ادب وفن

إنتفاضة الاهوار في رواية أحمد خلف «الحلم العظيم» / عبد العزيز لازم


تشكل الأحداث العظيمة بؤر جذب كبرى للمبدعين كي يدققوا في مدلولاتها ويطلقوا ايحاءاتها البعيدة. وقد دأب الروائي أحمد خلف على أن يكون مدققا في حيثيات التأريخ ومجتهدا في اشتغالاته على المادة التاريخية لغرض استنباط الدروس وانماط الحكمة من بين ثناياها. لكنه لا يعتبر نفسه مؤرخا يعتمد التقرير المباشر بل فنانا يسجل قلب الأحدات انطلاقا من مظاهرها، بل انه يتسلح بالحذر الشديد من إمكانية أن تكون هذه المظاهر خادعة ومظللة فيكون سلاحه في هذه الحالة إخضاعها للمجهر السردي، يقلبها من جوانبها المتعددة ليقف على جوهرها الحر بعيدا عن شوائب الزيف والادعاء.
لذلك نراه في رواية "الحلم العظيم" لا يتناول الأحداث حول انتفاضة الاهوار في الجنوب منقولة عن غيره أو مقروءة في كتاب أو تقرير بل هو يطرحها كشاهد عيان ضمن سياق فني سردي في رداء موضوعي محايد رغم انه ينتسب تاريخيا الى اليسار العراقي ويجاهر في ذلك. تتكون الكتلة السردية المبثاثة من شلة من الاصدقاء يجمعها اليسار العراقي لكنها لا تلتئم في تيار سياسي واحد بل أن الاختلافات قد تصل الى حد التنافر في بعض المواقف وهذا هو الانعكاس الموضوعي لظروف ستينيات القرن العشرين ونهايتها بخاصة، أي الظروف التي أفرزت أسبابا انطلقت بفعلها انتفاضات مسلحة ضد الطغمة الحاكمة آنذاك. رغم ذلك لم يكن من بين القوى السياسية المتصارعة غير الشيوعيين مؤهلة لقيادة تلك الانتفاضات لأنهم معنيون قبل غيرهم بالتغيير لصالح جماهير الشعب المسحوقة. كما أن الاستهداف الإجرامي من قبل قوى التخلف والرجعية الحاكمة وغير الحاكمة كان موجها وبشكل مركّز ضدهم باعتبارهم العصب الذي يحرّك طموح الشعب المظلوم في بناء نظام العدالة الاجتماعية.
تتألف الشلة التي كونت الهيكل الرئيس للرواية من جواد الحمراني وجلال كريم والمؤلف ومحمود عبد العال والولد الفلسطيني وهناك بطبيعة الحال عناصر نسويه تساعد في تحريك حكايات ثانوية تصب في مهمة تحديد هوية الشخصيات وتعكس طبيعة ميولها وتساهم في تقديم الشخصيات الى المتلقي لكنها تقع خارج الهويات السياسية التي تمثلها الشخصيات الرئيسة المكونة للشلّة. تقدم الرواية كشفا متواصلا مفعما بالحركة لطبيعة الوضع السياسي عالية الحساسية. لكنها لا تقدم ذلك من خلال التقرير بل من خلال الحوارات وحركة الشخصيات والمشاهد السردية.
شهدت نهاية ستينيات القرن المنصرم ذروة المقاومة الجماهيرية وتصاعدت رغبة القوى السياسية في تحقيق التغيير السياسي، وكان البعث يشدد من تآمره على السلطة العارفية القائمة آنذاك واضعا في صلب مخططاته اعاقة نشاط الحزب الشيوعي الهادف الى تحقيق التغيير عن طريق قيادة الجماهير. لكن ما أن حل عام 1967-1968 حتى تمكنت مجموعة من المناضلين الشيوعيين المؤمنة بالكفاح المسلح من تأسيس وجودها الكفاحي في مناطق الاهوار خاصة اهوار الناصرية. باشرت تلك المجموعة عملياتها المسلحة بالاستناد الى تأييد مجاميع من الفلاحين في المنطقة وتمكنت من تصعيد صدى عملياتها في اوساط المثقفين في العاصمة بغداد وغيرها من المدن. إنشغلت الشلة الخماسية في صميم الأحداث ومدلولاتها ورغم انشغال معظمهم بالدراسة الا ان همهم الأول وموضوع حواراتهم كانت الانتفاضة التي بدأت تستقبل مناضلين جاءوا من خارج البلاد أولهم الشهيد خالد أحمد زكي الذي ترك مركزه المميز في لندن باعتباره مساعدا للفيلسوف البريطاني بيرت راند رسل. وقد ورد اسمه الصريح في الرواية من خلال حوار بين جواد الحمراني الذي التحق بالانتفاضة وشخصية "المؤلف".
