ادب وفن

الثقافة الديمقراطية والثقافة الطائفية: محاولة بناء العافية المدنية للوطن العراقي .. القسم الأول .. / جاسم المطير

بالرغم من كثرة تداول (مصطلح الديمقراطية) وكثرة أساليب إدانة (العصبية الطائفية) من قبل قادة الدولة العراقية والأحزاب الوطنية وأعضاء البرلمان والصحافة والفضائيات، لكن الملاحظ أن التضمينات العملية للطائفية قد استحوذت على قدر كبير من المعايير على وجه الدولة والمجتمع مما خلق أساسا متينا للطائفية السياسية في العراق مع إهمال تام لتبني المقاييس الديمقراطية إلا بنطاق محدود جدا.
من هذه التضمينات يمكن رؤية الظواهر التالية:
1-هناك مؤسسة من مؤسسات الدولة اسمها الوقف السني وأخرى الوقف الشيعي. هاتان المؤسستان تتضمنان الرغبة الرسمية الحكومية على التعامل الطائفي.
2-هناك في القضاء العراقي قاض سني وآخر شيعي. مهنة حكومية روتينية تدرّب القضاء العراقي على الذاكرة الطائفية.
3 -في قناة (الفضائية العراقية) وهي قناة الدولة شبه الرسمية نسمع نوعين من مراسيم الآذان، أحدهما سني وآخر شيعي تأكيداً لمهارة استخدام الإعلام في الحركية الطائفية اليومية.
4-نجد في البرلمان العراقي عمامة شيعية وعمامة سنية لا يريد أصحابها التخلي عنها كما من الواضح أن هناك حجاباً نسائياً شيعياً وحجاباً آخر سنياً لعدد كبير من النائبات في البرلمان وفي مجالس المحافظات.
5- نشاهد في الجوامع والمساجد نوعين من الصلاة إحداها سنية ( تكتيف اليدين) وأخرى شيعية (إطلاق اليدين).
6- نشاهد برامج دينية تلفزيونية وإذاعية بنوعين، برامج سنية وبرامج شيعية، على قنوات مختصة بالفقه الشيعي أو بالفقه السني.
7-نشاهد في مجلس رئاسة الجمهورية نائبا لرئيس الجمهورية سني المذهب وآخر شيعي.
8-في مجلس النواب يكون الرئيس سنياً ونائباه أحدهما كردياً والآخر شيعياً.
9-في جميع دواوين الوزارات العراقية إذا كان الوزير سنيا فالوكيل شيعي وإذا كان الوزير شيعي فأن وكيله سني بقصد استخدام منهج العادة الطائفية في الوظائف الرسمية العليا .
10-هذا النمط من السلوك الطائفي موجود في كل دائرة عراقية وفي كل مدرسة وجامعة لإشاعة الجوانب العملية في التنمية الطائفية .
هكذا فأن الحدود الطائفية، التراثية وغير التراثية ، موجودة على المستويين، الفردي والجماعي، في كل مجلس محافظة عراقية يجري التعامل معها ببالغ الضخامة من المعلومات والعادات والتقاليد الطائفية .
كما يمكن استشراف الملامح الأساسية لتلك الحدود الانقسامية ودراستها وقياسها بصورة خاصة بعد متغيرات ما بعد نيسان 2003 التي كان اعتبارها الافتراضي الأول قد قام على تحويل المجتمع العراقي إلى (مجتمع ديمقراطي).
لكن الواقع الفعلي في سياق التفاعل الاجتماعي يشير إلى أن رصيد تغيير النظام السياسي بعد عام 2003 كان لصالح نمو وانتشار (الطائفية السياسية) أكبر بكثير من نمو وانتشار (الديمقراطية) في نطاق العلاقات السياسية والاجتماعية.. بل يمكن القول أن تأثير السياق الطائفي المعقد مفتوح على الصراع داخل السلطة التنفيذية ومجلس وزرائها بسبب الخلفية الثقافية الطائفية لكل عضو من أعضائها لأن الوعي الطائفي الذاتي يدفعه إلى استخدام ثقافته و قدراته وتوظيف مشاعره لتحقيق (الأهداف الطائفية) وليس لتحقيق (الأهداف الديمقراطية) التي يستخدمها في الذكاء الانتخابي البرلماني ليس غير.. بل يمكن القول أن الكثير من الطائفيين الاستراتيجيين العراقيين يستخدمون ذكاءهم لدمج بعض (الفقرات الديمقراطية) بالعمود الفقري الطائفي على اعتبار أن الثقافة الديمقراطية يمكن ترشيدها طائفيا خاصة من خلال (الترشيد الانتخابي) للتأثير على تكوين الشخصية العراقية، خاصة الشخصية الريفية، حيث تنتشر الأمية بين صفوف الأكثرية ذات التبعية لشيخ العشيرة ورجل الدين من ذوي القدرة في التأثير السهل عليها تأثيرا طائفياً مباشراً بفعل الظروف والعوامل النفسية والاجتماعية.
