ادب وفن

«الطيور الصفراء».. رواية أميركية عن غزو العراق (1-2)/ حسين كركوش

عن المؤلفقبل نهاية عام 2012 أصدر شاب أميركي في الثانية والثلاثين من عمره، مغمور وغير معروف للأوساط الثقافية لا في العالم ولا حتى في بلاده، أسمه كيفين باورز أول رواية يكتبها في حياته عنوانها "الطيور الصفراء"، موضوعها الحرب الأميركية على العراق عام 2003، كتبها من وحي مشاركته الفعلية كجندي أميركي في قضاء تلعفر في محافظة نينوى.

قصة بسيطة وموهبة كبيرة

قصة الرواية، كمادة خام، بسيطة جدا وعادية جدا وشائعة كثيرة الحدوث، وهي مكثفة ومختصرة حد التقتير، وبالإمكان تلخيصها كالأتي: جندي في الحادية والعشرين اسمه "جون بارتل" يذهب للحرب، ومن بين الذاهبين معه جندي أصغر منه سنا، في الثامنة عشرة، أسمه "ميرفي"، ولأن بارتل أكبر سنا فأن والدة ميرفي تتوسله والدموع في عينيها أن يبذل كل ما بمقدوره للحفاظ على سلامة ابنها الوحيد وأن يعيده لها سالما، يتعهد لها بارتل بأنه سيفعل ما بوسعه وسينفذ وصيتها، لكن بارتل يفشل إذ يُقتل زميله في الحرب وتبتلعه مياه دجلة كما ابتلعت مياه البحر النبي يونس. يشعر بارتل بندم عظيم وبتأنيب ضمير، ويتحول مقتل زميله وصديقه كابوسا يحول حياته جحيما. هذه القصة العادية والبسيطة تتحول، بفضل موهبة باورز على صعيد التقنية الروائية واللغة المستخدمة، بمفرداتها وجملها المشحونة، في آن واحد، بالأفكار والأسى والشاعرية، وبفضل الصدق الفني والإنساني، ومنظومة الأفكار الإنسانية التي يهتدي بها، تتحول إلى رواية حصدت جوائز أدبية مهمة حتى قبل أن تمر سنة واحدة على نشرها. فقد حصلت على جائزة صحيفة الغارديان لعام 2012 و وصلت ضمن القائمة الأخيرة في الروايات المرشحة للفوز بجائزة الكتاب الوطني الأميركي لعام 2012، وحصلت على جائزة صحيفة لوموند الفرنسية لأفضل رواية أجنبية لعام 2012، وتمت ترجمتها للفرنسية، وحصلت على جائزة مؤسسة همنغواي لعام 2013، وحصلت مناصفة على جائزة ( Anisfield-Wolf Book) في دورتها الثامنة والسبعين، ونالت جائزة الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب لعام 2013 التي تمنح لأول رواية يكتبها صاحبها، وحصدت جائزة صحيفة نيويورك تايمز ضمن أفضل عشر روايات لعام 2012. وعلى صعيد التعريف بالرواية لم يبق ربما محرر واحد من بين محرري الصفحات الأدبية في كبريات الصحف الأميركية والانجليزية والفرنسية ألا وكتب عنها بإعجاب كبير.

