ادب وفن

تأملات أولية في كفاية كتابين مسرحيين / جاسم المطير

تعرفت الى الصديق احمد شرجي منذ اكثر من عقد ونصف من الزمان، أي منذ ان كان مقيما في البلاد المنخفضة "هولندا" يتابع بجد مجريات إعداد نفسه للمسرح في البلاد المرتفعة "العراق" أي لمكانٍ ما في المسرح العراقي وزمانه.
زارني هذا الصديق برفقة الشاعر حميد حداد ، قبل شهرين، خلال وجوده في لاهاي في العطلة الدراسية الجامعية. شكرته على هديته الثمينة "كتابين من تأليفه". الاول عنوانه "سيميولوجيا الممثل" والثاني بعنوان "سيميولوجيا المسرح". بالنسبة لي وجدت نفسي خلال زمن قراءتهما كأنني شخص يصعد على شجرة خشنة مركّزا، بيدي وعيني، كي لا اسقط عنها.
خلال قراءتي الكتابين وانا في حال من الشعور بأنني في اعلى الشجرة ممسكا بأغصانها المتفرعة ، وجدتُ هذا الفنان قد حفر له مكانا مرموقا في التاريخ المسرحي العراقي. سار هذا الفنان - الباحث بخطى واثقة واسعة، تدريجيا، نحو طريق العطاء وانهاض المسرح العراقي المكبوتة افعاله منذ زمن الحروب ومشكلات الدولة العراقية الغافلة لاطار الفن المسرحي العراقي المحاط بالفقر والصعاب المتعددة الاشكال.
أصدقكم القول ان فترة إعداد الدكتور احمد شرجي نفسه، التي اشرت إليها آنفا، جعلت منه باحثا جادا في الفنون المسرحية ونظرياتها ومتابعة اصولها. بدا لي ان حضارة الحداثة المسرحية في القول والبحث والشرح والتعبير كانت موضع بحثه العميق ، كما وجدتها في الكتابين ذات تأثير مباشر على تكوينه الفكري – الفني في المعاصرة المسرحية. بدا لي، ايضا، ان نهجه الاول والرئيس هو ادخال ابعاد الحداثة العلمية غير المنفصلة عن الكلمات والمصطلحات الى عالم المسرح العراقي.
سمعتُ احدى ابجديات البحث العلمي في كتابه "سيميولوجيا الممثل" - الصادر من مكتبة عدنان- بغداد بالمشاركة مع داري نشر سوريتين – انه امتلك منطقا يوحّد المسرح ويوحّد عطاء الممثل المسرحي. باسم الكلمة والمصطلح امتلك الدكتور احمد شرجي، في التحليل والتجريب، افكار رفع المسرح العراقي الى المستوى المسرحي النظري العالمي، لعل الفنان احمد شرجي حاول بهذا ، ان يتخطى حدود الارض العراقية من باب الدخول اليها ومن باب الخروج ايضا.
دخل من الباب الاول باستقلالية ومنهاج وحرية ليرتقي بفنونه الشخصية وبنظرياته مثلما ارتقى بلغة المسرح العراقي ودراساته الى مستوى طاقة التجديد والحداثة.
من الباب الثاني خرج الدكتور احمد شرجي للإطلال، اكاديمياً، امام طلبته بمراحل الانتقال من جيل الى جيل جديد ، بمغامرات نظرية وتجريبية، كي يكونوا فنانين مسرحيين بمستوى التفاعل الصميم مع المسرح العربي والعالمي. موجة نظرية ركبها الفنان احمد شرجي، فيها مغامرة اقتران نظري متألق بين الماضي والحاضر، بين المغمور والضائع، في المسرح العراقي، الذي اثبت صلابته منذ بداية خمسينيات القرن العشرين. كان جهده في هذا الكتاب تثبيت حقيقة مسرحية مهمة وهي حقيقة "سيميولوجيا الممثل" بمعنى "مداخلات علاماته" بهذا الكتاب بهذه النظرية.
بهذا الجهد الابداعي ساهم الفنان احمد شرجي ليس فقط في انقاذ المسرح العراقي من التردي والهبوط، بل ضَمَنَ مصير مستقبله بترقية وعي الممثل العراقي وجعله متراصفا ، في شرفة دراسات المسرح العراقي ، على ضوء تجارب ونظريات المسرحيين العالميين ومنظريه وتخليص طوابير الممثلين العراقيين الشباب من خريجي معاهد واكاديمية الفنون الجميلة ، من الضعف والركاكة في فهم علامات الممثل ودورها على خشبة المسرح، خاصة في ظروفنا الحالية حيث بريق النشاط المسرحي ما زال هابطاً.
لعل طاقة المسرح في تأليف هذين الكتابين بمجهود عميق من الفنان احمد شرجي قد كشفت او تكشف ممكناته من دون التعالي على التاريخ والتاريخ المسرحي العراقي بالذات.
اعتقد جازما ان أي فنان مسرحي ، ممثلا كان او مخرجا او كاتبا او فنيا مهنيا ، يريد ان يرتقي بعمله وعقله وارادته وفنونه ما عليه الا متابعة مجد هذا الباحث الفني المسمى احمد شرجي، فقد امتلك بالكتابين السيميولوجيين ، مادتين غنيتين ترفعان المسرح العراقي الى اعلى وتدفعانه بخطى مهمة الى امام لما فيهما من صفاء علمي وانجذاب مسرحي.
في الكتابين وجدت مادية (العلامات المسرحية) واصولية (علامات الممثل) في المسرح، تابعها المؤلف الدكتور احمد شرجي من المسرح الاغريقي حتى مسرح برخت في ألمانيا مرورا بستانسلافسكي في روسيا. جهد نظري فائق المتعة والفائدة تناول فيه احدى اهم القضايا الفنية المفيدة جدا للمسرح العراقي المتراوح، الآن، بين الحركة والجمود. لم يتردد الدكتور احمد شرجي بالتأمل فيها تأملا متسلسلا ، عميقا ومتماسكا، ليطالعنا في تجارب ومفاهيم عالمية متعلقة، جذريا، بالوحدة المسرحية التجريبية ذات التأثير الشامل، المتبادل، التي تعزز احداها الاخرى، مهما طالت المسافات وتباعد التاريخ وتعددت التجارب.