ادب وفن

قراءة في تجربة ضياء جبيلي .. بعيدا عن المعنى قريبا من المبنى / حميد حسن جعفر

قد لا يكون المبدع ضياء جبيلي قد قرأ أو اطلع على محاولة صناعة حالة إبداعية تكفلها قصاصون شباب في سبعينيات القرن الماضي ،
إنها محاولة كتابة نص ينتمي إلى المقالة ولكن عن طريق الدخول عبر حقل القصة القصيرة --تحديدا --، إنها "المقاصة".
قد لا يتذكر هذا الفعل، المحاولة إلا من كان حيا وظل حيا، إلا من كان متابعا للنص القصصي في تلك الحقبة، حيث طالت يد السلطة فوق أيدي الجميع.
"تريد ارنب أخذ ارنب ،تريد غزال أخذ ارنب"
هكذا كان الفكر الذكوري العروبي الفحولي، فكر الممنوعات و صناعة المقدسات.
ضياء جبيلي بعلمه أو من دون علمه يعمل وضمن فعل إنتاجي وليست تنظيري، على كتابة نص فيه الكثير من الإعلام - وليس الإعلان - فيه الكثير من حرفيات الصحافة -- حيث الوضوح والمباشرة -- وفيه الكثير من مفاصل السرد القصصي.
القارئ الحصيف لا يمكنه أن يتخلى عن أحد طرفي الفعل الإبداعي، طرف الإعلام و الكشف، وطرف العلاقات الانسانية، حين يتحول الحب مرة نحو الشهادة، وأخرى نحو قتل الآخر.
للقارئ الحق في أن يحمل النص ما يشاء "فهو القارئ، الكاتب" بدءا بالإعلام والإعلان وانتهاء بالإبداع القصصي.
من الممكن أن يشكل النص مقالا صحفيا، أو نصا سرديا، أو إدانة للعنف، أو إشادة بالحب، أو احتفاء بالمرأة، وحالة تجريم لذكورة المقاتل المتأسلم.
ضياء جبيلي لا يترك شخصياته سائبة، من غير عناوين، كائنات النص المرتبطة بشبكتيهما إلى شيء من العنكبوتية، ما أن تتصور أو تتوقع هذه الشخصية أو تلك ،من أنها قد أنهت دورها وما عاد القارئ أو القصة بحاجة لها، ما أن تركن إلى العتمة أو السكون حتى تمتد يد هذا أو أصابع ذاك، سواء كان القاص ذاته أو القارئ القادر على الإضافة، أو ربما إحدى شخصيات القص،فما من إهمال ينتج من مصادفة أو عن قصدية ، حتى الحجارة، حجارة الحبر، الحياة يحولها القاص أو من يمتلك تخويلا من القاص نفسه ، يحولها --أنها تشكل أكثر من رمز أو ايحاء أو إشارة، يحولها إلى سبب للكراهية والموت.
لا بد للقارئ أن يتذكر -- صخرة سيزيف - حين يدقق بـ -- صخرة شيرين --
لقد كان وعي القاص شديدا بجزئيات النص و منذ البداية ،منذ الحجر الأول، استطاع أن يوفر فعلا أو وظيفة للحجارة المحتفظ بها.
إبداع القاص - أيا كان - هو أن لا تتحول كائناته إلى نفايات سردية، أو إلى بطارية جافة غير قابلة للشحن.
القاص المبدع مرتبط بما يخلق من كائنات سردية، فكثيرا ما يعمل هذا القاص أو ذاك، من شخصية ما - في نص سردي ما - أن يستحضرها وقت ما يشاء، لا ليستفرغ قدراتها ويتركها قشرة ومجموعة ألياف، بل القاص المبدع هو من يعيد الى شخصياته أدوارها وامكاناتها وقدراتها، وفق مفردات النص الجديد مع ضرورة تدمير الثوابت السابقة واستبدالها بالمتحركات، الاختلافات.
ضياء جبيلي بين يديه شيء من كيمياء القص، بين يديه، ترتفع بنية النص ،تلك البنية غير الخاضعة للانهيارات!
ضياء جبيلي يقشر التاريخ الشخصي للذكورة.