التعارض بين الديمقراطية والطائفية
تتعارض (فكرة الديمقراطية) مع (فكرة الطائفية) تعارضاً رئيسياً لأن فكرة الطائفية تحدد الدولة والسلطة والمجتمع بأفكار ثابتة (مقدسة)غير قابلة لتغيير وتطوير المجتمع. الطائفية كما أوضحها كوستي بندلي هي « كيان عنصري ومظهر من مظاهر صنمية الإنسان « ( كوستي بندلي موقف إيماني من الطائفية 1983 منشورات النور) بينما يقوم تأسيس تجارب الديمقراطية في كثير من بلدان العالم ونموذجها هولندا وسويسرا وبريطانيا مثلا على التمييز بين (المجتمع السياسي) و (المجتمع المدني) كأحد منطلقات تطوير وتنمية المجتمع الإنساني وتغييره في المراحل المتلاحقة في الذكاء الإنساني وتجديد تصاميم التقدم في الحياة الإنسانية، تبعا لخصائص تطور أدوات ومقاييس الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة.
وقد كان عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي قد أشار بوضوح قبل نصف قرن من الزمان إلى أننا (نجد الشعب العراقي واقعاً بين نظامين متناقضين من القيم الاجتماعية: قيم البداوة الآتية إليه من الصحراء المجاورة وقيم الحضارة المنبعثة من تراثه الحضاري القديم ..) انظر كتابه المعنون دراسة في طبيعة المجتمع العراقي - ص 12 مطبعة العاني بغداد 1965 .
اعتقد أن الحضارة الغربية الجديدة وفي مقدمتها قيم النظام الديمقراطي لها تأثير كبير أيضا على الواقع الاجتماعي وعلى مجمل الصراع السياسي الحالي في العراق . كما قال الدكتور علي الوردي أن ( المتوقع في مثل هذه الحالة أن يعاني الشعب صراعاً اجتماعياً ونفسياً على توالي الأجيال . فهو من ناحية لا يستطيع أن يطمئن إلى قيمه الحضرية زمناً طويلاً لأن الصحراء تمده بين آونة وأخرى بالموجات التي تقلق عليه طمأنينته الاجتماعية.
وهو من الناحية الأخرى لا يستطيع أن يكون بدوياً كابن الصحراء لأن الحضارة المنبعثة من وفرة مياهه وخصوبة أرضه تضطره إلى تغيير القيم البدوية الوافدة إليه لكي يجعلها ملائمة لظروفه..) انظر نفس المصدر السابق. ثم يلخص الوردي كلامه بالقول( قد يجوز أن نصف الشعب العراقي بأنه شعب حائر فقد انفتح أمامه طريقان متعاكسان وهو مضطر أن يسير فيهما في آن واحد. فهو يمشي في هذا الطريق حيناً ثم يعود ليمشي في الطريق الآخر حيناً آخر..) انظر نفس المصدر السابق كما أرجو النظر إلى ما قاله الدكتور محمد طه في كتابه عن الذكاء الإنساني في العدد 330 من سلسلة عالم المعرفة ص 97 عام 2006 : ( تشكل الاستراتيجيات المعرفية مصدراً أساسياً للفروق الكيفية والكمية في الأداء بين الأفراد، بل إنها تمثل محددا مركزيا لأداء المهام ولفهم بعض الظواهر التربوية والسيكولوجية المختلفة مثل الفروق عبر الحضارية والفروق بين المجموعات المتطرفة في القدرات المختلفة وفي حل بعض مشكلات التعليم ..).
ضرورة التمييز بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني
كيف نميز بين مصالح (المجتمع السياسي) الصغير في حجمه النسبي مهما كانت الدولة متعاظمة في عدد سكانها ، فالنظريات العالمية كافة تشير إلى أن المجتمع السياسي يتم تشخيص مكوناته من (عدد أعضاء الحكومة + أعضاء البرلمان + عدد أعضاء الأحزاب السياسية + عدد الناشطين السياسيين المستقلين خارج الأحزاب أو حولها).. كما تشير بذات الوقت أن ( المجتمع المدني) ومصالحه أكبر بنسبة لا تقل عن 95 % من مجموع الناس في أي بلد من البلدان، أي أن مكوناته هي غالبية الشعب. في الحالة العراقية يمكن التعرف إلى حقيقة أن المكون العشائري يمكن دفعه إلى المجتمع المدني ولو بزمن طويل بعد تصنيع الزراعة في الريف العراقي .
بعضهم يعرّف الديمقراطية بكونها العنوان الرئيسي للسيادة الشعبية .
بعض آخر يرى الديمقراطية أنها حرية النقاش السياسي.
قد يكون التعريف الأول هو مضمون الديمقراطية .