إن جواد الحمراني هو الاسم السردي لأحد قادة الانتفاضة المسلحة الذي لا زال حيا يرزق لكنه لم يتمكن من الاستمرار في عمله النضالي بسبب فقدان القدرة على مقاومة اشكال القمع التي تعرض لها من قبل الأجهزة الأمنية التي القت القبض عليه في هجوم واسع على قاعدته، وهو صديق شخصي "للمؤلف" المتردد المنقسم على نفسه بين حلمه في الالتحاق بالانتفاضة وبين إنشغاله بتأليف القصص ومعالجة ورطته الخاصة بعد مساهمته بقتل زوج عشيقته بتحريض منها طمعا بمال مفترض كان يكتنزه المغدور، إلا انه لم يحصل على المال بل راح يعيش خيبته واحباطاته، فما كان منه الا أن يواصل ارتكاب الخيبات بالسعي لمعاشرة نساء من عائلة صديقه الحميم الآخر المناضل جلال كريم الذي اختفى بسبب التحاقه في صفوف المناضلين في الكفاح المسلح في اهوار الناصرية. إن الرواية تقدم شخصيات غير مؤهلة ذاتيا للمساهمة في عمل كفاحي كالذي قامت به مجموعة ثوار الانتفاضة، مثل شخصية "المؤلف" لاشتغاله بأمور ذاتية لا علاقة لها بقضايا الشعب الكبرى، رغم إن علاقته الصداقية مع جواد الحمراني فرضت عليه مساعدة الثوار في إخفاء حقيبة اسلحة تعود لهم في منزل والده رغم حساسية الظروف والمخاطر التي كانت تواجهه وتواجه عائلته.
إن شخصية "المؤلف"ٍ تناظر شخصية راسكولينكوف في رواية الجريمة والعقاب للكاتب الروسي ديستويوفسكي لذلك فان تفكيره وهمومه لا تتعدى حدود التعاطف مع الفقراء والمحتاجين ومساعدة أفراد عائلته لكنه يقيم حسابات عديدة للمخاطر التي يمكن ان تناله فيما إذا تعدى تلك الحدود. بينما قدمت الرواية شخصيات لمناضلين مستعدين لحسم امرهم دون شروط ودون حساب لتلك المخاطر الممكنة على حياتهم فقد جاء خالد أحمد زكي من لندن ليساهم في حرب الكفاح المسلح واهبا حياته بكرم فائق من أجل قضية شعبه الكبرى ومن اجل قضية التقدم والعدالة. لذلك كان "المؤلف" يستغرب من وجود مجموعة من المناضلين في دنيا يعتبرها غريبة عنهم هي عالم الاهوار ويعتقد انهم مجموعة من الرومانسيين الحالمين بالمدن المثالية والمدن الفاضلة وكانوا مُلهَمين بمثالهم جيفارا، ففي حوار بين جواد الحمراني والمؤلف يقول الحمراني:
-" .. سوف اقدمك الى شخصية عالمية ، تقود مجموعة الكفاح المسلح
- حمراني، لابد انك تحلم.
- هل تعرف خالد احمد زكي؟
- ليس الاسم غريبا على ذاكرتي.
- إنه احد مساعدي الفيلسوف البريطاني برتراند رسل.
ضحك المؤلف من اعماقه _ وما الذي سيفعله في الأهوار؟"
هنا تطرح الرواية إشكالية العلاقة بين الثوار وبين البيئة البشرية التي يعملون في وسطها ومن أجل ناسها، ففي كثير من الأحيان وكما حدث مع جيفارا في بوليفيا يتعاون العديد من الفلاحين مع اجهزة السلطة للقضاء على تلك المجاميع التي تناضل من أجلهم، لأن هؤلاء الفلاحين لم يتوصلوا الى استيعاب الرسالة التي يعمل من أجلها المناضلون.
