ادب وفن

التاريخ الشعري لمدينة الكوت بعيون الآثاري حميد حسن جعفر / محمد رشيد السعيدي

هذي بلادي.. هذي أصابع أجدادي.. هذي بقاياهم الحاضرة في أفق الأسئلة.. مازلت ترعاني يافعا أرعاها وليدة حبي وانتظاري، وشغفي بآتٍ محمل بألف احتمال. سأستعير لغته.. متطاولا، فقد اقتحم تاريخي وبنيتي الأولى. أفق نصه الذي يعاني من انفتاح مزمن، يمنحني حرية التنقل، والتأمل. ويفتح في ذاكرتي ألف باب، على أحزان القلب، وآمال الحروف، وشعرية الذات.
كرنفاله اللغوي هذا السردي التاريخي "بلاد الكوتشينة/ نص في المهمل"، شاهد مبتسر، على أهمية اختياره رديفا للمتنبي، في نسخته العاشرة. فتواصله، منذ انقطاعه الشاسع، يقطّع أنفاس متتبعيه. وكتبه التي يتجاوز عددها العشرين، تنافس - في حاجتها المالية - حاجات أمراض الزمن القاسية على جسده المثمر. تتعدد أنواعا: من الشعر، رفيق العمر والقلب والهوى، الى السرد، حاجات عصر القارئ وثورة الاتصالات، الى النقد: بنصوصه المبعثرة بين الصحف والمجلات ومواقع الانترنيت، وحاسوبه الشخصي، وجبل أوراقه. هذا الاهتمام هو شغله الحياتي، بحثا عن الشكل في الشكل، وصراعا مع اللغة في تجلياتها الصورية والكلامية، فإن ضاقت الفصحى يستعين بالمحكية في ألفاظ معدودة، منها "عصفورية"، و"قزلة"؛ فيفصِّحُها، اعتمادا على قاموس ذاتي ثر، كان النص محتاجا اليه في هامش توضيحي لدلالاتها المحلية. ثباته، في نصوصه الساردة لتاريخ الروح، وانتصاره على الموت المتجلي بأكثر من صورة، يوثق شعره كثيرا منها، أولها موت المعنى. ولعه بالحياة مع الانسان، إذ يتتبع مساراته، راصدا انكساراته السامية، ونهوضاته الفائقة، والفائضة.
حميد حسن جعفر: الشاهد على طيران الشعر العراقي، منذ ما قبل "نوارس الموجة الآتية/ 1974"، الى مجلة شعر69 ومجلة الكلمة.. والأخريات.. وعلى تطلعات الواسطيين انتسابا واستضافة في مشغلهم الشعري/ الأدبي في نقابة المعلمين، إذ يتجاوز الحوار الأدبي صنوه السياسي، أو يشتركان فكريا. ذلك النابع على منصات اتحاد الجواهري مثل نخلة الجرف.. باحثا - في وحدته ومجموعاته - عن الفرادة.
هذا الراكض على ماء الشعر، والمتأمل تحت عرائش النقد، يسحره السرد؛ فيحكي قصة قصيرة، أو يكتب نصا في المكان. كيف سحرته الكوت؟، كيف التفت الى بستان الحاج حسن شبوط؟، هذا الأثر الذي يمتد عمره الى قرنين من الزمن، المنسي هناك: بين الماء والناس، والماثل في عين حميد حسن جعفر، التي لا تكتفي بالنظر، ولا بالتأمل، بل تبحث عن الخلود، في الكتابة.
لا مناص من التأكيد والتوثيق والإشارة: الى أن حميد حسن جعفر هو أحد الشعراء العراقيين القلائل الذين اهتموا بالمكان، بل انه يتميز في كمّ ونوع الاحتفاء بمكانه، وهو وإن كتب عن الحي وعن الكرادة، وسار - بقلبه - على أسماء المدن، قديمها وحديثها، فإنه صاحب "كوتوبيا: كائنية المكان"، الكتاب الذي عشقته ماكنة الطباعة، فأسرته في غرفة نومها. الأول من نوعه في محافظة واسط، كـ "بصرياثا" لمحمد خضير، و "سيرة مدينة" لعبد الرحمن منيف. وهو، إذ يشكل إضافة الى كتب المكان الأدبية العراقية، التي قد لا تبلغ حسب علمي عدد أصابع اليدين، نص يجمع بين الشعر والتاريخ، بين الذات والموضوع، بين الأنا والآخر، في رؤية فنية أقرب منها للسرد، أو هي حكايات المكان، وأهله، بلغة الشعر.
