ادب وفن

حكايات وأساطير أهل الجزيرة / حياة الرايس*

قبل الوصول إلى جزيرة "جربة" بعرض السّاحل الجنوبي الشرقي للبلاد التونسية على مشارف الصحراء تلوح لك أشجار النخيل من بعيد مصطّفة على جانبي الطريق لتكون أوّل من يستقبلك في هذه الواحة الراشحة بالفيئ والرّاحة والطمأنينة كأوّل ما تمنحه لزائريها … ثم يغريك شجر النخيل باقتفاء آثاره متناثرا بين القباب القصيرة البيضاء، قصيراً أيضاً مثلها كأنه لا يريد أن يعلو عليها، لكنه في المخيال الشعبي لبنات الجزيرة يستطيع ان يعلو و يعلو … إلى السماء، خاصّة إذا احتمت به إحدى العذراوات خوفا من مراودة "محمّد بن السّلطان".
هكذا كانت تقصّ علينا مرافقتنا "محرزية قدّور" رئيسة مصلحة العلاقات العامة بديوان السياحة حكايات الجدّات وحكايات النخيل مع بنات الجزيرة ونحن بالسيّارة التي جاءت تنقلنا من المطار إلى حيث إقامتنا بالواحات ……
والنخلة عند أهل الجزيرة وفي المخيال الشعبي هي الأم وهي الأب وهي أصل السلالة وإليها يرجع الانتماء .
تقول الأسطورة على لسان مرافقتنا التي كانت تملأ وجودنا حكايات… :
"ابنة الجزيرة: فتاة ماتت أمّها قبل أن تحمل بها فنشأت في رجل أبيها، الذي خجل منها فرماها في جنان، تحت نخلة. هناك التقطها الطاووس، عطف عليها وربّاها وعندما كبرت اكتشفها "محمد بن السلطان" عند النخلة: مخلوقة تنافس الشمس في جمالها وبهائها "تقول للشمس اشرقي وإلاّ سوف أشرق مكانك" يكسوها شعر مخمليّ كالليل حتى قدميها… عندما يقترب منها "محمد بن السلطان" تخاف وتخجل وتهرب الى النخلة. تركبها لتعلو بها حتّى حدود السماء لتحميها منه، يكفي ان تقول لها:" يا نخلة بابا وأمي إرقي بي لحدّ ما توصلي جوايب السماء ".
وعندما تريد أن تنزل تقول لها:" اهبطي بي حتى توصلي لوجه الوطاء".
نلاحظ هنا كيف يطوّع المخيال الشعبي النخلة حسب رغباته: النخلة والمرأة ولعبة الإغواء الأزلية بين المرأة والرجل …
قالت: إن بين النخلة والإنسان سبعة وجوه شبه:
فهي ذات جذع منتصب .
ومنها الذكر والأنثى .
وإنها لا تثمر إلا إذا لُقًحت.
وإذا قطع رأسها ماتت.
وإذا تعرض قلبها لصدمة قويّة هلكت.
وإذا قطع سعفها لا تستطيع تعويضه من محلّه.
والنخلة مغشّاة باللّيف الشبيه بشعر الجسم في الإنسان.
عجبت:" لأوّل مرّة أنتبه الى هذا".
* * *
من المفارقات العجيبة أنه قد رافقت النخلة الإنسان يوم عرسه ويوم دفنه … ففي كثير من الحضارات و في بلادنا أيضا، يتخذ سعف النخيل لزينة الأعراس و خاصّة كرسي العريس والعروس الذي يحاط و يتوّج بأسعاف النخيل و الجريد و ربما مازالت هذه العادات في بعض الجهات الى الآن …. وفي حضارات أخرى يفرش بها قبره …
فقد عثر في مقبرة بجهة الرزيقات قرب أرمنت على مومياء من عصر ما قبل التاريخ ملفوفة في حصير من سعف النخل... كما عثر على تخلة صغيرة كاملة بإحدى مقابر سقارة حول مومياء من عصر الأسرة الأولى (حوالي 3200 ق . م . ) . كما كان آدم ( ع ) يأنس بها في الجنّة وأوصى ولده أن يضع معه في القبر جريدة من النخلة فصارت عادة الى زمان النبي عيسى ( ع ) .
أسفت فعلا لانقطاع هذه العادة فجريدة النخلة يمكن أن تدفئ جوف الارض البارد الذي سيحتوينا ذات يوم .
