ادب وفن

"بصراوية" .. رواية لإعادة الروح / عبد العزيز لازم

تحاول رواية "بصراوية" للروائي الدكتور صادق التميمي الخبير في علم النفس والتربية وتدريس اللغة الانكليزية تمثّل حجم الخسارة الرهيبة التي لحقت بالعلاقات الجميلة الشفافة بين الناس في عصرنا الحاضر.
في هذا الجانب يتم التركيز على المكان الذي ازدهرت ٍفيه تلك العلاقات وهي مدينة البصرة. حيث انصهرت في جسم العلاقات اليومية جميع الحساسيات الطائفية والاثنية بين الناس هناك في فترة تاريخية سابقة لكنها تعرضت للعطب في عصرنا الحالي بما يسجل خسارة كبرى في حياتنا بسبب سيادة العقلية الدكتاتورية ومن ثم السياسة الطائفية المنحازة لروح الاستبداد.
رغم ان الرواية تحاول ارساء معالم خارطتها على هذا الاساس ، الا انها تطور حركتها بعيدا عن ذلك الألم الذي صاحب الخسران الفاجع لعلاقات تجسد التقاليد التي بنيت على اكتاف الجهد الروحي للناس في تلك المحافظة ذات الطابع العالمي. إن هذه المدينة الكبيرة تمتلك ميزات غير متوفرة في المدن العراقية الاخرى فهي الميناء الوحيد والمنفذ المباشر على العالم للعراق، تستقبل الناس من جنسيات مختلفة فضلا عن أنها كانت ولاية عثمانية استقرت فيها مجاميع سكانية من قوميات مختلفة جاء بها الحكم العثماني وآثرت البقاء في المدينة بعد توفر اسباب السلم الاجتماعي والوئام بين الطوائف والاثنيات. إن المدينة تفتخر بالخيرات المادية التي تمتلكها ثم تهديها الى عموم المجتمع العراقي ونالت بذلك مكانة مرموقة في عيون الناس. اضافت البصرة الى ميزاتها الجميلة تلك العلاقات المتألقة بين ابنائها بعيدا عن الامراض المصنوعة في الخارج كالطائفية والاثنية والعشائرية. تلك الامراض استطاعت فرض التأثير السلبي على جسم العلاقات الاجتماعية فألحقت بها تشوهات يعيشها البصريون اليوم . لقد عبر هؤلاء الناس محنة الحروب والحصارات والانتفاضات الشعبية بخسائر غير قليلة لكنهم حافظوا بقوة على احلامهم الملونة بإعادة بناء تقاليدهم الجميلة القائمة على التضامن وروابط السلم الاهلي والدعم المتبادل بين بعضهم الذي كان سائدة في فترة زمنية غير بعيدة جدا.
تبنت رواية "بصراوية" هذه القضية مرتدية رداء شعريا حافظ عليه الكاتب حتى النهاية وكأنه يريد ان يؤكد استمرار جمال التقاليد في المدينة رغم الخراب المصنوع المستورد الى الداخل في زماننا الراهن. بل ان الكاتب حاول زخرفة الجدار السردي بمجموعة من الأغاني، منها ما كان يرددها الاطفال في المدارس ورياض الأطفال ومنها أغاني معروفة تختارها الشخصيات في لقاءاتها فضلا عن الاشعار المعبرة التي كانوا يحفظونها. إضافة الى اجواء المرح التي تسود الجلسات، مما اضفى على مجريات السرد الوانا من التفاؤل وقد عكس ذلك ايضا قوة الشخصيات وإصرارها على إدامة اللحمة فيما بينها على الرغم من اختلاف الاديان والطوائف. وعلى الرغم من ان اللحمة الاجتماعية القوية واجهت مخاطر من قبل متطرفين من الجانبين اليهودي والمسلم الا ان الرواية حسمت امرها وتخلصت من مسببي تلك المخاطر. الخطر الاول جاء من نزار المتعصب اليهودي الذي رفض ان تتزوج امه من رجل مسلم بعد وفاة والده انطلاقا من فكرة مفادها انه لا يجوز لرجل مسلم ان يهيمن على مقدرات بيت أسسه والده، وهذا ما قد يفسر على انه امتداد لنزعة صهيونية قائمة. الا ان اصرار والدته ذات الذهنية المنفتحة المسالمة كسر جدار التعصب وقررت الزواج من تاجر مسلم هو زميلها في السوق . إن التيار الذي يمثله نزار خسر موقعه بين المجموعة السكانية المتفاهمة المنسجمة مع بعضها فقرر ان يضع حدا لحياته وبقيت شخصية نزار مجرد ذكرى عزيزة على الأم التي واصلت حياتها مع زوجها الجديد وتبنت الشخصية الرئيسة الطفلة الموهوبة سالي ابنة المناضل النقابي مصطفى الأغا الذي ينحدر من اصول قوقازية.