ضاقت اللغة، وافتقر الكلام، وحوصرت "الثريا" مستعارة منه بالتابوهات، فهربت الى لهجة الجوار: "الكوتشينه". فاسمها العراقي يستفيد من المادة: ورق، أو "كاغد"، في تعبير أقرب اليه، لولا الإهمال الذي يتسلل الى عنوان نصه، من تلال الألفاظ، التي تأتي محتفية بنفسها، مستغنية عن دلالاتها، وارتباطاتها، في نصوص أخرى له.
الثوابت بعمومياتها - التي يعاني الشاعر، ويسعى للتحرر منها، تمدّ أعناقها الى كلامه، من الاستعارة الكلامية السابقة، الى قيود الفصحى التي تفرض "مقامرون/ مصاحبو عاهرات"، فثمة بدائل بالمحكية، أشد وقعا وألصق توثيقا، وذات إيقاع موسيقي ثقيل.
لكن اللغة وهي تمثل صحوها تتطوع على لسان الشاعر، فتنثال الأسماء: "بسمارك، ولوثر كينك"، من كتب تاريخ المدرسة، الى "كرم الدين"، و"نعمة الله"، بطَلي هذا النص، الذي يحدد تعرشاتهما، ويلغي تاريخهما الرسمي، حتى ينشىء لهما تاريخا من لا شيء. الى "قاسم احْديد" و "عبد علي الأسود"، البطلين الزقاقيين، بلقبيهما، وأفعالهما، وألعابهما غير البريئة، حسب المكان، وحسب الصورة القَبلية، والمؤكَّدة بالنتائج: "كان الدم لحظتها نقيا، وللمرة الأولى يتدفق مترعا/ بالنفور ليزيد المتدلي من الأغصان عتمة./ وكرومي يترك دمه يشخب"، المكللة بالغموض والغياب المفتعل، والضياع في الشعري: "أينا كان محمولا على نقالة؟"
وإذ يبدأ الفصل الثاني من هذا النص - فغالبا ما يستعمل الشاعر الفواصل الاخراجية لأغراض شتى - بالانتقال الى حكاية أخرى، يتماهى الشعر بالسرد أو بالعكس. لقد بدأ بالتأثيث الخارجي، بوصف البطل، وانتقل للاستشراف - يقول القاص اسماعيل سكران: اذا وجد القارئ كلمة مسدس في النص فيجب أن يسمع صوت الطلقة - "مسدس بكاتم صوت"، الذي سرعان ما يصل الى نهايته التي افتقدت صدمتها بسبب ذلك الاستشراف: "وليقتل من على جسر الأنوار"، باستخدام حرف الجر "من" للتوكيد، أو للاستزادة اللفظية، أو لأفق بعيد عن المعنى، أفق لغوي محض، في "ليلقى من على".