قالت مرافقتي: النخلة أصل الحياة فمنذ القديم و الانسان يستظّل بسعفها ويصنع من جذوعها سقوفاً وأعمدة بيوته ويتخذ منها ومن جريدها وقوده. ويصنع منها الاسرّة والحبال وسائر الاواني والاثاث. ويتخذ التمر طعاما مغذيا و يعلف بنواه ماشيته ويصنع منه عسلا و خمرا الى غير ذلك….
في هذه الواحات تغنينا كثيرا بمزايا النخلة كرمز للحياة …. وفي "جربة" أدركت أنّ النخلة تشبهني واني اعرفها منذ آلاف السنين منذ ان تغنى الإنسان القديم بها بل اعتبرها: أوّل القاطنين على الأرض حيث انها استضافت الإنسـان الأول وأعطته مفردات اللغة .. حياتها سكينة وهدوء، ولها سحرها الأخّاذ، تنمو بصمت، ولا تموت إلا بعد عمر مديد.. النظر إليها اطمئنان، والبعد عنها مكابدة، خضرتها تمنح الصـفاء والنقاء، والوفاء والهناء.. أسرارها كالبحر زاخرة بوابل الحكمـة والمعرفة ، وما أدركنا روعة الألوان إلا بها .. لها معانٍ بعيدة لم يُكشَف بعد إلا طلائعها .. هي صديقة الغيث، وهي شفاء ….
* * *
كل زاوية في "جربة" لها حكاية وكل ركن له قصّة ، دوّنتها لنا جدّاتنا في ذاكرتنا منذ الصّغر .
كما أن تلك المغاور بالجبل تشحذ الخيال وتثير الفضول لنسج قصص وحكايات لما يمكن ان يقع فيها من غرائب وعجائب. تشير مرافقتنا وكنا قد وصلنا إلى أعلى قمّة في جزيرة جربة وصرنا بباحة متحف قلاله.
هذا المتحف الذي يبدو وكأنه قلعة من قلاع القرون الوسطى تربعت على هضبة "طاسيطا" 2 كم، التي تطل على الرّيف الجربي الأسطوري شرقا وتشرف على بحر بوغرارة الجميل غربا وفي أسفل الهضبة تربض قرية قلاّلة العتيقة ، ببياض قبابها وخضرة غاباتها وزرقة بحرها كحلم جميل…. .
وقفنا جميعا إجلالا للفضاء الرحب الذي لا يحدّه حدّ وللغابات المترامية ، فـ "جربة" تتميّز بانبساط أراضيها (باستثناء بعض التلال المتناثرة في أرجائها). و قد كان القراصنة يستخدمونها في الماضي ملاذاً آمناً لهم .
وكان البحر يتراءى لنا عن بعد و هو يحضن كل هذا ويرعاه في زرقة صوفية صامتة. نفرك عيوننا ونعتذر لها عن كل جدار كانت تصطدم به في العاصمة فنحن قادمون من مدينة بين الجدار والجدار فيها جدار …
عيني صافية اليوم وبصري حديد استطيع أن ـ أرى ـ "أوديسيوس" بطل ملحمة الاوديسة وبحّارته وهم يستلقون على رمال الجزيرة البيضاء تحت أشعة الشمس الساطعة للاستمتاع بطقسها المعتدل الخلاّب ….و ها هي جربة بعد الاف السنين تصبح مدينة أحلام كل الزوار يتوافدون عليها من مختلف أنحاء العالم لمشاهدة طيور البجع على شواطئها ومساجدها الرائعة . .
سحبتُ مرافقتي من يدها إلى كرسيّ في مقهى باحة المتحف تحت إحدى الشمسيّات التي تتماوج على أرضها الرخامية الشموس والظلال… وجلسنا. أولينا ظهرينا للمُركب التجاري خلفنا وقبّلنا وجهينا للفضاء الذي سقطت عنه كل حواجز يمكن أن تحول بيننا وبينه ،بحيث تصل أبصارنا مباشرة إلى حدود البحر ..
عيوننا إلى الجبل ومغاوره. قلت: هيّا إحكي لنا حكايات هذه المغاور .. فأنت حفيدة خفيّة من حفيدات شهرزاد.. وطفقت مرافقتنا تحكي لنا قصص مغاور الجبل… لأستسلم أنا لغواية القصّ والحكي وما تحمله من سحر ودهشة. فمنذ زمن لم يعد يثير دهشتي شيء فقد ختمت الرتابة على حواسي وغشيَ التكرار خيالي.
يا له من جبل مؤثث مأهول مسكون بخيال الجدّات أثثنه كما يؤثث ساكن جديد بيتا خاليا…
هل أودعت جدّاتنا حكاياتهن في هذه المغاور أم في ذاكرة الحفيدات؟
مرافقتي تفيض حكايات وحبّا لجزيرتها… وأنا مشدودة لها، إذ لا يمكن أن أفرط في امرأة حكّاءة مثلها.
