ادب وفن

"حافة كوب أزرق".. القراءة خارج الذخيرة / حميد حسن جعفر

"1"
هل من الممكن أن يدخل القارئ فضاء النص المعاصر، وحيداً من غير دليل/ بوصلة؟ من غير الشاعر نفسه؟.. ربما يحدث هذا في فضاء القصيدة العمودية. واذا ما أحتاج القارئ الى دليل، فأن قاموس اللغة العربية، هو وحده ما يمكن أن يمدّه بالمعلومة. لقد استطاعت القصيدة الخمسينية وعلى يد فرسانها، أن تجعل من القارئ باحثاً ومتقصياً لأحداث التاريخ القديم وللعقائد والأديان والميثالوجيات. سواء على مستوى التاريخ الفردي أم الجمعي: تاريخ العرب والاسلام والشعوب والأقوام. البعض من شعراء الموجات/ الأجيال التي تلت الخمسينين والستينين والسبعينيين، تحول الى منتج الأساطير. وتحول الواقع المعيش الى عجينة بين يدي الشاعر نفسه وذلك ضمن فنطزة الواقع ودفعه نحو اللاواقع، الى اسطرة الثوابت وتحويلها الى ميتا ثوابت وليتحول هو بالتالي الى صانع للتاريخ. وصانع للجغرافيات فلم تعد هناك مدينة فاضلة واحدة. وما عاد التاريخ تاريخا رسميا، بل أصبح خميرة ً لانتاج العديد من التواريخ وما عاد الرأي الشاطب بقادر على مّد عنقه ليعلن عن سلطته على سواه. وما عادت الثوابت/ التابوات بقادرة على منع المثقف من صناعة الرأي الآخر فتكنولوجيا الاعلام استطاعت ان تزيح المنتج الاعلامي لسلطة الذكورة والأبوة/ العراب. وان تنتج حالة تدمير للسلطات التي كانت تدير عجلة الدولة/ عجلة الحس الجمعي/ القطيعي..
"2"
مقداد مسعود.. استطاع ان يدخل فضاء أسطرة الواقع وفنطزة العلاقات ولأن القارئ الذي يدخل بيت الشاعر/ القصيدة، لا يمكنه الخروج منه بسهولة. لأن الشاعر استطاع أن يعيد الحياة للمؤلف الذي أماتته البعض من النظريات النقدية. لكي يأخذ بيده/ بيد القارئ.. قصائد مقداد مسعود في "حافة كوب أزرق" تعمل على إلقاء القبض على القارئ، بعيدا عن المجانية، لالكي يلغي دور القارئ في صناعة النص، بل من أجل ان تأخذ بيده لحظة وجود المتاهة, ولأن القارئ حر في صناعة التوجهات, فقد يجد نفسه وسط تيه من الصور والتراكيب واللاواقع وسط هذه اللحظة يتشكل وجود الشاعر.
**
ست وسبعون حالة ايضاح يضعها الشاعر أمام القارئ، قد يأخذ أو قد لايأخذ بها وضعها في حقل فهرس أول- إذاً هناك الفهرس الذي لم يكن ثانياً لعناوين القصائد. قد لا يشكل الفهرس، اضافة معرفية لما يكتب الشاعر. انه وكما يقال - اسقاط واجب - حالة روتينية، أما التعريفات/ التبئير/ صناعة المصابيح، واذا ما علم القارئ ان المعارف مصابيح، فأن التعريفات لدى مقداد مسعود: مجموعة معارف على القارئ أن لا يتركها خلفه، بل من الممكن أن تتحول الى مجموعة كشافات. اذا ان الشاعر يراقب - يتابع - يصنع بين يدي القارئ أكثر من قاموس. أكثر من "غصن ذهبي" أكثر من ميثولوجيا. لكي يتمكن هذا القارئ من أن لا يشعر بالوحشة.. اذاً هناك حالة تضامنية مابين الكاتب /الشاعر والمستهلك/ القارئ ،هذا الفعل التضامني بإمكانه ان ينتج قراءة جادة
***
هل من الممكن ان يقول القارئ ان فهرس أول هو أول القصائد. أنا شخصياً أقول ان قراءة أو أكثر من قراءة باستطاعتها ان تمنح نص / فهرس أول / حالة من الشعرية. حالة فيها من الجمال وتدمير الخطوط المستقيمة، ما يؤهل القراءة من تحول النثر الخالص/ التعريفات الى قصيدة.. أو الى ست وستين قصيدة تنتمي لقصيدة الشذرة أو النتفة. إلاّ إني أنا شخصيا أخاف وضمن حالة من الرعب ان لا تثير هذه التعريفات: شهية القارئ ولتتحول بالتالي الى هامش ثرثرة ،لا الى نص معرفي.. ان اختبارات القارئ لنفسه، تبدأ من الصفحة الخامسة، من / فهرس أول / أنا أدعو القارئ إذا ما أستطاع ان يقرأ ما أكتب: أن يعيد قراءته ل - مقداد مسعود - ول - حافة كوب أزرق - ومن خلال بوابة - فهرس أول - وليجد نفسه بعد هذا وذاك بين مجموعة عنوانات. اذ ان وجود هكذا مدخل يمتلك الكثير من القصدية فهو الإشارة الواضحة والأكيدة من قبل الشاعر ولجميع القراء . من ان القراءة تبدأ من هنا. ومن غير هكذا اشارة أو تلميح ، يتحول الفعل القراءاتي الى فعل ناقص أو الى نص متاهة.