قِصَر هذا النص مثار سؤال، وهو جواب يؤكد قدرة الشكل الشعري على المطاوعة، بوجود الرغبة والرؤية والمعرفة، ليعود الى الشكل المبكر للشعر السردي، أو للسرد الشعري، الى الملحمة: الجنس الأرسطي. ففي النص أربع شخصيات درامية، علاقاتها بالنص والآخرين تقوم على الصراع، ونهاياتها ليست إلا درامية أو حتى ميلودرامية؛ يكللها الغياب، الآتي بتعبير آخر في النص "لم يؤمنوا إلا بالمنفرط"، فانفرطوا: 1. كرم الدين: "ليحكم عليه سبع سنوات أشغالا شاقة". 2. نعمة الله: "كائن صنعه النهر، ليحتضنه جثة لم تستطع أن تحمل صاحبها". 3. كرومي: "يترك دمه يشخب". 4- العاهرة: "التي ارتدت ثوب الحداد بعد مقتل سيدها"، في عبارة لا تخلو من العنف اللغوي، والطبقية. حتى إن "نعمة الله" كان حيا، مع "قاسم احديد، و "عبد علي الأسود" وهم "يوسعون من الطريق، يبعدون الظلال الساقطة وآثار الأقدام المترنحة المنطلقة صوب فضاء مكشوف"، بعد أن مات قبل صفحتين في "ليتحول من بعد سنين الى هدف لتصفيات رجال الخارجية، وليقتل"، السطر الشعري المثقل بالزيادات اللفظية، من لام التعليل أو التوكيد، الى حرف الجر "من".
بستان الحاج حسن شبوط، شاطئ دجلة في زاويته الجنوبية الغربية، رفيق النشوء والارتقاء لمدينة الكوت، غير الموغلة في القدم، هو الانفتاح المكاني على مسميات عالقة في القلب: سينما الجمهورية أو سينما سيد سلوم، جسر الأنوار، ذلك الجسر الذي - ومنذ أكثر من نصف قرن - ظل بلا اسم! والى ألقاب حرفية "صيادو اسماك، باعة العلكة والمناديل الورقية"، أو سلوكية "مقامرون، ومصاحبو عاهرات، ومدمنو خمور مغشوشة"، أو رسمية "متخلفون عن الخدمة العسكرية، تسفيرات الانضباط العسكري"، أو سياسية "الاتحاد الاشتراكي العربي".
في هذا النص والنصوص الأخرى الكثيرة، غالبا ما يحتفي الشاعر حميد حسن جعفر بالألقاب، بتعدداتها، بأنواعها المتباينة، بعلاقة أو من غيرها، غالبا ما تكون العلاقة لغوية فقط، ألفاظ مسطرة، احتفاء بالكلام دون الحاجة الى دلالات أخرى، فقد يكون البحث في المعنى نوعا من البحث في اليوتوبيا، أو يكون الهرب الى اللامعنى احتجاجا على معنى قاصر عن طموحات الرغبة.
والألفاظ، أو الأسماء، التي غالبا ما تقع تحت سلطة اللامعنى، والتعداد لأجله فقط، أو للاحتفاء باللفظ، التي تشمل التوثيق "خمرة هبهب ولم يقل عرق -، المستكي"، "نادي الميناء الرياضي"، أو "مدينة الألعاب" المفتقدة لاسمها، والحاملة لصفة "فاشلة"، المنبثقة من الحافة الجنوبية الشرقية لبستان الحاج حسن شبوط، أو سحب الهامش الى المتن: "عوائل الكدية، غجريات، أطفال لقطاء"، لا تخشى تسويق المحكي من الأسماء: "البوزر"، وتقترب أحيانا من العنف "عاهرة"، لا تطغي على الرقة في "الفاختة التي تنوح على شجر لن ينسى"، حيث يمتد اللطف من اللفظ الى القلب/ الذاكرة، أو "ودجلة مازال سكراناً من رائحة سمك باسل" ، باستخدام الوصف القائم على الانزياح، تلك التقنية التي ترتبط بقصيدة النثر، وتتواجد كثيرا في النصوص الأخرى للشاعر.
