ادب وفن

الحرب الأهلية الاسبانية في ضيافة الرواية الجزائرية / إبراهيم صحراوي*

"سيييرا دي مويرتي" أو "جبال الموت" للجزائري عيساوي عبد الوهاب، رواية جديدة صدرتْ مؤخّرا "2015". تبرُزُ بقوة من بين الروايات الكثيرة التي ظهرتْ منذ فترة في الجزائر. أتتْ لتنضمّ إلى مدوّنة الروايات التي اتَّخذت الحرب الأهلية الإسبانية وآثارها في النِّصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين موضوعا لها، على غرار "لمن تقرع الأجراس" للأمريكي إرنست همنغواي الفائز بجائزة نوبل للأدب سنة 1954، و"لا بكاء" للفرنسية الإسبانية ليدي سالفاير الفائزة بجائزة الغونكور سنة 2014 على سبيل الذِّكر لا الحصر. غير أنّ أحداث رواية "سييرا.." تتميّز عن أحداث الروايات السابقة زمانا ومكانا ذلك إنّها أثر من آثار الحرب وليست الحرب نفسها، وتدور بعد انتهائها بسنتين تقريبا وفي .. الجزائر.
تصوِّر الرواية "بضمير المتكلِّم وفيما يشبه اليوميات" عبر ستة عشر فصلا مُرقَّمة، مجريات الحياة في معتقل "عين أسرار" في مدينة الجلفة الجزائرية على مشارف الصّحراء "300 كلم جنوب العاصمة"، الذي أنشأته سلطات الاحتلال الفرنسي مطلع أربعينيات القرن الـ20 خصيصا لاستقبال أسرى ومعتقلي الحرب الأهلية الإسبانية من الجمهوريين واليساريين والشيوعيين والفوضويين من جنسيات أوروبية مختلفة، المنهزمون أمام يمينيي الجنرال فرانكو.
يروي "مانويل"، الشخصية السّاردة وهو معتقل إسباني مثقَّف وكاتب، كان مُدرِّسا قبل الحرب، يومياته الشّاقة والصّعبة ومعاناته صحبة الآخرين، خصوصا صديقين مُقرَّبين هما: "بابلو" إسباني آخر التقاه في برشلونة، كان رفيق سلاحٍ أيام الحرب في جبل الموت، حادّ الطِّباع يتحلّى بقدر من الشجاعة مع شيء من التهوّر. أمي كان قبل الحرب يشتغل مزارعا. و"كورسكي" يهودي بولوني. تعرَّف عليه في معتقل سابق في فرنسا. هادئ، حكيم، متديِّن ذو ثقافة توراتية واضحة لا تفتأ تتواتر على طول الرواية.
في نقله ليومياته وتصويره لحياته "وحياة الأخرين" في معتقل عين أسرار وبدرجة أقلّ في معتقل سابق "فارني دارياج" في فرنسا وعذابات الرِّحلة في ما بينهما عبر القطار والسفينة، يُبرِزُ السارد الشخصية تحكّمَ المكان في هذه اليوميات وتوجيهَه لها، ذلك أن المعتقلَ يفقد ما تبقى من آدميتِه وإنسانيتِه بكلِّ صِفاتها ومُقوِّماتها بعد أن يكون قد فقدها جٌلَّها قبل ذلك في الحرب بدءا بطريقة الانتقال أو بالأحرى النُّقل أو التحويل- من معتقل إلى آخر فينسى بذلك الحياةَ البشرية أو يوشك. كما يبرز الصِّيغ الجديدة للعلاقات التي تقوم بين الأفراد. علاقات تتميّز بالتوجس والاحتقار المتبادلين بين المعتقلين وسجّانيهم عبر وحشية الحراّس وقائدهم الضابط غرافال ومدير المعتقل "كادوش" ومع ذلك لا تخلو هذه العلاقة من لمسات إنسانية تبرز من حين لآخر عبر سلوكيات الحرّاس العرب وقائدهم الصبائحي أحمد.
