ادب وفن

الذكرى السنوية الخمسون لرحيل بدر شاكر السياب (2-2) / جاسم المطير

عن الانقسام الشعري وبداياته
يقول كمال الجبوري، أستاذ اللغة العربية في نفس المدرسة أيضا عام 1952 أن الشعر يتسلل إلى الواقع الاجتماعي ثم ينساب كماء النهر الجاري في كل الاتجاهات، متحرراً من كل العقبات والعوائق وقد تمكن السياب أن يجسد هذا التحرر بتزامنٍ مع حالة التطور الشعري ،عالميا ، بتطلعات أوربية.
سألتُ رزوق فرج رزوق "سؤال التلميذ لأستاذه" بتحريضٍ من أحد معارضي الشعر الحر سؤالا: هل يلغي الشعر الحر شعر المتنبي وابي تمام والجواهري..؟ أو هل يستطيع منافسته..؟
قال رزوق ما معناه: الشعر هو على الدوام تاريخ. التاريخ يتغير. الناس يتغيرون. الزمان يتغير. المكان يتغير، لكن الشعر يبقى في كل الأزمان أداة التغيير وشكله وسجله. الشعر يولد بمولد المبدعين في كل آن. يمكنه أن ينافس ويرفع ويلغي. يفعل كل شيء حسب طبيعة المرحلة.
كان كل لقاء أدبي، كل ندوة، كل محاضرة، خلال تلك الأيام، مليئة بحرارة الانحياز إلى هذا أو ذاك من الاتجاهين المذكورين. تمكّن أصحاب الاتجاه الأول من تدوير الندوات التي كانت تعقد في المجالس الأدبية الخاصة وفي النوادي الرياضية والاجتماعية "نادي الاتحاد ونادي الميناء" ليظهروا أن خصائص الشعر العربي هي خصائص "ثابتة" لشيء اسمه الشعر . لا يمكن الاعتداء على تلك الخصائص بأي استنباط جديد. إنها معركة واسعة ، بين القديم والجديد، تقودها البصرة، الآن، شأنها شأن تأريخها كله.
مَنْ الفائز الأول: بغداد أم البصرة..؟ نازك الملائكة أم بدر شاكر السياب..؟ هكذا كنا نحن طلاب ثانوية البصرة نسأل.
حول الجواب على هذا السؤال كان يظهر انقسام شعري من نوع آخر. بعضهم يقول أن أول حركة في الشعر الحر كانت في بغداد عام 1947 على يد نازك الملائكة في ديوانها "عاشقة الليل" أو قصيدتها "الكوليرا" أو في ديوانها "شظايا ورماد" عام 1949 ..
معارضو هذا الرأي يقولون أن الأول هو بدر شاكر السياب في "أزهار ذابلة" وهو ديوانه المنشور عام 1947..
هذه الأولوية لم تحسم ،حتى الآن، لكن يمكن اعتبار الكسب في الشعر العربي هنا متنوعاً. فأولاًً أن الاثنين نازك وبدر قد تغلبا على قيود التفعيلة الرتيبة. وثانياً أن الاثنين أبدعا نجاحاً تاريخياً. وثالثاً أن الاثنين سجلا العلامة العظيمة في الأدب العراقي.
لا يهم بعد هذا من هو أول من رفع شأن الشعر الحر: قصيدة نازك أم ديوان بدر، رغم أننا في البصرة كنا على صواب حين كنا ننساق حتما وراء "الديوان). نصر الديوان برأينا - هو اكبر من انتصار القصيدة حتما. لقد تألقت البصرة بالجمال المعنوي الذي انبثق من أصالة الدفق الأدبي لجيكور، لأبي الخصيب، لبدر شاكر السياب ولمدينة الفراهيدي. الشيء المهم والمثير في فترة ما بعد هذا النقاش والسباق أن بدر شاكر السياب جعل الأدب العربي كله متجها نحو التقويم للشعر الحر وعلاقته مباشرة أو غير مباشرة بالشعر العالمي واتجاهاته وحركاته.
كانت مجالس البصرة الأدبية مشغولة، آنذاك، بما تحمله السياسة من عُقد كثيرة أثرت على شكل العلاقة بين الأدب والحياة ، بين الأدب والسياسة، بين الأدب والمجتمع. كان ضحايا هذه العــُقد كثيرون. كانت مشاكل الأدب والمعارك الشعرية المحتدة تزيد المنغمرين فيها أو المراقبين لها تعقيداً، فقد ظل الخوف من الكتابة مسيطرا على جيل كامل حيث التردد هو الصورة الأولى بأذهان أبنائه.
لست ادري هل كنت قد وفقتُ في التغلب على هذا التردد حين ابتعدتُ عن الحركة الأدبية و جرتني السياسة في تيارها داخل الحزب الشيوعي العراقي الذي وجدت أرومته وخلاياه ومنشوراته الأكثر نبلا فمنحته الولاء والعاطفة مثلما كان عدد كبير من أدباء البصرة وشعرائها قد بلغوا مرحلة الثورة ورفض الظلم والظلام من خلال تجارب الشيوعيين ووعيهم الفعلي.
كنت واحدا من هؤلاء. خصصتُ نبرات صوتي للتظاهرات والإضرابات الطلابية. قوة تعبيري ذهبت نحو الكتابة السرية.. حركاتي كلها كانت تحاول أن تتجاوز العلنية خشية مطاردات البوليس.
لا استطيع أن احكم على مدى نجاح كتابتي ما دامت غير معروضة أمام الجمهور. حين اكتب لم أكن اشعر باللحظة التي يتجلى في رأي الناس كما كان يشعر بها غيري. حتى حين كنت اكتب لم أكن اشعر بلذة اللحظة التي يتجلى فيها رأي القراء كما كان يشعر بها غيري من الكتاب المبتدئين. حتى حين كنت اكتب خواطري في جريدة الناس أو الرأي العام أو الزمان كنت فاقدا الإحساس بالنجاح أو الفشل لأنني كنت اكتب باسم مستعار (فتى الجنوب) في غالب الأحيان.
لكنني في كل الظروف الصعبة لم تمنعني فعالياتي السياسية، السرية والعلنية، من متابعة فعاليات الأدب في البصرة والعراق. كما كنت أتابع أيضا حركة التطور والصعوبات التي أحاطت برومانسية بدر شاكر السياب وواقعيته وتجديده وتحولاته السياسية والفكرية مما سأقدم البعض منه في مقالات قادمة.