ادب وفن

"أنا ومن بعدي الفصول".. وإشارة المدلول / عباس باني المالكي

لكي ندخل إلى أي نص شعري يحتوي دلالات واسعة من الانزياح اللغوي، من أجل تحقيق لحظة الحضور المعنوي لهذا النص، علينا أن نعرف التوجه الدلالي لهذا لانزياح، ونثبت إلى أي المذاهب الأدبية التي تكتب بها الشاعرة شذى عسكر نصوص مجموعتها "أنا ومن بعدي الفصول" وهذا يجعلنا نتدرج في الوصول إلى الفهم المعنوي، حيث اهتم الرومانتيكيون بالخيال وأثره في تكوين الصورة الشعرية وكما قال الشاعر المتصوف وليم بليك "ان الصورة الكاملة التي يبدعها الشاعر لا يستخلصها من الطبيعة وإنما هي تنشأ في نفسه وتأتيه عن طريق الخيال". والخيال كما يتصوره الرومانتيكيون هو رؤية مقدسة هو عالم الأبدية أي العالم الذي يعلو على الواقع الحسي. وقد استطاعت الشاعرة أن تقدم نصا شعريا متكاملا في قصيدة النثر، بوجدانية عالية التصور ضمن رموزها التي أنشأتها في هذه المجموعة، كما استطاعت أن تقدم تصورا إدراكيا صوريا شعريا في الوجود وفي اللغة وفق اللحظة التي تندفع منها أو فيها بتقنياتها التي تكمن في طرح ما هو له صلة بها، حيث تشذب أو تطرح كل ما يمتلك تصورها الإنساني اتجاه كل ما هو قريب إلى معناها من أجل تكثيف دالة النصوص، ولا ترتكز على اللاوعي في التداعي بل تحاول بناء جملتها الشعرية اعتمادا على هاجسها الوجداني لكي تصنع صورة شعرية مفعمة بأحاسيسها وحسب ذائقتها التي تعيشها اتجاه الأشياء ومسميات رموزها:
"لنلتقي بأوجاعنا، المتكدسة طوال تلك العصور، في طواحين ليلة عيد الميلاد، ونحرقها في مشاعر الأتون، ثم ننثرها من كوة، صومعتنا الدافئة، لسافيات الريح الشتائية، تقبرها موجات الصقيع، لنزيح الغمائم، التي حجبت، نور الشمس الذهبية، على تلك السنين التي خلت، تجرعنا الألم، للأحكام العرفية، على حضارتنا، بالإقامة الجبرية".
الشاعرة قد وصلت إلى حرفية المعنى وبشكل انسيابي، لأنها استطاعت أن تتنقل بين مسارات اللغة بحرفة مدركة لخضم مشاعرها، والمحفز لهذه المشاعر هي الأوجاع، دون أن تبتعد عنها لكي تبقى ضمنها ولا تبتعد عن شكل النص وفي الوقت نفسه تحافظ على مكنون النص حيث نلاحظ هنا تشظي مظهرية النص ولكن في المستوى الداخلي نفسه ، الذي يوصل إلى المعني الذي تسعى أليه الشاعرة نفسه، حيث نلاحظ تبدأ بالجمع لأنها تحدد وجعها من خلال وجع الآخرين ، فالأوجاع التي حولها ما هي إلا وجع كل من حولها لأن الأسباب لهذه الأوجاع متشابهة، ولشعورها بتطابق هذه الأوجاع. وهذا دال على أن الإنسان قد يفترق في القضايا الأخرى ، لكنه يتوحد في الوجع لأن الأسباب المؤدية إلى هذا هي ذاتها ، لهذا هي تطلب أن يتخلصوا من هذه الأوجاع التي تكدست طول عصور، وتطلب أن تتحرر حياتهم منها، من أجل أن تولد حياتهم من جديد بعيدا عن هذا الوجع المتكدس في أرواحهم، وتطلب أن تحرق هذه الأوجاع ونثرها في كوة لكي لا يلتفتون إليها أو يشعرون بها مرة أخرى، لأن حرقها يعني انتهاءها كليا، ومن أجل أن لا تعود بل عليهم أن يعودوا إلى دفء العلاقات من خلال الترابط بينهما بشكل كبير وتحقيق صومعة الدفء بينهما، لكي لا تتحول العلاقات بينهم إلى سافيات الريح الشتائية وتعصف بهم موجات الصقيع بل عليهم قبرها، من أجل أن يعاد كل شيء إلى طبيعته من الترابط الاجتماعي ويعيشون دفء العلاقات الإنسانية. والشاعرة هنا تحدد الدلالة الفهمية التي تحدد التأويل المعنوي للأسباب التي سببت الأوجاع وهي الفرقة التي حدثت بينهم، لهذا تطالب أن تعاد العلاقات الاجتماعية من خلال الترابط ومحبة بعضهم "لنلتقي بأوجاعنا، المتكدسة طوال تلك العصور، في طواحين ليلة عيد الميلاد، ونحرقها في مشاعر الأتون، ثم ننثرها من كوة، صومعتنا الدافئة، إلى سافيات الريح الشتائية، تقبرها موجات الصقيع".