في هذا النص وفي غيره مما لحميد حسن جعفر تصير اللغة هدفا، بقدر التاريخ والسرد، ويتداخل في اشتغاله اللفظ كتعبير معه، كمعنى، أو كتوثيق، أو لملء فراغات الصفحة، الأبيض المغري، لتدفق لامع. تتماهى القصدية مع العشوائية، فقد استخدم زجاجة، كلفظة فصيحة، مستغنيا عن "بُطل" المحكية، فلجأ الى تفصيح المحكية، إبعادا لها عن دلالات أخرى لتلك اللفظة، التي تحتمل الباطل، بقدر احتمالها للبطولة، بتغيير الحركات، الخصوصية الفريدة للغة العربية، بمحكيتها العراقية؛ لإبعاد النص عن التأويلات غير المرغوب فيها، وتجريد الألفاظ من جناسها. إنها لفظة تستعين بمحليتها، لتستعصي على المحو التاريخي، والتطويع الشعري. كما استخدم في العنوان كلمة المهمل، قصدا في العكس: اللامهمل، المهتم به. المهمل هنا تفتح الأفق على أكثر من دلالة، المهمل في الواقع شاخص في الروح/ الذاكرة، والمنسي في المتن يوثقه الهامش، وهو يزاحمه، أو يتداخل معه، أو حتى يستبدل معه المواقع، في ما بعد الحداثة لدى حميد حسن جعفر.
هذه المدرسة التي أتاحت له الحرية الواسعة، في استنطاق المخبوء، واستخراج المخفي في طيات الذاكرة الجمعية، والوعي العام. ومكنته من تحفيز اللغة، بالإبقاء على موقعها المتقدم: "ظلال تتدلى كما الفاكهة على الرؤوس المتورطة بالترنح"، وبالنحت "لتمرّ المحفة"، وبالاستعارة من اللهجات الأخرى "الكوتشينة"، وبتعداد المترادفات: "رقوشا ونقوشا وزخارف"، يجمع بينها الوزن وقواسم الحروف، والتراث.
أما الألفاظ: صيادو أسماك، الشرطة النهرية ، أحراش دجلة، زورق شراعي، النهر، السواقي ، مياه ساقية من زجاج ذائب التشبيه الفريد المستغني عن أداته، دجلة، يتدفق، فمنها سبعة تجمعها علاقة، يوضحها اللفظ الخامس؛ مفصحا حين يرتبط بالثامن، لترسم صورة بواسطة الفعل/ اللفظ التاسع. في وسطها يأتي اللفظ السادس: "فمسارب البستان المترعة بالسواقي" ، في صياغة لغوية تقوم على التقديم والتأخير، وتبادل الصفات، من خلال:
سواقي البستان مترعة بالماء.
البستان مترع بالسواقي.
وصولا الى الدلالة الأعمق: البستان هو المدينة المترعة بالماء/ الحب/ الحياة/ البقاء. وهو يستعين بالصفة التي تعتمد المبالغة بمجيئها اسم مفعول "مترعة"، وتعني "مملوء".
تنفتح تلك العلاقة على أكثر من مسرب، فترتبط بنصوص أخرى للشاعر، الأكثر توضيحا منها لم يزل غير منشور، تتخللها شخصيات، ورموز، وعلاقات ذاتية، بنهر دجلة، منها: 1. الجيرة والرفقة.. منذ السلف. 2. جواد ظاهر نادر: الشاعر، صيّاد الأسماك. 3. سميع داود: الصابئي، ابن الماء بالمعمودية. 4. أو إنها تشظيات الذات الشاعرة، أنواتها المتعددة.
مهرجان المتنبي العاشر، المحلى باسم الشاعر حميد حسن جعفر، والموثق بكتاب سهر على انجازه بررة الأدب والإدارة الواسطيين، والذي صار محورا نقديا في الدورة الثانية عشرة للمهرجان، شاهد على الانسان، وعلى الجمال، وعلى الحب اللامتناهي.. الشعر والشاعر، الحياة في مركزيتها الأنثوية، واللغة في بهاء أنوثتها. وثوقية المكان في ذاكرة القلب، حتى تلك الأماكن التي ظلت بلا أسماء، شاهدة على المهمل، وعلى افتقاد الوعي باللغة، لملمها حميد حسن جعفر، مخترعا لها أسماء وصفات، أو رسمها في مواقع نصية، قد لا تشبه مواقعها الجغرافية. تلك بعض من "موتيفات" هذا النص، الذي يرتبط بأكثر من علاقة، هذه بعضها، مع النصوص الأخرى الكثيرة للشاعر، وهي تسبح كالأسماك الباسلة في المياه العصية على التبخر/ الإهمال.