ادب وفن

ما لا يصح دخوله على تفعيلات الابوذية (1) / د. هاشم الفريجي

البحر الذي تنظم عليه الإبوذية
يقول جميع من تصدى للابوذية أن البحر الذي تنظم عليه الإبوذية هو الوافر(ولو أني أرى غير ذلك) وأصله في العروض (مُفَاعَلَتُن مُفَاعَلَتُن مُفَاعَلَتُن)، ولا ينظم عليه تاما بل تتحول تفعيلته السباعية الأخيرة إلى الخماسية (فَعُوْلُنْ) بسبب القطف وهو حذف السبب الأخير في التفعيلة، ثم العصب الذي يؤدي إلى سكون اللام. ويدخل على تفعيلتيها الأولى والثانية زحاف العصب أيضا على اللام ويحولها إلى (مَفَاْعِيْلُنْ). ومن اشهر القصائد التي نظمت على هذا البحر معلقة عمرو بن كلثوم التي مطلعها:
ألا هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبِحِيْنَا
وَلا تُبْقِي خُمُوْرَ الأندَرِيْنَا
ويمكن أنْ ننظم إبوذية فصيحة على نفس الوزن.
فمن ذلك للكاتب:
طَرَقْتُ الْبَابَ حَتَّى كَلَّمَتْنِـي
فَلَمَّا كَلّ َمَتْنِي كَلَّمَتْنِي
فَلَو تَدْرِي بِمَاذَا كَلَّمَتْنِـْي
لأعْذَرْتَ الَّذِي نَظَمَ الْبُوْذِيَّه
وهو مولد من البيت المشهور:
طَرَقْتُ الْبَابَ حَتَّى كَلَّ مَتْنِي
فَلَمَّا كَلَّمَتْنِي كَلَّمَتْنِي
وقول الشاعر:
نَوَائِبُ لا تُرَى بِكُمُ تُرَابِي
فَمَاذَا يَفْعَلُ الآتِي تُرَابِ
خُذُوْا ذَهَبِي وَأعْطُوْنِي تُرَابِـي
ألا أنَّ التُّرَابَ هُوَ الهُوِيَّه
ومن خلال دراستي الأبوذية وجدت أن وزنها لا يخرج عن أربعة أوزان إذا أخذنا بالاعتبار تحريك ثاني الساكنين اللذين يلتقيان كثيرا في حشو الابيات.
فهي تنظم على: مفاعيلن – مفاعيلن – فعولن: مقطوفة
أو على: مفاعيلن – مفاعيلن – فعولان: مقطوفة مذالة
أو على: مفعولن – مفاعيلن – فعولن: مخرومة مقطوفة
أو على: مفعولن – مفاعيلن – فعولان:مخرومة مقطوفة مذالة
والخرم في التفعيلة الاولى والقطف والاذالة في الاخيرة.
وقد وجدت بعضا ممن يتحدثون عن الاوزان في مؤلفاتهم الشعبية لا يعرفون حقائق علم العروض ولا يجيدون تقطيع المفردات فتراهم يتخبطون كثيرا في نسبة أبيات أو قصائد الى أوزان معينة، وقد نشرت ذلك في مقالي (نقد المؤلفات الادبية الشعبية العراقية)... فكيف بالشعراء الشعبيين الذين لا علم لهم بالعروض والوزن... فالشعراء الشعبيون لا يميزون بين التفعيلات المتقاربة في وزنها مثل مَفَاعِيْلُن وفَاعِلاتُن ومَفْعُوْلاتُن ومُسْتَفْعِلُنْ، فيقومون بإدخال إحداها مكان الأخرى في الإبوذية وفي غيرها من البحور. وهذه التفعيلات تختلف بتسلسل الحروف الساكنة والمتحركة فيها مما يجعل موسيقى كل منها مختلفة عن الأخرى.
والوزن في الحقيقة ما هو إلا نغمات قصيرة متتالية بفترات زمنية متقاربة تصنعها الحروف والحركات في مقاطع البيت. ولاحظ اختلاف نغمات هذه التفعيلات وما يقابلها من الكلمات بالمقارنة مع غيرها من التفعيلات الأخرى:
مَفَاعِيْلُن: ومثالها نواعيرٌ
فَاعِلاتُن: ومثالها عاملاتٌ
مُسْتَفْعِلُنْ: ومثالها مستبشرٌ
مَفْعُوْلاتُن: ومثالها منظوماتٌ
وسوف ترى اختلاف مواقع الحركات والسكنات فيها؛ فكلها تبدأ بمتحرك وتنتهي بساكن. ولكنها تختلف بحركات حروفها بين البداية والنهاية. والحركات، وليس الحروف، في الحقيقة هي التي تنظّم لحن المفردات والتفعيلات ثم الأوزان والبحور.
