ادب وفن

«أنا شيشاني».. ومحاولة الإمساك بعالمين / بقلم : توني وود ترجمة : قحطان المعموري

اتسمت أكثر الكتابات التي تناولت الموضوع الشيشاني باتخاذها أسلوب الربورتاج أو المذكرات ؛ ربما لأن هذين الأسلوبين هما الأكثر ملائمة لاستيعاب تجربة حربين طاحنتين خاضتهما المنطقة منذ عام 1994 وما رافقهما من فوضى واضطرابات إضافة الى الرعب والمعاناة اللذين عانى منهما أولئك الناجون من هاتن الحربين والتداعيات غير المعروفة التي تركتها وستتركها هذه الأوضاع مستقبلاً.
ولم يكن الأدب القصصي الشيشاني بمنأى عن ذلك الأسلوب، فقد اعتمد هو أيضاً وبشكل كبير على المذكرات الشخصية التي كتبها المحاربون، وقد بدا ذلك جلياً في قصص أركادي بابشينكو "حرب جندي واحد في الشيشان" الصادرة عام 2007 بالإنكليزية، وقصص "زاخار برليبين" وهما إثنان من بين عدد من المحاربين الشيشانيين القدماء الذين تحوّلوا فيما بعد الى مؤلفين. إن أهم ما يميز أغلب هذه القصص هو الغياب الواضح لوجهة النظر الشيشانية من المشهد، ولعل السبب الرئيس في ذلك يكمن في أن أغلب النتاج القصصي الشيشاني قد كتب بلغة الأغلبية من القراء أي الروسية ومن البعيد أن تنال وجهة النظر الشيشانية هذه تعاطف هؤلاء القراء معها.
من هنا تأتي المجموعة القصصية التي كتبها جيرمان سادولئيف وبعنوان يحمل روح التحدي وهو "أنا شيشاني"! لتسد هذا النقص ولتعّبر بجرأة وبوضوح عن وجهة النظر الشيشانية المغيّبة بكل ما يجري من أحداث ولتذهب أبعد من ظروف النزاع وحيثياته.
ولد سادولئيف عام 1973من أب شيشاني و أمٍ روسية في قرية شالي الواقعة على بعد عدة اميال جنوب شرقي العاصمة الشيشانية كروزني، حيث ترعرع هناك، لكنه غادرها عند بلوغه السادسة عشرة من عمره متوجهاً الى سان بطرسبورغ لدراسة القانون حيث مازال يعيش هناك الى يومنا هذا.
"أنا شيشاني"! التي صدرت في روسيا عام 2006 هي أولى نتاجات الكاتب و تحتوي على ثلاث قصص رئيسة إضافة الى سلسلة من القصص القصيرة، وأغلب هذه القصص يتم سردها من خلال السيّر والمذكرات الشخصية لشخصيات متشابهة إضافة إلى تعلّقها بموضوعة واحدة هي الحرب وكما يشير أحد الرواة قائلاً، "في كل صفحة أكتبها، تطبع الحرب اسمها عليها. مهما يكن الموضوع الذي أكتب فيه، فأنا أكتب عن الحرب.. تلك الحرب التي لم أشارك فيها يوماً".
كان سادولئيف وخلال حربي الشيشان، يراقب عن بعد الدمار اليومي الذي يواجهه بلده، و في أولى قصص المجموعة "سنونو واحد لا يخلق صيفاً". يحاول سادولئيف التعبير عن مشاعر الذنب واليأس اللذين يسيطران عليه وذلك من خلال استحضار جمال الطبيعة الشيشانية ومزجها بمشاعر الحسرة والحزن جراء غيابه وبعده عنها. وفي مكان آخر يصف الراوي زيارة العودة الى مدينة شالي حيث فوجئوا هناك بالمصائر التي انتهى إليها زملاء الدراسة، فمنهم من قتلته طلقة قناص، وآخر من راح ضحية قنبلة عنقودية أو من تعرّض إلى الاختطاف أو التغييب، وقد تكررت هذه السيناريوهات في أكثر قصص المجموعة.
في قصة "عندما استيقظت الدبابات" مثلاُ هناك حكايتان متشابكتان تتم روايتهما من وجهتي نظر صديقين من أصدقاء الطفولة والذين أصبحا في نهاية المطاف في جانبي الحرب المتصارعين، حيث يحدق أحدهما في وجه الآخر وهما يخفضان فوهتي بندقيتهما.