خنادق الحرب العالمية الأولى وسهول نينوى

رواية "الطيور الصفراء" تسجيل لأحداث ووقائع يومية عاشها المؤلف شخصيا أثناء خدمته الفعلية كجندي بسيط مع قوات الاحتلال الأميركية في "مدينة تلعفر" في محافظة نينوى خلال 2004-2005. لكن الرواية ليست تسجيلية بالكامل وليست سيرة ذاتية طبق الأصل، إنما هي عمل سردي يمزج بين أحداث وشخصيات متخيلة ( fictional) وبين شخصيات حقيقية عايشها المؤلف ووقائع حقيقية حدثت بالفعل وعاشها شخصيا. وبفضل موهبة روائية تتميز، من جهة، بالتفرد، ومن جهة أخرى تتكئ، على ما يظهر، على قراءات واسعة ومعمقة للروائع الحربية الكلاسيكية شعرا ونثرا، فأن مؤلف "الطيور الصفراء" حول الوقائع اليومية "العراقية" إلى تحفة فنية غابت والتقت فيها، في آن واحد، الحدود الجغرافية، وغاب فيها والتقى تاريخ البشرية. فهناك وقائع وأفكار في "الطيور الصفراء" يكتشف القارئ، أنه استعان بذاكرته الأدبية، وأنه كان قد أطلع على ما يشابهها، وأحيانا تقريبا حرفيا، في مؤلفات نثرية وشعرية عن حروب سابقة، وخصوصا الحرب العالمية الأولى. فالقارئ لرواية الطيور الصفراء لا يمكن ألا أن يستعيد قصائد شعراء الحرب العالمية الأولى الانكليز الذين شاركوا فعليا، مثل مؤلف الرواية باورز، في الحرب وبعض منهم قُتل داخل الخنادق وعثروا في جيبه على مسودات قصائد كان قد كتبها قبل لحظات من موته: شارلس سورلي، ولفريد أوين، ربرت بروك، روبرت كريفس، سيغفريد ساسون، ساسون شاعر بريطاني من أصل عراقي، ويعد واحدا من أعظم شعراء الحرب العالمية الأولى، اسحق روزنبرغ، المشتركات كثيرة بين قصائد هؤلاء الشعراء، وخصوصا قصائد شارلس سورلي وبين الطيور الصفراء في القاموس اللغوي، والأفكار، و النزعة المسالمة، والنأي بالنفس عن أفعال السلطة السياسية ووضع حد فاصل بين "نحن" الضحايا و "هم" الجلادون، وفي الشعور بالخديعة. أما قصيدة بابلو نيرودا عن الحرب الأهلية الأسبانية، التي يردد فيها "تعالوا شاهدوا الدم في الشوارع" فأن أجواءها، بل حتى مفرداتها حاضرة على صفحات الطيور الصفراء، حيث "الدماء تسيل في الشوارع قبل أن تبتلعها البالوعات.

"كل شيء هادئ على الجبهة" العراقية.