تستمر الشاعرة في طرح الأزمة الحقيقة التي يعيشها المجتمع بسبب الفرقة بين أفراده، وتحاول أن تحدد الدلالة التي تعطي النص البعد الإنساني الواسع، من خلال اعطاء الأسباب التي أدت بالمجتمع إلى الفرقة، لهذا تحاول أن تبين ما تسبب هذه الفرقة من أزمات ترهق الجميع، لهذا تطالب أن تكون المحبة هي السائدة بين كل أفراد المجتمع دون تفرقة، وهذه هي الحقيقة التي يجب أن يعيشها الكل.
استطاعت الشاعرة أن تحدد الدلالة من خلال الإشارة الخفية، أي بنت النص على نمو الدلالة من فعل الإشارة التي تحدد الأسباب لكل ما يدور حولها، وقد حققت كل هذا من خلال المشهدية البصرية لذهنية فكرة النص والتي حددت أطرها التأويلية التكوينية لحالة السيكولوجية الإنسان حين تنعدم المحبة بينهما وما سبب كل هذا الفراق وانعدام الأمان في هذا المجتمع:
"غرق المركب، في سير أغواره، في ليلة حالكة، مترعة كانت، بزهرة البيلسان، اشرأبت تويجاتها، أمواج حروفه، اختنقت غيظا، غصصها آخر الكلام، فتيت مشاعره، أينعت بين ثنايا أضلعه، براعم النسيان".
مجموعة الشاعرة شذى عسكر تضج بالمواقف الإنسانية التي تحدد ما يعيشه الإنسان حين يفقد إحدى ركائز الحياة سواء كانت هذه الركائز داخلة أو في المحيط حوله، وهي تعتبره يعيش ذاتيين ذات الداخلية له والذات الخارجية التي تمثل مظهرية الحياة المحيطة به، والرموز تتكون داخل الإنسان والتي يرى من خلالها رموزه الخارجية، وقد استخدمت لغة شعرية وسعت من قدرتها على تكثيف المفردة والترميز للمعنى وليس الوصول إليه مباشرة أو الإلحاح على توصيله، وفي هذا النص تحاول أن تعطي الإشارة إلى الإنسان الذي يفقد كل شيء ولا يبقى شيء حوله، ويحاول أن يستعيد ذاته التي فقدت الكثير "غرق المركب" وقد بنت دلالتها الرمزية على عمق الخسارة التي تصيب الإنسان والتي تؤدي به إلى الاختناق والغيظ، ومع هذا لا يفقد الأمل، ونجدها تحاول أن تشير إلى الدلالة من خلال الدالة التضمينية وفعل أشارة المدلول أي أنها تعطي الدلالة النصية البعد الخفي داخل النص فهي تشير إليه دون أن تحدده وهذا ما يجعل نصها مكتنزا بالدالة الأفقية التي تؤشر كل أبعاد الحالة التي تريدها داخل النص والوصول بها إلى المعنى الذي ينمو بشكل متناسل لكي يحقق الصوت الداخلي للنص، أي أن الذي يميز نصوصها البعد الدلالي الإشاري وفق مدلولها الخفي، ونجدها هنا تتحدث عن الخسارة الداخلية التي توصل إلى اليأس وقد استخدمت زهرة البيلسان كدلالة على العطاء.