ما من ضباب، ولكن هناك ما خلف الوضوح من قراءات لا يمكن أن تتم بعيدا عن تقليب الأمور،
هذا الطفل صاحب الشعر العكش وربما المصاب بالبلهارسيا، غير المصاب بتجزئة جسده، من أجل طير لم يره، ولكن يقال - انه فوق السطح - قد يكون السارد ذاته القادرة على كشف الآخر - ولكن الأخ - منح - كان قد يكون وهما، و لكن جذوره تمتد عميقا في أرض رخوة، من الذكورية التي لا تتوانى في تحويل الذكور - الذين لم يبلغوا الرشد -إلى كائنات غير قادرة على المقاومة أو المنافسة ،
لقد كانت الطفولة - التي خرجت من الحياة - لا من الفراغ، أكثر قدرة على صناعة الغواية، لا من أجل التفريط بالحياة كما يعمل - منح - بل من أجل استعادة الحياة.
- خمس وخمسون عاما - وهو يتجول في الجنة، المدينة التي استبدلها ب - عمود كهرباء، ومع سيجارة سومر سن طويل ومسبحة كهرمان - مدينة لم يروها من قبل.
ضياء جبيلي يدخل إلى المعترك الحياة من دون مقدمات من دون استهلالات والقارئ منقاد اليه، من أجل الوصول إلى الفعل الكاشف، معه كان من قبل ذلك منقادا إلى رؤية الطفل.
ان التأريخ يعيده القاص إلى الوراء، إلى ازمنة "سومر سن طويل، الألماني" حيث الفكر الذكوري الذي يحاول أن يتقدم به كحل لمعضلات الحياة، الذكر الذي فقد عفته، غشاء بكارته، أنه يحاول استعادتها لا عن طريق الترقيع، التجميل ، بل عن طريق إلغاء عفة الآخر، انه فقد عفته على يد آخر عمره - خمس و خمسون عاما -
ضياء جبيلي يؤشر شظاياه، رموزه، بعيدا عن القارئ ، بعيدا عن حالة الاكتشاف السهلة، رموز لا تثير الريبة، "طعنات، زخارف، آثار" تخفي من ورائها آثار تاريخ بحاجة إلى كادر، إلى حفريات، في أرض، قد لا تكون أرضا رخوة.
ضياء جبيلي معمار يبني تحت السطح - حاله حال الآثاريين، وعلى القارئ أن يبدأ بالقشرة، وصولا إلى - الطين الحري - آخر أو اول الطبقات، حيث الأصول ، الاوليات، حيث ما يمكن أن ينتمي إلى "كسر العين" وتحويل الإنسان الآخر، الطفل إلى - اللا ذكر - هذا الذي سوف يتحول إلى قادر على الأخذ بالثأر.
مجتمع يقوم على مجموعة أخطاء.
هل من الممكن تصحيح هذه الأخطاء عبر مواقف تنتمي إلى كائن اسمه سرديات - ضياء جبيلي - بقدر انتمائها إلى الواقع الواضح فهي تنتمي إلى الـ لاواقع ، الغامض، فقد يعتقد القارئ أن الذي أمامه جدار من زجاج نصف شفاف، يريه أشباحا، إلا أن الحقيقة المفترضة تقول: أن لا زجاج مضبب، ولا زجاج نصف شفاف ، إلا أن الإنسان - القارئ - وهذا قول نستعين به للوصول إلى ما وراء الجدار، الوهم، هذا الإنسان القارئ مصاب بالماء الأبيض ، أو مصاب بعمى الألوان ،فلا يرى من الحياة ، "كما – منح - والذي قبله" إلا الأبيض والأسود، "الفاعل و المفعول به".
من - والصبيان الذي يحاول – منح - استمالتهم للصعود إلى السطح "قد لا يكون هناك سطح ، وأن كان هناك سطح، قد لا يكون هناك طيور حب -هناك فعل مبيت من أجل تدمير الآخر.
أن علامات وإشارات، "دنك يا حلو ليصيبك القناص"
و"اتبعني ستعرف"
و"وصلنا لو بعد بعد اشويه للجعب"
و"الرجل ذو الخمسة و الخمسين عاما"
و"السبحة الكهرمان"
و"سيجارة السومر سن طويل"
كل هذه الشواخص بحاجة إلى قارئ قادر على الحفر في الموقد السردي للمبدع ضياء جبيلي ،
لقد كان - ضياء جبيلي - يمارس فعل القنص للرموز الشخصانية، أو الإشارات أو العبارات وعلامات الأفعال الشعبية والاستفادة من التاريخ الشعبي، المتداول الذي يخص الأبيض و الأسود "الصبي الذي دون - منح - ذاته الذي وجد نفسه وجها لوجه مع تاريخ الأول الذي يعمل على تغييبه من خلال صناعة تاريخ مماثل.
ضياء جبيلي مقاول حكي، مهندس معمار، عامل بناء، مجهز مواد إنشائية، انه يشتغل عبر عنوان "كرسته وعمل" من أجل إنتاج بنية سردية تعود إليه لا الى سواه.