وفي السرد الروائي تكاد الطيور الصفراء أن تكون، في أفكارها ومعالجتها لموضوع الحرب، نسخة من رواية أرك ماريا ريماك "كل شيء هادئ في الجبهة الغربية" عن الحرب العالمية الأولى، في ما يخص التقاط العابر واليومي في حياة الجنود خلال الحرب، وفي الموقف المسالم للكاتبين وإدانة الحروب بعيدا عن أي التزام سياسي شعاراتي دوغمائي، وكذلك تقترب كثيرا من رواية الفرنسي هنري باربوس "الجحيم" الصادرة سنة 1916 عن الحرب العالمية الأولى، أيضا. قال ريماك مرة ردا على سر عظمة روايته: "لا توجد أسرار ولا ألغاز، كل ما فعلته هو أني نقلت ما عشته مع زملائي الجنود من أحداث يومية على الجبهة الغربية." وهذا ما فعله مؤلف الطيور الصفراء. يقول باورز: بعد انتهاء خدمتي العسكرية في العراق وعودتي لأميركا كان الأصدقاء والناس الذين التقيتهم دائما يسألونني: حدثنا كيف كانت الحرب هناك، فلا أعرف بماذا أجيبهم، وروايتي هذه كتبتها لتصبح ردا أمينا وصادقا على أسئلتهم.
أما رواية "الجحيم" فالمشتركات كثيرة بينها وبين "الطيور الصفراء، وبالإمكان تلخيصها برفض الحرب باعتبارها فعلاً خسيساً، بالضرورة، يخطط له الكبار "القادة" ويكتوي بحريقه الصغار "الناس البسطاء"، وأنها لجريمة أن يتحدث بسطاء الجنود المشاركين عن جوانب ايجابية للحروب. صحيح، أننا لا نجد في "الطيور الصفراء" تلك النزعة "الاشتراكية" الملتزمة لمؤلف "الجحيم"، المتمثلة في الانحدار الطبقي العمالي لمعظم الجنود في روايته، لكن الروايتين تتطابقان تماما في تقديمهما الجنود كخيول معصوبة العيون تدور لتحرك طاحونة غيرها، وليس طاحونة مصالحها، لأن "الشعوب ليست هي التي تقرر، إنما السادة هم الذين يقررون" كما يقول باربوس في روايته، وما الجنود المشاركون إلا "خيول مذعورة" تحولهم الحرب إلى مجرمين رغم أنوفهم، كما يقول باورز في روايته. والرواية الحربية الأخرى التي ترد لذهن القارئ هي رائعة ستيفن كرين الروائية ( شارة الشجاعة الحمراء سنة 1895 عن الحرب الأهلية الأميركية، خصوصا في ما يتعلق بثيمة المحارب الذي يلتحق بالحرب وهو غرير ساذج ومتهور ويخرج منها وقد صقلته وأنضجته تجارب الحرب. وكذلك إزاء موقف الكاتبين من "الطبيعة" باعتبارها نفيا للنفي، أو التناقض بين الطبيعة كرمز للنماء والحياة، والحرب باعتبارها رمزا للموت والفناء.
عنوان بطولي لرواية بدون أبطال
عنوان الرواية التقطه باورز من نشيد عسكري كان الجنود الأميركيون فيما مضى يرددونه أثناء التدريب، تقول كلماته: "طير أصفر/ بمنقار أصفر/ حط على حافة نافذتي/ بقطعة خبز أغويته/ دخل وهشمت/ جمجمته الحقيرة... "هذه الجملة وما يرد في السطور اللاحقة هي ترجمتنا الخاصة واعتمدنا في قراءتنا للرواية على النسخة الإنكليزية في طبعتها الثانية الصادرة عن دار SCEPTRE عام 2012" هذا النشيد العسكري "البطولي" الذي اختار منه باورز مفردتين عنوانا لروايته وثًبت أبياته كاملة في صفحة خاصة منفصلة كمقدمة للرواية، يحتوي على مفارقة صادمة وساخرة، إذا قورن بمحتوى الرواية. لأن ادعاءات البطولة في النشيد العسكري المذكور لا وجود لها في الرواية. المفارقة نعثر عليها بسهولة منذ السطر الأول الذي يبدأ هكذا:" الحرب حاولت قتلنا في الربيع. وهي الصفحة الأولى" ثم، وعلى امتداد الصفحات التالية من الرواية نكون ليس أمام "أبطال" أميركيين، إنما أمام "خراف" صغيرة السن مُعَدة للذبح، تعرف أنها ستُذبَح، لكن لا تعرف متى. ثيمة البطل "اللا بطل"، التي نجدها تلميحا في الصفحة الأولى، أي الشخص المجرد من كل صفات البطولة كالشهرة والمجد الشخصي والقوة والعظمة والإصرار والقدرة على الإقناع والشجاعة والحكمة والذكاء الاستثنائي والجاذبية الساحرة، تصبح تصريحا واعترافا كلما واصلنا قراءة الصفحات التالية وصولا إلى نهاية الرواية.
يقول بارتل "بطل" الرواية:"أنا لست بطلا. أنا محظوظ لأني لم أقتل في الحرب وما أزال على قيد الحياة. وكنت مستعدا أن أفعل أي شيء لأظل على قيد الحياة. هكذا كان جبني وتخاذلي، أنا أشعر بارتباكات لا حصر لها. كنت قبل كل معركة أخوضها "في العراق" أشعر بأن ساقي لا تحملاني وأطراف أصابعي تكون قد تيبست. كنت ارتعد خوفا "في أحدى المعارك" وعيناي بللهما الدمع من شدة البكاء وتبولت على نفسي.. ولشدة خوفي اخريت داخل سروالي"، إن القارئ يشعر وهو يتقدم في قراءة "الطيور الصفراء" أن مؤلفها كتبها بانفعال صادق لرجل مخدوع، وبوجع الجندي البسيط، الجندي المغفل، الجندي البيدق، الجندي النفاية، الجندي الرقم، الجندي المتألم الذي يأكل العصي وهي تلهب ظهره، لا براحة الجنرال الذي يعد العصي متفرجا على شاشات التلفزيونات. باورز يكتب بألم الجريح الخائب المخيب، النازف أبدا والخارج توا، بفضل الصدفة وحدها أو الحظ، من محرقة رهيبة، ولكنه كتبها بذهنية المؤلف المحايد.

