ادب وفن

«العائد الى الغربة».. تنوعات الوجع العراقي / خضر عواد الخزاعي

«من رحم معاناة مجتمعنا الذي جلدته سياط الحروب، وعصفت به الأزمات على مر تأريخه المعاصر، لابد لنا من صيرورة جديدة وثقافة تلامس واقعنا بتجرد وتطرح مشاكلنا بطريقة تصل للجميع كي يشترك الجميع في التفكير والبحث عن حلول لها».
بهذه المقطع من المقدمة القصيرة للكاتب أحمد الخزاعي يفتح الباب أمام المتلقي كي تكون عوناً له في قراءة مجموعته القصصية الأولى «العائد إلى الغربة». والمتتبع لهذه النصوص السردية يلاحظ بجلاء حجم المعاناة التي نوه إليها الكاتب في مقدمته تلك، فقد قسم الكاتب مجموعته القصصية إلى قسمين، القسم الأول هو مجموعة القصص القصيرة، فيما خصص القسم الثاني، لمجموعة قصص قصيرة جداً. إسلوبياً تعامل الكاتب مع نصه السردي بطريقة مفتوحة متنقلاً بين مستوياته المختلفة، حسب اختلاف شخوصها وأماكنها وأزمانها وأحداثها، وهذا التباين في مستويات النصوص وثيماتها، أضاف لها الكثير من الثراء ومنحها المرونة في الانتقال والتنوع في نسيجها السردي الواحد، من قصص المدينة.
في مجموعة «العائد إلى الغربة» هناك أكثر من قاسم مشترك يجمع بين قصص المجموعة. فهناك العامل النفسي في هواجسه وانفعالاته والذي نجح الكاتب في تناوله وصياغته بصورٍ قريبة وصادقة، العامل الآخر المهم الذي سيطر على أجواء المجموعة هو هذا الكم الكبير من العودات، وهيَّ بالتأكيد عودات بطعم الهجرة والإغتراب، لأنها كانت في مكابداتها الروحية، مقاربة للهجرة أكثر منها للإياب، فلقد تمكن الإغتراب وبعد طول انقطاع، روحي ونفسي وليس مكاني فقط بتقاطعه مع كل تفاصيل الواقع، الإجتماعية والنفسية، والاقتصادية، من النفوس والعقول والأرواح والمشاعر، وكان محفزاً لها لتعيش تلك العزلة، وذلك الإنقطاع، لتنكفأ على نفسها، ملومة متحسرة، وخائبة، نلمس ذلك في أكثر من نص سردي، كما في قصته الأولى «الخيمة»، حيث يتحول انتظار الزوجة زوجها، الغائب/ العائد، والذي خرج ذات يوم ولم يعد، تحوّل إلى هجرة روحية في داخل أعماق الزوجة، وان كانت تلك الهجرة لا تتعدى حدود عالمها الروحي وحدود خيمتها مع ولديها، مع هذا الخيط الرفيع من الأمل الذي يجعلها تبقي باب خيمتها مفتوحاً لأكثر من عام، أما في قصة «العائد إلى الغربة» والتي منها عنوان المجموعة، والتي يجد بطلها نفسه غريباً وسط من تبقى من أهله بعد عودته من الأسر، الذي سرقه من أهله لعشر سنوات، فلقد رحلت الزوجة، وتوفيت الأم، وكبر الأبن، ولم يتبق له غير ذكريات عليه أن يعيد اجترارها بحسرة، مردداً مع نفسه، تلك الترنيمة التي لايجيدها غير المتأسفين على ضياع حياتهم «ياحريمة».
عودة أخرى بطعم الإغتراب والهجرة، لكنها هجرة أخيرة نحو الفناء، تلك التي يعيش لحظاتها الأخيرة الجندي المنسحب من الحرب، وهو يحمل على كتفه بندقيته وحقيبته التي وضع فيها كل ما يمتلك من حطام الدنيا أو كنوزها «رسائلها وكتبه». لكن «الموت الوطني» كان له بالمرصاد، بعد أن نجا من الموت قتلاً في الحرب، فيستسلم لحتمية قدره الأخير، الموت بيد أبناء جلدته، بعد أن يدس رسالة حبيبته في جيبه، لتكون رفيق رحلته الأبدية.
في مستوى آخر من المجموعة، هناك نوع آخر من الهجرات، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «الهجرات السومرية» حيث أختار الكاتب وبروح مفعمة بالتفاعل شخوصه السومريين من جنوب العراق، وهم يواجهون مصائرهم منفردين أمام قوى متجبرة، كالفقر، كما في قصة «أرض الجوع» بنفسها التراجيدي، ونهايتها المفجعة، حيث يكون الموت هو البديل الآخر لبؤس الحياة وجورها، حين يهمس الأخ بإذن شقيقته التي رحلت قبل أن يوصل لها دواءها:»نامي خوية بدرية وارتاحي»، فيما يكون الإقطاع، وجهاً آخر من وجوه تلك القوى المتسيدة لحياة الناس في تلك البقاع السومرية من أرض العراق، كما في قصة «الحشر» حين يتحول الناس إلى عبيد، من أجل أن تزدهر أرض الشيخ، فيما تبور وتموت حياة الناس، ولن يكون أمام الفلاح «حمد» وحبيبته «ليرة» إلا الهرب والهجرة إلى مدن الصفيح، التي لن تكون إلا امتداداً لحياة البؤس والكدح التي عاشاها هناك في القرية، وفي رجعية التقاليد وتخلفها ، كما في قصة «ضفائر عشتار» يكون على الصبية «فرحة» أن تدفع ثمن، حياة ابن الشيخ، حياتها وحياة حبيبها «سلمان»، الذي حاول مستبسلاً تخليصها مما كان ينتظرها من مصير اسود برفقة ذلك الشيخ المتجبر.
فيما كان الشعور بالقهر هو القاسم المشترك الآخر لمجموعة أخرى من القصص، يكون العامل النفسي والشعور العالي بالإحباط قد تمكن من ذوات ونفوس أبطاله، كما في قصة «أمطار الحزن»، حينما يتحول الفقر إلى قدر يمسك بمصائر الناس ويقودهم إلى حتفهم، فلن يكون هناك من مهرب غير البكاء والدموع، في مقاربة تاريخية مع استذكار واقعة كربلاء.
في القسم الثاني من المجموعة هناك مجموعة من القصص القصيرة جداً، تقع في «32» قصة، هيّ امتداد لقصص المجموعة الأخرى في القسم الأول، لكن ما يميزها هو الكثافة والاختزال واللغة الموجزة الثرية بالمعاني، انها ومضات تحاول ايجاز حالات الانكسار والخيبة كما في قصص:» أرق وهاجس وعبيد والفاتحون والكثير من القصص.
في مجموعته القصصية «العائد إلى الغربة» كانت هناك التقاطات مؤثرة من الواقع العراقي، بكل تنوعه الإجتماعي والبيئي، أشرت عمق الفاجعة التي أحاطت بحياة الناس، لعقود من السنين، وما زالت تعيد انتاج نفسها بصور متغيّرة، وفي هذه المجموعة يضيف القاص أحمد الخزاعي منجزاً مهماً إلى الأدب القصصي العراقي، ويترك له بصمة متميزة كمنجز أول له في عالم الأدب، يستحق القراءة والاهتمام.