والشاعرة استطاعت أن تبني نصا ينمو جوهريا ويعطي النتيجة التي تؤشر إلى أن كل شيء ينتهي، إذا لم يكن في هذا المجتمع المحبة والتقدير المتبادل، وهذا يؤدي إلى النسيان والعزلة داخله:
"أسدل جفنيك، يا طائر الحب، واهجع على وثر ساعديه، دجى ليالي الشتاء الطويلة، دثارك نسج، زغب الحمام، والدخن التقطه، من بين شفتيه، توسد على إيقاع نبضي، ليدندن لك حتى الصباح، لا تخش شباك الصياد، ولا مخالب هر، أعياه السهاد، عد. . وغرد أعذب ألحانك، لتولد من إيقاعها، قصيدة، رومانسية".
الشاعرة في نصوص مجموعتها هذه تحاول أن تجعل البحث عن المحبة, هي المفصل الأساس في الحياة لأنه هو من يجعل الحياة جميلة ورومانسية قابلة للعيش والاستمرار فيها وهي بهذا استطاعت أن توصلنا إلى هذه القناعة أن عدم وجود الحب يوصلنا إلى مصير إنساني تنعدم فيه الحياة، وقد استخدمت التداعي ولكن ليس بحرفة السرياليين والغوص بصوفية مفرطة في الحلم ، لأن ما أرادت أن توصلنا إليه هو الحقيقة العبثية لمصير الإنسان عندما تنعدم المحبة، فهي تطلب من طائر الحب أن يهجع رغم دجى ليالي الشتاء الطويلة، ولكن لا بد أن يشرق الحب مع الصباح، أي لا يمكن أن نتجاوز هذا الليل إلا بالحب، وسوف يأتي الصباح ملؤه الحب والحياة "أسدل جفنيك، يا طائر الحب، واهجع على وثر ساعديه، دجى ليالي الشتاء الطويلة، دثارك نسج، زغب الحمام، والدخن التقطه، من بين شفتيه، توسد على إيقاع نبضي، ليدندن لك حتى الصباح".
على طائر الحب اذن أن يستمر في تغريد أعذب الألحان لكي تولد على إيقاع هذه الدندنة قصيدة حب، أي يجب علينا أن نستمر في الإنشاد للحب رغم وجود أشياء تحاول أن تمنع الحب، فالحياة لا يمكن أن تتم بدونه "لا تخش شباك الصياد، ولا مخالب هر، أعياه السهاد، عد.. وغرد أعذب ألحانك، لتولد من إيقاعها، قصيدة، رومانسية"، والشاعرة قد بينت قدرتها على إعطاء الأشياء المخفية التي تجعل الحياة لا تطاق لعدم وجود الحب والمحبة، وقد بنت دلالاتها النصية على الحس الشعوري داخل النص وفق الدلالة التضمينية التي تشير إليها وحسب تطور الإيقاع الداخلي لهذا النص، ونشعر أنها تحدد مسار النص وتتركه ينمو وفق سياقات هاجسها الذهني التصوري للفكرة التي تريد أن توصلها إلى المتلقي، بالطبع هذا يتطلب منها البقاء على وعي كامل بمسالك النص وإشكالياته، وبدون الإفراط في الإشارة إلى المعنى الذي تريد أن تحققه، ولكنها في الوقت نفس أبقتنا مشدودين إلى ما أرادت أن نصل إليه، الذي هو في حالة عدم وجود المحبة والمصير البشري المجهول حين تنعدم المحبة داخل المجتمع الإنساني، وحققت نصوصا متماسكة في فكرتها الجوهرية دون الإخلال بالفكر الدلالي الشعوري لشاعرية النصوص.