تلعفر: المبتدى والمنتهى

الرواية صفحة من القياس المتوسط تتألف من أحد عشر فصلا. الأول عنوانه "أيلول 2004 مدينة تلعفر، محافظة نينوى، العراق". والزمن في الفصل الأخير هو نيسان 2009 في معسكر أو قاعدة فورت كنوكس العسكرية في ولاية كنتيكي الأميركية. الفصل الأول بالغ الأهمية لأن المؤلف يشرع في بناء "هيكل عمارته" الروائية وينتهي من تشييده في هذا الفصل. في هذا الفصل الأول نكون أمام جميع العناصر المستخدمة في المعمار الروائي: الراوي بارتل وصديقه ميرفي والعريف سترلنغ وهو أحد الشخصيات المهمة في الرواية. نجد أيضا القطيعة الفاصلة بين القوات الأميركية، من جهة، وبين العراقيين من جهة أخرى وانعدام أي تواصل بين الطرفين، اللهم ألا بطريقة ملتوية سرية، تجسدها شخصية المترجم "مالك" "الملثم" أبدا خوفا أن يُعرف، لكنه مع ذلك يُقتل، وتجسدها أيضا المفردات العراقية القليلة الثلاث التي تعلمها بارتل من مالك:"شكرا، عفوا، قنبلة". سنتعرف كذلك على الفرق بين بساطة الجنود الأميركيين وبين عجرفة وتنمر قادتهم. سنتأكد كذلك في هذا الفصل من حيادية الرواي بارتل، فهو لا "يبيع" قيماً ولا يصدر أحكاما إنما ينقل الأمور كما يراها. سيقدم المؤلف للقارئ في هذا الفصل لوحات بانورامية هي أشبه بمسح سوسيولوجي خاطف للمجتمع العراقي. كذلك يزود القراء بإشارات لجغرافية العراق عن طريق ذكر بعض مدنه "تلعفر، سامراء، بعقوبة". سنشاهد منارات المساجد التي لم يعُد يرفع في بعضها "الآذان" بسبب خلو الأماكن من سكانها وهروبهم بفعل العمليات القتالية. سنتعرف على الحياة العراقية الوديعة المسالمة قبل أن يحولها الوجود العسكري الأميركي إلى جحيم. سنشاهد الطبيعة العراقية الخلابة قبل أن تتحول بساتينها إلى حرائق تشتعل فيها ألسنة اللهب. سنلاحظ انطفاء بهجة العراقيين البسطاء وانتشار جثث من قُتل منهم برصاص القوات الأميركية في الأزقة، بما في ذلك الناس الأبرياء من كبار السن الذين لا حول لهم ولا قوة. سنرى طوابير المشردين العراقيين من ديارهم. "الحياة في تلعفر كانت هذه الأشياء كلها". وتلعفر في الرواية هي عينة ميكروسكوبية للعراق كله زمن الاحتلال"، عراقيون مذعورون لا يجرؤون على رفع عيونهم والنظر إلى ما حولهم خلال ساعات منع التجول. كانوا يشكلون وهم يسيرون خطا ملطخا بالألوان وسط الظلمة وهم يغادرون. في هذا الفصل كذلك سنتعرف على شخصية "بارتل" الوديع المسالم، وكيف تورط بقتل إنسان "عراقي" لأول مرة. نتعرف على مشاعره الإنسانية وتعاطفه " حشوا.الصامت" مع ضحايا العنف الأميركي.