والتعريف الثاني هو شكلها .
هذا يعني أن حرية التعبير والاجتماع والانتخابات وتداول الآراء واتخاذ القرارات ونقاش البرلمان وتشريعاته تبقى ناقصة أو مضروبة بالصميم أو الهامش إن لم تستكمل بقواعد وأصول مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة نفسها من أجل مصالح المجتمع ككل. هذا الاشتغال هو المعنيّ بثقافة الديمقراطية.
نرى أن هناك من يختزل (السياسة) و(العملية السياسية) إلى مجرد منافع ومصالح فئوية ، أو طبقية ، أي أنه يختزل المصالح السياسية إلى بـُعدٍ طائفي ٍ محدودٍ ، مؤسسا ً لها أيديولوجيا، طائفية ، منغلقة، لا يرضى بتقهقرها أمام مصالح المجتمع المدني، أي أمام مصالح غالبية الشعب .الثقافة الديمقراطية لا تقتصر على بث الأفكار الحرة أو على مجموعة من الكتابات التعليمية والتلفزيونية أو على صحف وكتب توزع على عامة الناس ، بل أن الديمقراطية ، هي وثقافتها ، تجسدان صورة الكائن البشري ، الذي يبدي مقاومة ضد كل محاولات التسلط المطلق على مصالحه أو على مصالح الشعب ، أي على مصالح المجتمع المدني، حتى ولو كان هذا التسلط وليد انتخابات نيابية أو رئاسية حرة وبالوسائل الديمقراطية ،تماما مثلما شهد الشعب المصري تسلط (جماعة الإخوان المسلمين) إثر فوزهم بانتخابات الرئاسة المصرية عام 2012 فشكلوا قوة جماهيرية غير واعية ديمقراطياً لبناء قدراتهم في الشارع قابلة لتكميم أفواه أعضاء المجتمع المدني المصري تحت واجهة التفسير الديني، والنطق باسم الله على الأرض، وهو شكل من أشكال التجريب السيكولوجي في العمل السياسي وفق الأداء السياسي الديني الطائفي لاحتكار السلطة والدين معاً ، مما أدى إلى(انقسام سياسي) بالغ الخطورة وفق (هندسة دينية إخوانية) متقنة في الشارع المصري، المدني والديني معاً.
تجارب كثيرة في الجزائر و تونس ولبنان والعراق وغيرها أثبتت أنه لا توجد تسلطية اطلاقية أكثر من التسلطية الطائفية السياسية، التي تمارس بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بثقافة خاصة هدفها تطويع غالبية الشعب وتطهيره عرقياً لصالح عرق أو مذهب أو دين أو لصالح فئة سياسية واحدة أو طبقة اجتماعية واحدة ، مبتعدة بصورة باتة عن خط الاعتراف بحقوق (الأخر) وهذا ما أثبته تاريخ الإنسانية في كل عصور تطورها.
الدولة الطائفية والتعبوية الطائفية
هنا، في بلادنا العراق، شاعت أقوال وأفكار أخرى ، بعد عام 2003، قامت على ( التعبوية الطائفية) باسم التعبئة ضد الإرهاب الانتحاري الذي يقوم به في الغالب شبان طائفيون تكفيريون تحت قيادة وتوجيه من طائفة سياسية معينة لتحويل الدولة كلها إلى دولة تعبوية تسلطية تحت ظل طائفة تعبوية واحدة أو عدة طوائف تعبوية متشاركة أو متحالفة أو متصارعة حسب الحاجة السياسية أو حسب الظروف الإقليمية . ربما يتجاهل قادة الدولة أو البعض منهم أن (الدولة التعبوية) هي أكبر خصم للديمقراطية وقد أكدت هذه الحقيقة الدولة التعبوية التي أنشأها صدام حسين وحزبه طيلة 35 عاما. الديمقراطية بأبسط أشكالها هي الدفاع بوسائل حضرية عن حرية اختيار المحكومين من البدو والحضر لحكامهم السياسيين. بينما الطائفية السياسية في جوهرها تلغي حرية الاختيار الحقيقية معوضة عنها بحرية الاختيار الانتخابي المحدود بالرسم الطائفي، لكن بوسائل وقوانين الانتخاب الديمقراطي.
ضمن هذا الواقع الذي وجدنا تطبيقاته في تونس ومصر وليبيا بعد ثورات الربيع كما وجدناه في عراق ما بعد سقوط الدكتاتورية عام 2003 قبل ثورات الربيع العربي. في الحالين صار (المواطن) مجرد صوت انتخابي طائفي أيضا.عند ذاك لا يصبح المجتمع السياسي الطائفي معنيا بالديمقراطية بعد انتهاء الانتخابات - أو وسيطا بين (الدولة) و(المجتمع المدني) كما هو الحال في البلاد الأوربية الديمقراطية المتقدمة.