ادب وفن

كريري وجويسم وفالح.. أنموذجا … غناء الاهوار واثره في شعرية النواب / يوسف المحمداوي

«اشگد نده نگط عَالضلع.. ونسيت أگلك يمته.. اشگد رازقي ونيمته.. واشكثر هجرك عاشر ليالي الهوى وما لمته.. انته السحنت الليل بگليبي.. وگلت موش أنت»
من يسمع تلك الكلمات دون معرفتها مسبقا، سيحيل مرجعيتها بالتأكيد الى جنوب العراق، ويجزم وبما لايقبل الشك بأن كاتبها هو شاعر مولود من رحم تلك الارض وعاش طفولته فيها، وأتقن لهجتها. ولا يجيد تلك الحبكة الشعرية، الا شاعر من ابناء الهور، لكنها وكما يعلم جميع من عشق قصائد مظفر النواب، بأنها مقاطع من قصيدته «ياريحان».
والنواب كما هو معروف ابن الكاظمية، ولد ودرس وشبّ فيها، يرتدي زي ولهجة وطقوس العاصمة، بحذافيرها، بل تعد لهجتها متميزة بنطقها بين مناطق بغداد.
هنا تقف علامات استفهام كبيرة على طاولة الاستفسار مفادها، كيف استطاع النواب ان يجلس على عرش مملكة الشعر الشعبي العراقي كسلطان له، من خلال عشرات القصائد الرائعة التي كتبها بتلك اللهجة الصعبة، التي يقول عنها ادونيس في حوار اجريته معه، انها من اصعب اللهجات العربية على الاطلاق.
هنا يأتي الرد من السلطان في حوار أجرته مجلة "المدى" العراقية الصادرة في دمشق معه مطلع تموز 1995، قائلا: «في فترة 1956 كنا ضمن دورة ضباط احتياط، إذ ساقونا إلي السعدية في ديالى٬ ضمت شخصيات لها دور في الحركة الأدبية والفنية في العراق، مثل صلاح خالص ويوسف العاني وقادة حزب البعث من أمثال علي صالح السعدي والخشالي. دعينا من قبل أحد طلاب الدورة وهو طبيب بمناسبة العيد إلى محافظة العمارة، وكان معي صلاح الذي أعدم ويوسف العاني وإبراهيم كبة٬ وأقام لنا والد الطالب سهرة على نهر الكحلاء حضرها أشهر مغنيي الهور.. كريري وجويسم وسيد فالح.
بول روبسن
يؤكد النواب: «لأول مرة أسمع هذا الغناء، وهو غير الذي يبث من الإذاعة». كل شيء ساحر وآسر أدى إلى التصاقي بعامية العمارة٬ كل شيء منتش بطبيعة الغناء.. «المحمداوي» من جويسم، و«كرير» شخصية آسرة٬ له مجموعة من الدفوف٬ يبدأ يغني «وينحط» حتى يصل صوته عمق الهور. ينقل لك الهور وأنت هنا. صوته أشبه بصوت (بول روبسن) عميق جدا.. «جويسم» صوته رقيق جدا ناعم يطوح بالمحمداوي هو وسيد فالح.
ومن أصواتهم وغنائهم أحسست بالغنى الموجود في عالم الهور وأبعاده والحزن الذي فيه والشجن والمعاناة والفرح، وتولدت عندي رغبة شديدة أن أشاهد هذا العالم. بدأ عندي نوع من النفرة من شعر عامية المدن٬ لانه ساخر.. ناقد ليس فيه صور. صادف في تلك الفترة تعرفي على عبد الرحمن شمسي، من تلك المنطقة، وكان يلقب بلبل الجامعة. وهو من قبيلة الشموس التي تقطن أهوار العمارة٬ يملك صوتا جميلا هائلا٬ يغني في حفلات الجامعة. طلبت منه أن نذهب إلى هناك سوية حيث أهله، فسحرني القصب والطيور واللهجة الجنوبية بتنوعها".
عجينة حية
إكتشفت مفتاح السر والسحر الذي ألهم النواب.. الشاعر البغدادي، أن يطلّق لهجة قومه وبيئته ويتكلم بلهجة أهل الهور شعرا، لتصبح قصائده أغاني خالدة في أرشيف الفن العراقي والعربي. كيف تسنى له أن يحاكي لهجة الهور بمواويله ومشاحيفه وبرديه وجواميسه وصرائفه وطيوره٬ من أين أتى بالبنفسج؟ وحن وآنه احن؟ وصويحب؟ وغيرها.
هذا ما يبينه النواب في حوار صحفي مع جريدة "الحياة" اللندنية، قائلا: «استمعت لكريري وجويسم وسيد فالح، فذهلت فعلا بغنائهم، وتكشف لي عالم مهمل٬ لكنه مليء بالجمال يمكن أن يسد حاجة كبيرة في إمكانيات الخلق لدي٬ جعلني انفر من عامية المدن، كما لو وجدت طينة معجونة جيداً ومخمرة جيداً لتصنع منها تمثالا.. عالم مختمر٬ بما فيه من الطين والماء والقصب وأصوات الجواميس٬ أمام عجينة حية تماماً تنتظر أحدا ممن لديه فهم للمعاصرة الشعرية الحديثة، لينتبه إليها وليشتغل على المادة الخام الهائلة التي لا تنضب منابعها، كما كتبت عن مناطق الهور من قصائد.. لكن إلى الآن أشعر أنني لم أعمل شيئاً نهائياً٬ هذا العالم المختمر يكفي كمنبع لأعمال إبداعية هائلة».
وبيّن النواب انه من البديهي ان يحارب الديكتاتور الطبيعة في الاهوار ويقدم على تجفيفها لكون القبح دائما في حرب مع الجمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* عبد الرحمن الشمسي: شقيق سميرة مزعل أول مصورة وأ صغر معتقلة شيوعية في ميسان
* بول روبسن هو المغني والممثل الشيوعي الأميركي الذي اشتهر بصوته الرخيم ومناهضته للعنصرية.