ادب وفن

المثقف العراقي وانتخابات البرلمان / حسين كركوش

هي مجرد مصادفات حملت معها دلالاتها
انتهيت من قراءة مقال للشهيد قاسم عبد الأمير عجام أعاد نشره أخوه الأديب علي عبد الأمير عجام على صفحته في الفيسبوك، بعد أن كان قاسم قد نشره قبل سنوات في صحيفة المدى.
في المقال آنف الذكر يقول قاسم : " إن مفهوم المثقف العضوي الذي يشدد عليه أدورد سعيد نقلا عن غرامشي ، أو عملا بما رآه ليس سوى المثقف المسيس في التطبيق فعلا و تأثيرا في مجتمعه ."
بعد ذلك عدت فاستأنفت قراءة مجموعة مقالات بالفرنسية تتحدث عن موقف الشاعر آرثر رامبو إزاء كومونة باريس التي اندلعت عام 1871. لكن التلفون رن فشغلني .
كان صديق لي على الجانب الآخر. تشعب بيننا الحديث حتى وصل الانتخابات التي ستجرى نهاية هذا الشهر و سألته: هل ستشارك في الانتخابات ؟
رد ضاحكا بصخب: " شنو صاير هالأيام دلال مال قوائم انتخابية ؟ ذاك اليوم كاتب على الفيسبوك جنجلوتية عن المرشحة هيفاء الأمين و هسة تسألني انتخب لو لا. يمعود يا انتخابات ! أنت بعدك بهاي السوالف (أراد أن يقول: بعدك ساذج) ؟ ليش هو أصلا العراق بعده موجود حتى ننتخب من أجله ؟ أخي، العراق انتهى. ناس لصوص سفلة دمروا البلد و قسموه بيناتهم. يا انتخابات يا مهزلة. كل حل بعد ماكو. وترى صدكني، حتى لو الجماعة (أظنه يقصد التحالف المدني الديمقراطي) يفوزون ترى هم راح يصيرون نفس الشي. مو عشنا وياهم و جربناهم. أحسن ما مدوخ نفسك بالانتخابات و مكابل الفيسبوك ، روح اكتبلك شي بيه خير، اقرالك كتاب يسوه. انتخابات ؟ يا انتخابات هاي ؟ والله أنت بعدك من اهل الله (أراد ان يقول بعدك مغفل) . دجوز من هلسوالف. جوز عيني "
هذا الصديق الذي تحدث معي كنت أحترمه وما زلت أحترمه وسأظل أحترمه. أقول سأظل لأني على يقين أن الخيانة، بكل أصنافها وتفرعاتها، تضل الطريق عندما تتوجه نحوه. عسل مصفى. هو مثقف موسوعي ثاقب البصيرة، ومترجم حاذق وناقد باهر، وسياسي يساري يتكئ على سنوات من التجارب. خسر كثيرا وفقد كثيرا وتنازل عن الكثير، ورفض الكثير من الإغراءات، تمسكا ودفاعا عن مبادئ يعتنقها ويؤمن بها. و يبدو أن تجربته السياسية خلال السنوات الأخيرة كانت محملة بالإحباط وبالخيبة فأصبح، في آن واحد، نهلستيا عدميا، وقدريا طائعا مستسلما، ومؤمنا بنظرية المؤامرة حد التعنت. لم يعد يؤمن بجدوى أي نشاط ، ليس النشاط السياسي فحسب، وإنما أي نشاط عام. ويؤكد أن الأمور خلقت هكذا وستظل هكذا وأنها تدار وفقا لمؤامرات معدة سلفا، ولسنا نحن البشر سوى أدوات غبية تنفيذية. و بالتالي، فأن أي نشاط باطل وقبض ريح ولا فائدة ترجى منه.
وعندما أسأله: حتى و العراق يحترق، حتى وسكانه يعيشون في الجحيم ؟ يجيب ضاحكا لكن بوجع وبمرارة لا يستطيع إخفاءهما: يا أخي، الأديب والمبدع عموما أشيكدر يسوي.
اسأله: و الحل ؟ و الخلاص ؟ يجيب: الحل في الكتاب، في الابداع. أما السياسة فهي مضيعة للوقت وهراء لا طائل منه.