في المعتقل تنقطع الصِّلة بالوطن "وبالعالَم الخارجي أيضا" ويصبح ذكرى وحلما في الوقت نفسه. ذكرى تؤثِّثُ الواقعَ البائس، وحلما يساعدُ على تحمُّله والصّبر على أوجاعه فيتعلّقون من أجله بأشياء بسيطة لمواصلة الحياة. تشتعل الذِّكرى ويتّقد الحلم عند وصول الرسائل صلتهم الوحيدة بالعالَم الذي فقدوه وقُطِعوا عنه. ترِدُ إلى المعتقلين من ذويهم وأصدقائهم. فـ "مانويل" يتلقّى رسائل من زوجته باتريسيا التي خلّفها وراءه في فرنسا، امّا "بابلو" فيتلقّى رسائل من صديقة فرنسية سمعت عنه من صديق مشترك فوقعت في حبِّه، رغم أنهما لم يلتقيا أبدا مُجسِّدة بذلك معنى البيت الشعري الشهير لبشار بن برد: "يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة/ والأذن تعشق قبل العين أحيانا"، رسائل يقرأها له مانويل "بعد ترجمتها إلى الإسبانية" ويتولّى الردّ عليها "بالفرنسية" أيضا، وذلك لأميته كما أسلفنا. يجعله هذا الحبُّ يهرب من المعتقل على صعوبة الهرب ويُفقد أثرُه بعد ذلك.. أّما مانويل وكورسكي فتخفُّ قيودُهما قليلا نظرا لمواقعهما الجديدة: العيادة بالنسبة لمانويل والمطبخ بالنسبة لكورسكي، ثم عملهما في ما بعد مُدرِّسين لابن مدير المعتقل. أتاح لهما ذلك التنقل بحرية داخل المدينة والتجوال فيها والتعرُّف على بعض ساكنيها، فضلا عن الإعفاء من الأشغال الشاقّة في الوُرش وتنظيف الطرقات وما إلى ذلك، إضافة إلى امتيازات أخرى لم تُتَحْ لبقية المعتقلين.
تغيُّرُ وضعية مانويل في المعتقل يجرُّ الى تغييرات الى أخرى كحرية الخروج منه إلى المدينة في أوقات معيّنة تدفعه إليه رغبة في الاكتشاف وبحث عن إجابات لأسئلة وهواجس غامضة وشغف بمعرفة أسرار الأمكنة. وقيام نوع من الألفة بينه وبين الصبائحي أحمد تتطور إلى نوع من الصّداقة التي لا تقول اسمَها فتتجاوز علاقة السجّان أو بالأحرى حارس السِّجن- بسجينه. كما يتعرَّف على شخصية أخرى "السّلمي"، الشخصية الحكيمة التي خبرت الحياة وتنبّهت لبعض خباياها وعرفت بعضَ أسرارها، يكون لها دور كبير في تغيُّر أشياء كثيرة في فكره ورؤيته ونظرته للحياة. من ذلك تغيُّر موقفه الرافض للإنجاب لاكتشافه أنّ الموتَ لا ينتُجُ عن الحرب فقط، فمن لم يمُتْ بها مات بغيرها، مكتشفا بهذا الحِكمة العربية "من لم يمُتْ بالسيف مات بغيره….". هذا إضافة إلى انبهاره بروحانية صديقه البولوني ثمّ الصبايحي والسّلمي وبداية اقترابه من فكرة الله الذي لم يكن يرغب في التفكير فيه بالطريقة التي يريدها رجال الدين الكاثوليك، خصوصا أنّه كان يعتقد أنّه تخلّى عنه وعن رفاقه وانحاز إلى الجهة الأخرى، لكنّه عدّل الاتجاه أخيرا عندما وقف بينهم وبين الرّصاص الذي كان سينطلق صوْب المُعتقلين الإسبان بأمر الضابط غرافال في ساحة المعتقل، لولا أنّ الصبايحي أحمد الذي وصل في الوقت المناسب أصدر أمرا مُضادّا اتبعه بقوله: لسنا نحن الذين نرفع السِّلاح في وجه الأسير يا سيِّد غرافال"..
تنتهي الروايةُ بانتهاء مانويل من كتابة قصّته في العيادة على الآلة الكاتبة ووصول عريضة بعد مساعٍ من القنصل الفرنسي في الدار البيضاء تطلب إطلاق سراحه وموافقة مدير المعتقل على ذلك، ثم أمْرُه إياه بمغادرة المعتقل بسرعة بعد أن كان قد غادره قبل ذلك بفترة صديقُه البولوني- وسفره إلى الجزائر العاصمة تمهيدا لانتقاله إلى الدّار البيضاء وعبوره الأطلنطي إلى منفى آخر، إلى المكسيك باحثا هناك عن وطن بديل لإسبانيا..
