيه. هو على كرسيه النقال وأنا أجلس أمامه. وصل الحديث بعد أن تشعب، للفراق والموت. وسمعته يردد بيتين أظنهما للوزير المهلبي:
قال لي من أحب والبين قد جد وفي مهجتي لهيب الحريق
ما الذي في الطريق تصنع بعدي قلت أبكي عليك طول الطريق
وعندما أنهى الشطر الثاني من البيت الثاني سمعته ينشج.
كم عيون ترقرقت مآقيها بالدموع وهي تسمع نبأ رحيل الصكار ؟ أظنها كثيرة.
و الآن، وقد أختصر الطريق ووصل أبو ريا الصكار إلى العراق، الذي عشقه وحمله كتعويذة في حله وترحاله، بصحبة نجله الأكبر (مازن)، الذي أصر أن يتكفل نقل جثمان أبيه على نفقته الخاصة في بادرة وفاء رائعة كأنه أراد بتنفيذها أن يجيب على قصيدة مهداة له من أبيه وسماه فيها "بهجة الأمل":
يا بهجة الأمل المسافر في المتاهات الغريبة
بك يأمن القلب الغريب ويستعيد العمر طيبه
وإذا كبت قدم فأنت مقيل عثرتها الرهيبة
وإذا نأى وطن فأنت بديل خيمته الرحيبة
يقينا أن الأبن مازن تعلم الوفاء من أبيه الصكار.
مرة، وقبل شهر من وفاة الصكار، كنت وإياه نتذاكر الأناشيد والقصائد المدرسية التي كنا ننشدها و نتلوها في مدارسنا الابتدائية ووصلنا لقصيدة (أنتم متعتم بالسؤدد) للشيخ محمد رضا الشبيبي. قال الصكار، بابتسامة أشرقت على محياه، وهو يلفظ أسم الشبيبي: " يا أخي، أسماء كهذه علينا أولا أن ننهض ونقف على أقدامنا تقديرا وتبجيلا ثم بعد ذلك نلفظ الأسم."
وفاء كهذا ليس سجية إنسانية أخلاقية فحسب، إنما هو قانون تتطور به الأمم.
عندما تتوارث أي أمة من الأمم الوفاء وترضعه صغارها ويصبح جزءا من سلوكها اليومي ومنظومتها الأخلاقية وديدنها الشاغل، وعندما ترفض أي أمة ثقافة الاستئصال وترفض إعادة كتابة تاريخها بطريقة انتقائية وفقا لمشيئة من يسوسها من الحكام، تصبح هذه الأمة راقية ومتحضرة. وآنذاك يرحل صناع الحياة من الحياة، صناعها ليس في ميدان الثقافة وحسب وإنما في كل الميادين الأخرى، هانئين إلى قبورهم.
التكريم الحقيقي للصكار ولمن رحلوا قبله ولمن سيرحلون بعده من صناع الحياة هو، أن تتذكرهم أجيالنا الناشئة وتلك التي ستولد، دون أن تتوقف عند أسماء مللهم ونحلهم وأعراقهم ومناطقهم ، وأن نقبر نحن العراقيين، مرة واحدة وللأبد، ثقافة الاستئصال حتى نحقن هذه الدماء العراقية الزكية التي تراق يوميا في كل مناطق العراق بطريقة عبثية مجانية هي الكفر بعينه.
قبل خمسة عشر عاما (1999) كتب الصكار قصيدة أهداها لصديقه العلامة اللغوي الفقيد د. إبراهيم السامرائي، جاء فيها:
يقولون ما شأن العراقي كلما تغنى يشوب الحزن نغمته رغما
وهل ملكت نفس العراقي فرجة بلا غصة دافت بسكره سما
هل ستملك نفس العراقي فرجة فتتحقق أمنية الصكار ويهتز فرحا في قبره ومعه جميع من سبقوه الذين أبدعوا وفعلوا ما في وسعهم ليحيا العراقيون سعداء ؟ دعونا نأمل.