أقول له: أنا لا أتحدث عن السياسة كنشاط مباشر أو كانتماء حزبي أو أنتاج أدب شعاراتي سياسي حسب الطلب. أنا أقول هناك لحظات تاريخية حاسمة، مثيرة واستثنائية لا يمكن للمبدع أن يتجنب فيها السياسة. ثم أن أي نشاط أبداعي هو نشاط اجتماعي عام، في نهاية الأمر. فأي جهد ثقافي أبداعي لا يكتمل ألا بوجود ثلاثية: النتاج الثقافي وخالقه والمتلقي. و المبدع لا ينتج إلا بوجود متلق. وعندما نقول متلقي، نقول : مجتمع، ، رأي عام، تغيير الواقع .. وهذه كلها سياسة.
يقاطعني قائلا: هذا ما يريده السياسيون. هم يريدون استغلالنا.
قلت: أنا لا أتحدث عن الالتزام ولا حتى عن النشاط السياسي. أنا أتحدث عن الفعالية الإبداعية التي تحث القارئ على الفعل السياسي دون أن تذكر مفردة سياسية واحدة. لم يرد وكان حائرا.
ودعت صديقي وطبعت عبر الأثير قبلة على جبينه بعد أن قلت له ممازحا لكن صادقا: سأذهب وانتخب. عل عنادك. و كم تمنيت مع نفسي أن يمزق شرنقة عزلته السوداوية، ويأخذ زمام المبادرة كفرد حر و خلاق.
عدت و واصلت قراءة مقال عن آرثر رامبو، أكثر الشعراء تمردا وأشدهم رفضا للقيود وأصدقهم في جلد الذات وتصفيتها من الشوائب لتصبح هي القدوة والمثال (أنا الآخر) . يتحدث المقال عن موقف رامبو السياسي الملتزم إزاء كومونة باريس بعد اندلاعها سنة 1871.
المقال بالفرنسية و عنوانه (آرثر رامبو، شاعر في رحاب الكومونة) بقلم كاتب فرنسي أسمه أرك سيمون، وهو واحد من مقالات كثيرة تحدثت عن هذا الجانب من حياة رامبو.
أرك سيمون قدم مقاله المذكور باستشهاد اقتبسه من رينيه شار يقول فيه: " الشاب رامبو كان شاعرا ثوريا معاصرا لكومونة باريس ."
أما سيمون نفسه فيبدأ مقاله كالتالي: " منذ زمن طويل وأنا أسأل نفسي : لماذا لا يتوقف غالبية كتاب سيرة رامبو الشخصية عند الدور الجوهري لكومونة باريس سنة 1871 في مسار رامبو ."
سيمون يقول إن سؤاله هذا " جماليا إبداعيا وسياسيا في آن معا ." ويعيب سيمون على الكثير من كتاب سيرة رامبو إلحاحهم على تقديم صورة أحادية لرامبو ويقول: (توجد رغبة عندهم في تقديم أو تصوير رامبو كمراهق متمرد، بخلفية سيكولوجية تحيطها ضبابية متعمدة، يتجنبون عبرها تقديم هذا الشاعر المتمرد بأي طريقة اخرى سوى كونه يجسد قطيعة مع جميع الأصوليات السائدة في زمنه، لصالح عبقرية شعرية فريدة من نوعها، بل وخارجة عن نطاق المألوف."
سيمون يرى أن مواجهة نصوص رامبو بطريقة صبورة ومتأنية تقودنا إلى اكتشاف عمق آخر." وفي ما يتعلق بموقف رامبو إزاء كومونة باريس يقول الكاتب : (بالتأكيد، أن رامبو لم يشارك في كومونة باريس و لكنه عند اندلاعها كان يهتز متأثرا جدا بإيقاعها و صخبها و تضحياتها. لقد فهم رامبو، خصوصا، ماذا كان يدور في تلك اللحظة وماذا كانت تمثله تلك الثورة الحديثة على جميع الأصعدة، وتحديدا طابعها المتحرر البروليتاري. وما خلقته من وعي تحرري ذي رؤيا كونية .)