إن الحديث عن علم العروض مهما كان بسيطا ومعززا بالامثلة والشروح يبقى في كثير من الأحيان (حديث طرشان) بسبب صعوبة فهم ما يجري أثناء التقطيع للمفردات.. ومقابلتها بما
يناسبها من تفعيلات واستنتاج الوزن ثم البحر لان علم العروض بحاجة الى ممارسة ودراسة مستفيضة قبل الوصول الى مثل هذه الاستنتاجات... وكثير ممن ينظمون يقول لك (بيتي موزون وانا أقرأه صحيحا) ولا يمكن إقناعه بخلل الوزن.. لانه يقيس حسب سليقته.. وسجيته وليس كل من نظم شعرا يملك سليقة سليمة.. ولا كل من حاور في العروض يعرف دقائق هذا العلم الكبير. وكأمثلة على خلل أبيات الأبدوذية سندرس بعضا منها ونقوم بتقطيعها للنظر في الخلل الذي يصيبها.
ففي هذا البيت:
دَم هِلَّن بِدَال الدَّمِع يَجْفُـوْن
عَلَى المَاچِنْتَ اَظِنْهُم گَبُل يِجْفُــوْن
الْوِدَاع إشْچَان ضَرهُم لَوَن يِجْفُــوْن
جِفوَني إوْ كِل عَذُوْل إشْتِمَت بيَّه
نجد أنَّ الشطر الثالث يبدأ ب: (الْوِدَاعْ)، وفيه زيادة ألف ولام:
وتقطيعه: الْ وِ دَا عِشْ - چَا نْ ضَر هُمْ - لَ وَن يِج فُوْنْ
و تفعيلاته:: فَا عِ لا تُـنٌ - فَـاعِ لا تُـنٌ - مَ فَـا عِي لانْ
فتحول وزن التفعيلتين الأولى والثانية بسبب ذلك إلى فَاعِلاتُنْ وهي تفعيلة بحر الرمل، والأخيرة إلى مَفَاْعِيْلانْ.
ومثل هذا كثير في الإبوذية. وتلاحظ انه يمكن كتابة الشطر الثاني بتغيير (عَلَى الْمَاچِنْتَ) إلى (عَل مَا چِنْتَ) أي بحذف ألف (عَلَىْ) والألف واللام من (الْمَاچِنْتَ). ولن يؤثر ذلك في الوزن لأنَّ هذه الحروف الثلاثة (تكتب ولا تلفظ) إذا جاءت التفعيلة الأولى مخرومة كما يلي:
دَم هِلَّن بِدَال الدَّمِع يَجْفُون
عَلْ مَا چِنْتَ أظِنْهُم گَبُلْ يِجْفُـوْن
الْوِدَاع إشْچإن ضَرْهُم لَوَن يِجْفُـوْن
جِفُوْنِي إوْ كِل عَذُوْل إشْتِمَت بيَّه
وإذا كان هذا واضحا، فإنَّ الشطر الثاني فيه مشكلة عروضية أخرى:
تقطيعه: عَلْ مَاْ چنْ - تَضِنْ هُمْ گَبُ - لْ يِجْ فُوْنْ
تفعيلاته: مَفْ عُو لُنْ - مَفـاْ عِلْ فـَعَ - لْ مَفْ عُوْلْ
وهو أنَّ آخر التفعيلة الثانية جاء متحركا (تَضِنْهُمْگَبُ) وبداية التفعيلة الأخيرة جاء ساكنا بسبب كلمة (لْ يجْ فوْنْ). وهو ما نجده أيضا في الشطر الثالث بسبب كلمة (لَوَنْ)، الذي أدى أيضا إلى تغيير تفعيلات الشطر الثالث وكما يلي بعد حذف (ألف ولام التعريف) الزائدة على الوزن من بداية الشطر:
تقطيعه: وِدَاْ عِشْ چاْ - نِضَرْ هُمْ لَوَ - نْ يِجْ فُوْن
تفعيلاته: مَفاْ عِيْ لُنْ - مَفـاْ عِلْ فَعَ - لْ مَفْ عُوْلْ
وكما هو واضح ليس من الوافر. وفي الحقيقة أن الشطر الثالث من بحر الرمل التام وتفعيلته الأخيرة مذالة (فاعلاتان). والصحيح أنَّ يكون المتحرك ساكنا والساكن متحركا كما في بيت الشاعر أبو معيشي التالي:
وَحَگِّ المَاْخِلَگْ رَبِّيْ شَبَاْهَهْ
سَبعْ نِيْرَاْنْ إلَهْ ابْگَلْبِيْ شَبَاْهَه
أعِذْرَهْ المَاْ دَرَىْ ابْرُوْحِيْ شَبَاْهَهْ
كِتَلْنِيْ المِطِّلِعْ وِيْلُوْمْ بِيَّهْ
وبتقطيع الشطر الأول نحصل على:
وَحَگْ گِلْ مَاْ - خِلَگْ رَبْ بِيْ - شَبَاْ هَهْ
مَفَا عِي لُنْ - مَفَـا عِي لُـنْ - فَعُو لُنْ