تعْبُرُ الروايةَ كثيرا من التفاصيل عن أماكن كبرشلونة وسييرا في إسبانيا وفارني دارياج ومرسيليا ومدن أخرى في فرنسا والجزائر العاصمة والجلفة في الجزائر. وعن شخوص كالمعتقلين والضباط والحراس والأصدقاء المقربين وشخصيات جزائرية كالسّلمي فتشيع أجواءً غرائبية، خصوصا ما تعلَّق منها بأواخر عهد الجزائر الكولونيالية وعن أحداث كالحرب الأهلية الإسبانية نفسها وبعض عوامل فشل الجمهوريين وانهزامهم أمام قوات فرانكو. بالرواية أيضا قدْر كبير من الفلسفة والتأمُّل والوصف والتحليل واللاهوت والأحكام القيمية، حتى ليمكننا القولُ بأنّها رواية أفكار ومواقف أكثر منها رواية أحداث.
أحداث الرواية وشخصياتُها الأساسية: مانويل وبابلو وكورسكي والضابط غرافال ومدير المعتقل كابوش شخصيات حقيقية واقعية تصرّف فيها خيال الكاتب بما تستدعيه تقنيات القصّ وأدبية النصّ فأدمج خطوطا وتقاسيم وعدّل أخرى أو كنّى عنها، وتغاضى عن جزئيات وأضاف أخرى. فمانويل ليس سوى "ماكس أوب" الكاتب والدبلوماسي الإسباني الفرنسي المكسيكي الألماني على ما يبدو، أمّا بابلو فهو "أوليفان أنطونيو أتاريس" الذي أشهرته رسائل الفيلسوفة الفرنسية سيمون وايل "ماريا في الرواية" التي أحبّته من دون أن تراه،. أما كورسكي فيبدو أنّه الكاتب البولوني بول زولبرغ. بينما بقي اسما المدير والضابط من دون تغيير.
يبدو الروائي وقد قرأ كثيرا من المصادر والمراجع، سواء ما تعلَّق منها بالمعتقل أم بالشخصيات المذكورة أو حتى بالكتب الدينية اليهودية المسيحية فأنتج نصّا أدبيا رفيعا، واستطاع أن يُقيمَ بنجاح في نصِّه هذا "وهو الشرقي" راويا تقمَّص شخصية "غربية" بثقافتها ونظرتها المختلفة عن نظرته للأمور، فلم يتعسَّف ويُسقِط مواقفه على هذه الشخصية بما يتماشى مع انتمائه، بل أكثر من ذلك لم يتدخَّلْ في تعاطفها مع اليهودي ومِلَّتِه وقومِه وهو ما يتماشى تماما والموقف الغربي. كما كانت هذه الشخصية "الراوي" مِرآةً عكست له جانبا من صورته لدى الآخر، لديها. من هنا يمكننا الزّعمُ بأنّ هذه الرواية حوار حضاري أدبي من كاتب منحدر من المدينة التي جرتْ فيها الأحداث "الجلفة"، حوارٌ سيكون ذا تأثير أوسع لو قُيِّد للرواية أنْ تُترجم إلى الفرنسية و/ أو الإسبانية.
لغة الرواية جميلة. خلت من الأخطاء إلا في ما ندر وأسلوبها أنيق وهي ميزة نفتقدها أحيانا كثيرة في النصوص الجزائرية في الفترة الأخيرة.
في أحد المشاهد الأخيرة من الرواية يُرى الطبيبُ في العيادة وهو مستغرِقُ لأكثر من ساعة في قراءة خاتمة القصّة التي كتبها مانويل "هي هذه في الحقيقة" مأخوذ بتفاصيلها وهو ما سيحصل من دون شكٍّ مع كثيرٍ ممّن سيقرأون الرواية في الواقع، ذلك أنّها نصٌّ جميل ومتميِّز شكلا ومضمونا. نصٌّ جدير بالقراءة.
ـــــــــــــــــ
كاتب جزائري