"3"
في "حافة كوب أزرق" هذا العنوان المستل من أحد أبيات آخر قصائد الكتاب الشعري "ليلة مندلستام".. ومندلستام شاعر ولد في وارشو 1890 وتوفي منفيا الى سيبيريا عام 1943، على حافة كوبي الأزرق/ وليلة مندلستام، من أطول قصائد المجموعة وأكثرها انفتاحاً "أراني ملعقة من فضة". محكومة/ الكائن الآخر/ الشبيه. فالفتوحات الشعرية وإنسانية المواقف بالموازنة القلقة، تشكل أكثر من قاسم مشترك لصناعة شعرية لمواجهة اللاواقع.. لا واقع الآخر في "حافة كوب أزرق" هناك وجود فاضح للذات - تلكم الكائنات الفطنة والتي لا تخاف الآخر. إذ إن الآخر في قصائد مقداد مسعود لا يشكل هدفا عدائيا. لذلك سيجد القارئ ان الشاعر لا يتخفى وراء الأقنعة. انه التاريخ الذي يتشكل من خلال تراكمات الوقائع والأحداث. أنه يبني مدنه/ بنية القصيدة من خلال الوحدات المكونة للكائنات وأعني بها مادة الكلوروفيل.. ورغم وجود الشاعر بمحاذاة القارئ. إلاّ ان القصيدة وبفعل قصدية الشاعر لا يمكن ان تشكل حالة أمان لقارئها فالطريق غير سالكة رغم وضوحها وسلالمها غير أمينة فالقارئ لا يعرف أين يضع قدمه ُ فكل وحدات السلالم مصنوعة من الوهم. فالقصيدة غير مأمونة الجانب. وحين يغيب الشاعر عن فضاء القصيدة، تتحول القصيدة هذه الى مصيدة. فرغم وجود الهدف من كتابة القصيدة. إلاّ إن مقداد مسعود يشتغل على اللاهدف. الكلمة/ البيت السطر. لا يعرف ما الذي سيحدث بعد النقطة أو الفارزة أو علامة الاستفهام. ماذا يحدث/ ماذا سيكتب الشاعر. وماذا سيقرأ القارئ بعد الجملة الاعتراضية أو الجملة الاستدراكية. فالقصيدة مفتوحة والحياة عريضة والمكائد من الممكن ان تضع نفسها في اي لحظة أو عند أي منعطف. الشاعر يتخلى عما كان يفعل الشاعر العربي/ الشاعر الكلاسيكي من الإصرار على وحدة البيت الشعري أو على وحدة الغرض أو على وحدة القصيدة. فهو يتخلى عن وحدة الموضوع في جميع القصائد. معتمدا على وحدة الحياة ومتى كانت الحياة تتمتع بوحدة متماسكة. مستقلة بعيدة عما يحيط بها.