أما الخطر الآخر الذي تم احتوائه فقد جاء من مزهر ابن عم سالي. تبنى مزهر التقاليد العشائرية البالية حول النهوة إضافة الى الطائفية لمنع زواج سالي من ضرار الذي ترك دينه وتحول الى الاسلام كي يتمكن من الزواج منها. استطاعت المجموعة السكانية المتآلفة احتواء الخطر العشائري الطائفي ايضا بإرضاء مزهر عن طريق منحه مبلغا من المال لقاء تخليه عن النهوة.
تعاني الرواية ضعفا في ضبط عنصر الزمن فهي تتحدث عن فترة ملتبسة لم يبق فيها من يهود المدينة سوى عدد من رجال الدين لا يتجاوز عددهم اصابع اليد الواحدة. هجر هؤلاء الناس مدينتهم بضغط من حملة منظمة بلغت ذروتها في اعدام احد ابناء الجالية بتهمة التجسس مطلع سبعينيات القرن الماضي وهذا ما يضعف منطق وجود فئة يهودية يمكن ان تقام معها علاقات اجتماعية واسعة راسخة. كما ان الرواية تتجاوز منطق الظروف السياسية والأمنية التي كانت سائدة بعد عام 1979 وهو عام اعتقال النقابي مصطفى الأغا وإطلاق سراحه بسهولة وهو ايضا عام الحرب العراقية الايرانية التي تلتها حروب اخرى وانتفاضات وحصارات، فجعلت الشخوص اليهودية من ابناء وبنات ام نزار يذهبون الى امريكا ويعودون في زيارات عائلية ويتجولون في احياء واسواق المدينة من دون ان يضايقهم احد ، وهو أمر لم يكن ممكنا في تلك الفترة الحساسة لأن الاجهزة الامنية كانت تنظر الى مثل هؤلاء بعين الشك والحذر. وهذا أدى الى غياب منطق اخر يتعلق بظروف نمو الشخصيات، فهي لم تتأثر بالكوارث التي حلت بالبلاد في وقت كانت شوارع البصرة تتعرض للقصف المدفعي والصاروخي بشكل يومي وقد طال ذلك القصف منطقة "بريهة " مكان الاحداث السردية ، فهي محاذية الى شارع 14تموز من الجهة الشرقية ومنطقة العشار من الجهة الشمالية ، اي انها في مركز المدينة وتقع ضمن المدى الذي يسمح للقذائف الحربية بلوغها.
أما شخصية عارف " ابو غائب" فقد بقيت جامدة معزولة عن النمو من دون ان يتم تشريحها او اشراكها بما يجري داخل علاقات الشخوص او الاحداث ، وساعد ذلك على إحداث خلل في جهد الكاتب في استكمال صورة العلاقات القائمة على نفي الطائفية والامراض الاجتماعية الاخرى التي استطاعت المجموعة السكانية المختارة الغاءها.