أما قصة "الماس المجنون" فإن الراوي يستعيد أحلامه وأحلام أصدقائه في سن المراهقة في أن يكونوا أعضاءً في فرقة لموسيقى الروك، إنهم يلتقون مرة أخرى اليوم ولكن في قبوٍ رطبٍ، أحدهم أصبح جندياً بجانب الروس, أما الآخرين فهم أسراه.
إن الطفولة هي الثيمة المتكرّرة في أغلب هذه القصص حيث تبدو وكأنها ذلك العالم الزائل والمتناغم الذي يعيد إلينا تلك الأجواء الأكثر براءة وشاعرية والتي تلطخت بفعل أهوال الحرب وتداعياتها. لقد حاول سادولئيف التأكيد ومن خلال الصور التي رسمها في قصصه على المستقبل الكالح الذي ينتظر كل شخوص هذه القصص، مستخدماً التأريخ والأسطورة ومحاولاً إدخالهما وبقوة في قصصه وقد بدا ذلك جلياً مثلاً في إشاراته الى عمليات الترحيل الجماعي التي حدثت عام 1944، حيث تمت تعبئة القوقازيين الشماليين في قطارات خاصة ونفيهم الى آسيا الوسطى. كما حاول سادولئيف توظيف الميثولوجيا في بعض القصص وذلك من خلال استخدامه ثيمات من الأساطير والخرافات الشيشانية، إضافة الى الهندوسية وعلى لسان الرواة لكن تأثيرها بدا ضعيفاً ولم تعطِ النصوص قوة.
وعلى الرغم من قدم هذه العناصر إلا أنه حاول ربطها بالحاضر حيث تجلى ذلك في وصف "التنّين" لسقوط القنابل العنقودية أو عندما يسمي حكومة موسكو القائمة بـ "نفط خانة". إن أهم ما تتصف به هذه القصص هو العمومية بمعنى ان الزمن نفسه كان مرتبكاً أو ان الزمن المتاح لم يعد على مستوى تلك المهمة "ليس هناك ماضٍ، ليس هناك مستقبل؛ الحاضر يعرض الماضي على شفرة اللحظوية الحادة". إن تزاحم... الوقتيات..... يعكس نثرا مشوشاً.... من خلال الحروب وأيضاً من خلال نهاية الحكم السوفياتي في وقت لاحق، مجموعة من الصدمات.... التي هي بالنسبة لجيل سادولئيف لا تقدم أكثر من ماضٍ غير قابل للاسترجاع : لقد جعلها تبدو غير قابلة للتصديق. وفي استعارة الاعتقال، يشير الراوي في قصة "الموقع رقم 1" الى أنه ربما كان مواطنو الاتحاد السوفييتي مثل الشيشانيين في عام 1944، حيث يتم نفيهم الى بلد آخر، بلد يشبه مدنه والى حدٍ كبير مدن الشيشان وبيوتها، وأشجارها و شوارعها المليئة بالحفر.
لقد كُتبت "أنا شيشاني" بنثرٍ موجز ومقتضب استطاعت المترجمة آنّا كونين من خلاله نقل عواطف ومشاعر سادولئيف وحبه العميق للبلد الذي ولد فيه. لم تخل القصص من الاستخدام غير المبرر لبعض العبارات المبتذلة إضافة الى التركيز أحياناً على الشفقة الذاتية للراوي والتي يمكن أن تكون متعبة ومضجرة. إن القصص مملوءة بالصور الحية لكل ما هو مرعب وما هو تافه أيضاً في الحرب؛ عمليات التمشيط القاسية التي ينفذها الجنود الروس مع أسواق الشارع الشيشانية التي تبيع البطيخ والسجاير جنباً الى جنب مع الأسلحة وأدوات القتل. ما هو مدهش حقاً في هذه القصص، هو الأسلوب الذي قدمت فيه والوضع الممزق للكاتب : طفل سوفيتي، روسي وشيشاني، ليس روسياً خالصاً ولا شيشانياً خالصاً، إنما أّجبر على أن يكون نصفه الأول روسيّ ونصفه الثاني شيشانيّ، وكل ذلك ممزوج بأوضاع الحرب التي ضاعفت التوتر النفسي وبشكلٍ يصعب إصلاحه.
إن قصص جيرمان سادولئيف تبدو وكأنها محاولة يائسة للإمساك بعالمين في آن واحد ـ عالم شوارع مدينة سالي الشيشانية المملوءة بالحفر التي أحدثتها القذائف، وعالم مقاهي شارع نيفسكي بروسبيكت في بطرسبورغ الروسية الذي يضج بالحياة ـ وهما عالمان يبدوان وكأنهما يحلقان بعيداً عن بعضهما البعض.