ولاحظ كيف أنَّ حرف الياء في نهاية التفعيلة الثانية جاء ساكنا، وحرف الشين في بداية التفعيلة الثالثة جاء متحركا، وهو الذي يطابق الوزن أي سكون آخر التفعيلة وحركة أولها كما أسلفنا. وسبب الخلل في:
عَلَلْمَاچِنْ - تَضِنْهُمْگَبُ - لْيجفون
هو أنَّ كلمة (گَـبُـلْ) ثانيها متحرك (هي وتد موصول) ويصبح في نهاية التفعيلة الثانية، بينما ثالثها ساكن ويصبح أول التفعيلة الثالثة، ولو استبدلناها بكلمة (يوْمْ) (وهي وتد مفروق) والتي
ثانيها ساكن وثالثها ساكن أيضا لاستقام الوزن:
عَلْمَاچِنْ - تَضِنْهُمْيَوْ - مْيِجْفُوْنْ
أمَّا الحرف الثالث من كلمة (گَبُلْ و يَوْمْ) فيمكن أنْ يكون ساكنا او متحركا ليستقيم وزن التفعيلة الأخيرة وكأنك تقول:
عللماچِنْ - تَضِنْهُمْيَوْ - مِيِجْفُوْنْ
أي بكسر الميم قبل يجفون، وهذا ما ذكرته من موضوع التقاء الساكنين في العامية وهما حرفا الواو والميم من كلمة يَوْمْ. ولا يخلو بيت إبوذية من ذلك في كثير من الأحيان. ولذلك جاز قبول
الساكن في هذه الحال باعتبار إمكان تحريكه.
وفي البيت التالي:
يحَادِي الْعِيْس بَالله إعْلَيْك مُرْهَان
إوْ گلْلِّهُم تَرَانِي ابْسِجِن مُرْهَان
إنْچَان الزَّاد عِدْهُم حِلُو مُرهَان
حِلُو لُو نِنْجِمِع كِنَّا سِوِيَّه
جاءت التفعيلة الأولى في الشطرين الثاني والثالث على وزن مفعولاتن:
إوْ گلْ لِلْ هُمْ - تَرَا نِبْ سِجِ - نْمُرْ هَان
إنْ چَا نِزْ زَاْ - دِعِدْ هُمْ حِلُ - وْمُرْ هَانْ
ولكي يستقيم الوزن يجب حذف (إنْ) من بداية كلمة (إنجان) فيصبح الشطر (چَان الزَّاد عِدْهُم حِلُو مُرهَانْ)، وبذلك تصبح تفعيلته الأولى مخرومة (مَفْعُوْلُنْ). ولا نستطيع حذف الألف وحدها لأننا لا نستطيع أنْ نقول (نِجَانْ)، مثلما يمكن أنْ نقول (نِرِيْدْ) بدل كلمة (انْرِيْدْ). والتفعيلة الثانية فيها زيادة كالتي تحدثنا عنها في (تَظِنْهُمگَبُ) في البيت السابق، فيجب أنْ يكون اللام من المقطع: (دْعِدْهُمْحِلُ) ساكنا ليستقيم الوزن. بينما هو مضموم لأنَّ الحروف التي قبل حروف العلة تأخذ حركتها منها أي الضمة إذا كان واوا والكسرة إذا كان ياء والفتحة في حالة الألف في أكثر الأحيان. كما يمكن كسر حرف الواو من (وِمرهان) لتستقيم التفعيلة الأخيرة علما أنَّ لفظ البيت كما مكتوب هكذا:
إنْ چَا نِزْ زَاْ - دْعِدْ هُمْ حِلُ - وْمُرْ هَانْ
والعروضي الصحيح:
چَا نِزْ زَاْ - دِعِدْ هُمْ زَيْ - نْمُرْ هَانْ
أي بحذف حرفي (إنْ) من كلمة (إنجان) وإبدال حلُو الذي حرفه الثاني متحرك إلى (زيْنْ) التي حرفها الثاني ساكن.. وهكذا.
إنَّ هذه التعليقات والاقتراحات بعد تحليل الأبيات عروضيا لم تكن لتذكر لولا أنَّ هنالك أبياتا كثيرة ينطبق عليها الوزن بشكله الصحيح. وهذه الأبيات السليمة عروضيا يجب أنْ تكون القياس
الذي نقيس ونقيّم عليه نقدنا لوزن أبيات الإبوذية، إذ لا يصح اعتبار الموزون وغير الموزون صحيحين، ولا تصح المساواة بينهما طالما أنَّ الشعراء يستطيعون أنْ ينظموا أبياتهم بطريقة
موزونة طبقا للعروض في تطبيقاتة على الشعر الشعبي.
ومن الأبيات الصحيحة:
يَحَادِي الْعِيْس بَالله أعْليْك وَنْبِيْه
لُمَن يِلْحَگ شِريْچ الْرُوْح وَنْبِيْه
ونِيْنِي مُوش كِلْمَن گَام وَنْبِيْه
يِوِن بِيْه الْحَدِر ضِلْعَه شِچِيَّه