أما المجموعة الخماسية في الرواية فقد انقسمت على نفسها في الموقف من الحركة المسلحة في الأهوار، بل كان هناك بعض الشيوعيين من الشلة من لم يقتنع بأهمية الكفاح المسلح وقد مثّل هؤلاء في الرواية شخصية محمود عبد العال الرومانسي الذي يهوى الشعر ولم يكن رومانسيا في السياسة فلم يدعم مناضلي الاهوار باي شكل من الاشكال رغم انتسابه للحزب الشيوعي. ومما يثير استغراب "المؤلف" ان هؤلاء المناضلين لا يتكلمون لغة موحدة رغم انهم متفقون على اهمية مقاومة السلطة الرجعية ومتفقون على اهمية تخليص الكادحين من الاستغلال والظلم الاقتصادي والاجتماعي وهي اهداف الحزب العامة، بل ان الانقسام وصل الى صفوف المقاتلين المسلحين في الاهوار انفسهم. ففي حوار بين "المؤلف" والقيادي في الانتفاضة المسلحة جواد الحمراني، يوضح الأخير أن المقاتلين انقسموا الى فصائل حين سأله عن مصير صديقه الحميم "جلال كريم" موضحا ان جلالا يعمل مع رفيق قديم اسمه أمين خيون ولا يعرف أين مكانه وتطور النقاش الى مسألة الانشقاق في صفوف الحزب الذي يعتبره "المؤلف" طريقا لتمزيقه، بينما يراه الحمراني "دليل صحة لتجديد الحزب".
ومن الصعوبات التي واجهت المناضلين في الاهوار هي تأمين العتاد اللازم للأسلحة التي غنموها من هجماتهم على مراكز الشرطة حيث تعتمد طريقة عملهم كما جاء على لسان الحمراني على الحصول على السلاح عن طريق مهاجمة تلك المراكز، وكانت الهجمات ناجحة حيث تم الاستيلاء على بعض الأسلحة الخفيفة كالبنادق والمسدسات. لكن ضرورة تأمين العتاد على الدوام اجبرتهم على التفكير في تأمينه من اماكن أخرى لكي يكونوا قادرين على تجهيز القادمين الجدد بالسلاح وتوسيع نطاق العمليات. لذلك كانوا يبعثون عددا منهم الى المدينة ومنهم الحمراني لتأمين العتاد والسلاح الخفيف ايضا من السوق السوداء وهي مهمة بالغة الخطورة في ظل المراقبة الشديدة من قبل أجهزة الأمن والاستخبارات. وقد واجه " المؤلف" هذا الوضع حين طلب منه الحمراني إخفاء حقيبة السلاح في منزله مع اهله وكان لدى "المؤلف" اخ ينتمي الى حزب البعث وكان من الحاقدين على الشيوعيين، وهو عسكري ينتظر الفرصة كي تقوم جماعته في تغيير النظام لكنه يضع الشيوعيين في قمة أعدائه. رغم ذلك استطاع "المؤلف" تجاوز المشكلة واعاد الحقيبة الى الحمراني بعد إخفائها لبضعة أيام. وفي حديث شخصي مع كاتب الرواية أحمد خلف إن شخصية المؤلف تمثله في الواقع وإن الحوادث المتعلقة بالكفاح المسلح وموقف الشخصيات والحوارات حوله كانت حدثت بالفعل.
واخيرا استسلم الحمراني بعد ان هوجم الثوار في قواعدهم وانهار امام اجهزة القمع بينما حافظ جلال كريم على موقفه النضالي ولا زال الإثنان يعيشان في مكانين مختلفين . اما صاحب الريل وحمد " مظفر النواب "الذي قُدّم في الرواية كأستاذ للغة العربية فلم يمنعه من الالتحاق في صفوف المقاتلين سوى وجوده في سجن الحلة . لكن معنى الانتفاضة ودروسها بقيت متأججة في عقول المناضلين والناس وقد استلهمها الانصار في كردستان في نضالهم اللاحق ضد ذات القوى الدكتاتورية التي نهض الثوار الاوائل من اجل ازاحة كابوسهم عن حياة الشعب. إن هذه السلسلة من أعمال الكفاح المسلح من قبل الشيوعيين تؤشر استعدادهم على ممارسة كافة اشكال النضال العنيد بما فيها العمل المسلح ضد اعداء الشعب والوطن فضلا عن النضال السياسي والعمل المدني الجماهيري.