**
لا ممنوعات في "حافة كوب أزرق"، حيث يتحول اللاشعري الى الكثير من الشعرية فالشاعر يمتلك من فضاء المختبر: الكثير من التفاصيل، الكثير من تحويل المعادن الرخيصة /اللغة المحكية / اللغة اللامحكية / المهملة... الى معادن ثمينة. هذه العملية/ التحول لا تتم عبر العشوائية. فالهواء الذي يمر عبر الحنجرة، حنجرة المغني هو نفسه الذي يمر عبر الحناجر غير المغنية، فالهواء الذي يدخل حنجرة الثاني، يخرج أكثر تلوثا وأكثر ضجيجا. إلاّ انه عندما يمر على أوتار حنجرة المغني، يتحول الى موسيقى، موسيقى تحمل من التحدث والجمال والغواية ما لا يحمله سواه, إذا الاختلاف يتم على يد الشاعر ولا يمكن ان يتم على يد المفردة القاموسية أو المفردة المبذولة أو التي تؤلف لإنتاج افعال ضالة - مقداد مسعود - في - حافة كوب أزرق يغنّي ويصنع وينحت ويموسق..كل هؤلاء من الممكن ان يلتقيهم القارىء في طريقه للقراءة. وهو لا يقف في مكان واحد. المكان الذي تحته كتلة من الزئبق ورغم هذا يعمل على صناعة التوازن:
"4"
"حافة كوب أزرق" لا يمكن أن يكون بعيدا عن حافة العالم لا حافة الحياة. ان انشغالات كهذه لابدها ان تكون اشتغالات كونية: فلاحدود للقصيدة مع انعدام الهلامية. ولا حدود لرؤية الشاعر. مع انعدام العشوائية. انه لا ينظر من خرم ابرة. رغم أهمية هكذا مفتاح عندما تنطبق الزاوية، بل ان الافق هو مرقاب القصيدة. والتي من خلالها تتشكل وحدة المنظومة الحياتية لمهمات القصيدة، لا في صناعة التوازن الذي يشكل جزءاً بسيطاً من تكوينات الحياة، فالحياة هذه، لا تشتغل على السكونية، بقدر ما تشتغل على صناعة القلق .فكتلة الزئبق التي تشكل القاعدة التي يرتكز عليها المنجز الأبداعي للحياة، وهي أكبر منتجي البحث عن الوهم. الذي لا يبتعد كثيرا عن صناعة عالم آخر قد يكون مغرقاً بالفنطازيا لأنه الحل الوحيد لشكل الحياة الجديدة.
"5"
بين يدي - مقداد مسعود - وعلى حافة كوب أزرق: لا شيء ينتمي الى اللاشعر، كل الأدوات
تمتلك قوانينها المنتمية الى اللاأحد. كل الأشياء قابلة لصناعة التمرد، لا عبر الفوضى، حيث يتحول الشطب الى قوة ٍ جديدة ٍ .بل عبرأختلافات التنظيم. فالأشياء التي تحيط بالشاعر ما ان تمسه ويمسها حتى تتحول الى كائنات: تعاني وتتنفس وتشير وتوحي.
في "الصحراء: ترجمان الشجرة"، الجناح الثالث من الكتاب، يشتغل الشاعر على كائن أسمه الصحراء، القارئ بمقدوره ان يجد في هذا النص كل ما لا يتوقع، إلاّ الصحراء نفسها.. الصحراء هناك تشكل حالة تبئير، حيث تتحول الى ما يشبه البوصلة، كان بإمكان الشاعر ان يضيفها كما أضاف سواها الى فهرس أول/ هنا تتحول مهنة المستقبل من القراءة الى الكتابة. يتحول الى منتج بل ربما تتشكل الصحراء في هذا النص الى فهرس آخر يتمكن القارئ من خلاله ان يضع يده على الكثير من التبئير:
"لا ذاكرة للصحراء.. هي حكمة الممحاة
جسر بين ماءين
مِسبحة الرؤيا
لحية الصوفي
خاتم الاعتزال
غيث الوحي
قرنصة البازلت
ترجمان الشجرة"
الصحراء منتج هائل للتعاريف لتشكيل مكثفات كاشفة، حيث تقف هكذا جغرافية خارج سلطة المكان. خارج الثوابت.. الشاعر يعمل على تحويل كل حبة رمل الى "طرس" قادر على محو ما مكتوب وعلى كتابة مالم يُكتب.. هنا الصحراء تكون فاقدة لحكمة البداوة، حيث الركون الى الثوابت هو القانون الأكثر مواءمة مع حياة الافراد. ورغم هذا فصحراء مقداد مسعود: خلق آخر:
"أمنا الصحراء أنت ِ ولادّة لا علاقة لك بالمستكفي أو المستعصم أو بقية السيئين المقنعين بأسماءٍ حسنى، نهبوها من الأعلى.
لا علاقة لك ٍ بمذأبة الاستشراق.. بلحى النفط، لا علاقة لكِ بسواك
يا صحراء نيسابور. التتار. قمر التائه. لهاث معتزل. آية شمس، كستناء الغابة في حبة بن الخيمة" ما بين القوسين يؤكد ان القارئ يستقبل صحراء أخرى غير مخزونة في ذاكرته.. إذا صحراء - مقداد مسعود - مكان غير متوارث وإذا ما كان هناك أرث فهو لا ينتمي للدم بقدر انتمائه للمواطنة. أي ان الأرث هنا أرث مباح حاله حال الماء والهواء لذلك فأن لمقداد مسعود أكثر من أرث بين يدي سركون بولص أو بين يدي السهروردي أو المتنبي. الشاعر في - حافة كوب أزرق - يبحث عمن يوازيه في القامة وما من آخر يقف بموازاته سوى الشاعر نفسه.