سيمون يستشهد بقصائد لرامبو منها قصيدته (نشيد الحرب الباريسي Chant de guerre parisien) و قصائد أخرى عن كومونة باريس. والكاتب محق فيما يقول. فقد تحمس رامبو للكومونة لحظة اندلاعها، وطفق يتابع أخبارها من مدينته شارلفيل عبر الصحف. ورغم قصر فترة بقائه في باريس خلال أيام الكومونة، ألا أن بعض الذين كتبوا عنه يعتقدون أنه ربما ساهم ضمن المجموعات القتالية لرجال الكومونة. أما شعره عن الكومونة فهو دفاع سياسي حماسي عنها وشتم مقذع لأعدائها.
(نشيد الحرب الباريسي) قصيدة سياسية مباشرة، وهي هجاء سياسي خالص وقاس ضد أركان الحكم الذين قمعوا الكومونة وسفكوا دماء المشاركين فيها وانقضوا عليها خلال ما بات يعرف (الأسبوع الدامي) عندما اجتاح أعداء الكومونة الفرساويون (نسبة لقصر فرساي، ويُقصد بهم أتباع الملكية والبرجوازيون من رجال الأعمال والمحافظين المحليين و المؤيدين لتوقيع صلح عاجل مع ألمانيا وقتذاك) مدينة باريس و قُتل نحو عشرين ألف شخص. في هذه القصيدة يذكر رامبو أسماء أركان الحكم واحدا واحدا : رئيس الوزراء، وزير الداخلية، وزير الخارجية. القصيدة وثيقة شعرية واقعية لمشاهد العنف و العنف المضاد الذي مارسه رجال الكومونة ، ونسائها على وجه الخصوص. يطري رامبو في قصيدته على الدور الذي لعبته (Pétroleuses) أو النساء (النضاحات) إذا صحت ترجمتي، وهن نساء الكومونة اللواتي أوكلت لهن مهمة إلقاء قنابل بترولية لإعاقة تقدم مهاجمي أعداء الكومونة عندما اقتحموا باريس.
وفي قصيدتي (يدا ماري - جان Les mains de Marie -Jeanne) و (لوحة ليلية مبتذلة Nocturne vulgaire) يشير رامبو إلى العمليات القتالية التي كان رجال الكومونة ينفذونها وهم يتنقلون سرا من بيت لبيت عبر فتحات يقيمونها في جدران البيوت. ويذكر رامبو رعب الباريسيات وهن يشاهدن مدافع أعداء الكومونة تجرها الخيول " عبر باريس الثائرة ". كذلك في قصيدته (العربدة الباريسية Lorgie parisienne) يوجه رامبو شتائمه ضد " الأنذال الشرسين السفلسيين المجانين الملوك المهرجين أصحاب الكروش) و هم يجعلون من باريس (عاهرة) لهم.
قصائد رامبو عن كومونة باريس وما يذكره النقاد ومؤرخو الأدب عن مواقف رامبو في تلك الأيام تشير كلها إلى أن هناك لحظات تاريخية استثنائية حاسمة في حياة الأمم لا مجال فيها لحياد المبدع، مهما كان متمردا وفوضويا وعبثيا. ولا مكان فيها للقاعدين المتفرجين. في لحظات تاريخية كهذه لا بد أن يصبح المبدع (مسيسا) .
الكومونة وأوضاع فرنسا، رغم أهميتها التاريخية وقتذاك، لا تعادل شعرة مما يحدث في العراق هذه الأيام . العراق كله على كف عفريت، وليس مجرد طبقة اجتماعية بعينها.
و إذا تحدثت عن الانتخابات لأنني بدأت بها فأني أقول: قد لا تتغير الأمور أن شارك المثقف العراقي فيها أو لم يشارك. وهل غيرت في الأمر شيئا قصائد ومواقف رامبو إزاء الكومونة. لكنها مواقف الضمير ومبادئه، وموقف اتخاذ الخيار في المنعطفات التاريخية الحاسمة و اليقظة إزاء المستجدات.
في عام 1871، عام الكومونة كتب رامبو رسالة لبول ديمني قال فيها: " مواجهة ما يخبئه المجهول تتطلب أشكالاً جديدة ." بالطبع هو يعني أشكالاً جديدة في الأدب وفي الحياة.
وما يفرضه الواقع وما يخبئه المجهول العراقي يتطلب من المثقف العراقي أساليب وأشكالاً جديدة.