قالت: هل رأيت تلك الحفرة؟ مشيرة إلى الجبل الحزيز أمامنا قلت: نعم قالت: إن وراءها مغارة، قلت ووراء المغارة قصّة أليس كذلك؟ وقبل أن أتم جملتي أجابت: إن هذا الجبل مليء بالأرواح والأساطير والعفاريت…
قلت ألا يمكن ان تكون هذه المغاور هي التي اختبأ بها رجال اوليس هروبا من العودة معه….. ؟
"أوليس" الذي حلّت عليه اللعنة عندما أراد أن يخدع أهل طروادة ويستولي على مدينتهم بواسطة حصان خشبي عملاق معبأ بالجنود. و (أراه) وهو يتعثر تائها حين حاول العودة إلى وطنه مع مجموعة من بحارته وقد ظلّ الطريق كما جاء في ملحمة الأوديسة العظيمة ….
وأتخيّل كيف ظلت أمواج المتوسط تتقاذفه تسعة أيام وفي اليوم العاشر اكتشف الجزيرة المتظللة بسعف النخيل الممتد على طول الساحل ولكنها حين نادته تردّد، هكذا تقول الأساطير، لم يجرؤ "أوليس" على النزول إلى الجزيرة, ولكنه أرسل إليها اثنين من بحارته, فأحسن أهل الجزيرة استقبالهما وكانوا قبيلة تسمى قبيلة "آكلي اللوتس" ولا يبدو اللوتس هنا كالزهور التي تعوّدنا عليها في الرسوم المصرية القديمة, ولكنها حسب وصف هيرودوت كانت ثمرة لها شكل (التمر) ومذاقه, مازالت الجزيرة تشتهر به حتى الآن وربما هو نوع من أنواع التمر فقط . .
أحسن اهل الجزيرة استقبالهما وقدموا لهما الطعام والشراب, وخاصة "اللوتس" وعلى الفور انتابت البحّارين حالة من النشوة وغمرتهما سعادة النسيان فزهدا في السفينة والوطن وفضّلا البقاء على أرض الجزيرة واختفيا فجاة عن الأنظار و يقال أنهما دخلا المغارات و لم يخرجا منها ابدا و تقول روايات أخرى …. ولم يكن هناك بدّ أمام "أوليس" إلا أن يبحث عنهما و أن يعيدهما بالقوة . بحث في كل مكان وأخيرا دلّه أحد القوم على مغارة تسمّى كهف النسيان وهناك وجد انهما نسيا البحر والسفينة والأهل و الوطن ونسيا "أوليس" نفسه.
ارتعب "أوليس" وخشي أن يصيبه النسيان هو ايضا في المغارة فأنقذ نفسه واستطاع ان يخلّصها من عفاريت النسيان …. ولكنّه استجلب البحارين بواسطة أهل القرية الذين يعرفون كيف يتحايلون على العفاريت و قد سقوهم شراب زهرة اللوتس او تمرة النسيان فخارت قوّتهم …. و منعوها عن البحارين وقد استفاقا … فحملوهما الى أوليس الذي قيّدهما إلى صواري السفينة حتى لا يلقيا بأنفسهما في البحر, ورحلت السفينة وهما يبكيان وينوحان ….
التفت الى مرافقتي و قلت لها : أفهم الآن لماذا لم يريدا الرجوع ومغادرة هذه الارض …….
فجزيرة جربة ليست لؤلؤة الساحل التونسي فقط, ولكنها أيضًا جزء من أساطير البحر المتوسط, تحدث عنها اثنان من أعظم الشعراء, هوميروس في الأوديسة, وفرجيل في الإنيادة, وكتب عنها الروائي الشهير غوستاف فلوبير مؤلف (مدام بوفاري) في روايته التاريخية (سلامبو) عندما شهدت ازدهار قرطاج .
كنت مستمتعة في مقهى المتحف بين تموجات الظلال والشموس استمع إلى أغرب الحكايات وأفكر بحسرة في كل ذلك التراث الحكائي، الشّفوي، الشّعبي والنسائي غير المدوّن المغترب عن ثقافتنا غربتين، غربة لأنه ينتمي إلى الأدب الشعبي المغمور بفعل طغيان الأدب الرسمي. واخرى لأنه ينتمي إلى ذاكرة نسائية (خاصة في حكايات بنات الجزيرة و غيرها كثير… ) لم تعترف بها مدوّنة التاريخ إلى الآن في ثقافة ما زالت مدوّنتها الرسمية ذكورية .
ــــــــــــ
* كاتبة من تونس