ادب وفن

رحيل الزاهــد... عادل كامل / جاسم عاصي

خسارة جديدة تواجه المشهد الثقافي العراقي عامة، والفن التشكيلي خاصة. ذلك برحيل الفنان والناقد عادل كامل بعد معاناة مع المرض.
إن مسيرة الفنان طويلة وعميقة التداول. فمن سيرته وهو يواكب الرواد كجواد سليم وحافظ الدروبي، وصولاً ومواكباً لكل الاتجاهات والجماعات الفنية عبر تاريخ الفن التشكيلي في العراق. فقد كان دؤوباً في تقصّي التوجهات الفنية، يتعامل معها بعلمية دقيقة، ووفق رؤى ذاتية قارّة، هي حصيلة الثقافة العامة والمتخصصة. فثقافته ومعارفه ليست مقتصرة على الفن التشكيلي ومداراته، بل أنه كتب القصة والرواية، وله فيها اصدارات مهمة ومؤشرة لوعي فني عال، ابتداء من "صوت الغابة" وصولاً إلى "الأوثان". إذ يصح قول "إرنست همنغواي" على تجربته بشكلها العام "الحقيقي مصنوع من التجربة والمعرفة" فحياته منغمسة في التجريب في اشد حالاته الحرجة والاستثنائية، بما صاغ من سيرة قلميه عبر مسيرة تجوّال سار خلالها في رحاب أروقة الأدب والفن والفلسفة. وبما أتاحت له فرصة النجاة من هذه الممارسات الإبداعية والتوجه نحو غيرها هي أكثرها استثناء معرفياً. وفي غالب الأحيان نجده يخوض وسطها جميعا ً بسباحة متوازنة. وتلك سمة أراها تعمّق التجربة، وتؤصل المعاني والاجتراحات المراد منها التأصيل والاستنبات وتحقيق الهوية الذاتية. ولا أجد في ذلك غرابة، وأقصد بها الشمولية الثقافية والمعرفية التي أدت إلى التطبيقات المثيرة. إذ لم تُبعده كل هذه الممارسات الإبداعية عن جذوره الأولى في كوّنه فنانا ً تشكيليا ً ذي حراك متنام ومتجدد على صعيد البني الفكرية والجمالية. فرسوماته تتداول فكراً فلسفياً، وفي كثير منها يتخذ من الجسد مداراً جدلياً في اللوحة. وكل هذا لم يحرفه أيضا ًعن صيرورة مهمة في نتاجه الإبداعي المتنوع، ألا وهو الهم الفلسفي، الذي كما أرى ترّحل إليه جينيا ً بتأثير الثقافة والمعرفة المكثفة. لقد صيغ تكوينه من طين سومر وماء المسطحات وأقلام القصب وطرس البردي، فحمل جيناته المعرفية باتجاه المركز المغري في الاصطفاف مع كبار المفكرين والفنانين. وفعلاً كانت علاقته بالمفكر والمبدع الكبير جبرا إبراهيم جبرا أكثر عمقاً وتمَثل شخصيته في روايته "رغبات قيد الاستيقاظ"، وهي رواية يتحكم فيها الجدل والحوار الثقافي والمعرفي، بما فيه الفلسفي والجمالي. وكان كتابه المهم "الأوثان" ذي محتوى لرؤى فلسفية كونية لابد من الالتفات إليه وطبعه وشيوعه في سوق الكتب. حيث أرى أنه خلاصة لتجربته عامة، احتوى نظرته الفلسفية للكون والوجود. استلهم الفنان الحكمة من أفواه الجدّات والشيوخ ذوي البلاغة الفطرية، وله في الحكيم السومري "إحيقار" مثالا ً شخصيا ً.وفي الحكمة السومرية التي صاغت الفلسفة والكتابة مثالا ً جمعيا ً.لذا نجده في تنوعه يعتمد رؤى متشابكة، وشخصيته في الحياة ذات اشتباك فلسفي، وإن لم يُظهره للعيان عبر اللسان. لكنه وعبر اهتماماته نجده مولعا بالفلسفة، ونقصد بها فلسفة الوجود، والمتمركزة في قول "هاملت" أكون أو لا أكون.. وهذه الحكمة هي التي دفعت الفنان إلى أن يحلَّ بقوة في كل مجالات الإبداع، محققا ً وجودا ً ترك أثره على وجوده المادي ــ الجسدي ــ أن أصبح نحيلاً لا يحتمل حمل همومه الكثيرة. وهي في جملتها هموم معرفية، فمحاورته وجهاً لوجه ذات فائدة، ورؤيته بهيأته الصوفية متعة ولذة روحية، فلم أجده مقطب القسمات، بل أنه يبتسم، ومن ابتسامته تدرك مرارة الوجود وأسفه على سريان الزمن على الوجه الخطأ. كان يحمل عدّته وهو يسير أو يجلس، تاركاً عّدة الفن في منزله، مكتفياً بعدته المعرفية، يتحاور ويُطلق وجهات نظره بقوة وثقة وقناعة واسلوب مقنع للآخر. ولأن هذه الشمولية الإنتاجية غطت على فنه التشكيلي افتراضا ً، إلا أنها اتضحت ــ وكما أرى ــ انعكست وتبلورت فنياً في ما حققه من إنجاز في فن رسم اللوحة والكلام الحروفي، عبر انتاجه لجملة كُتب تعذر طبعها. له آراء مهمة كناقد تشكيلي، تحظى باحترام الكل، وتجد صداها في أروقة التجمعات الفنية والأدبية. إن فحص تجربة الفنان تضعنا في علاقة مباشرة بفن الرسم والنحت في كونها تستوعب تصوراته وتأملاته، تماماً كما كان الفنان شاكر حسن آل سعيد يستدرج رؤاه الصوفية، خلال بياناته التأملية ورسوماته التي تعَشّقَ في ثناياها الحرف العربي برشاقته ودلالات الصوفية.
"وعادل" تمكن من المزاوجة بين الرسم والنحت كخطابين متداخلين ضمن هذه الرؤى الفلسفية. قدم الناقد مشروعه النقدي عبر التأملات التي لها علاقة بسجية الرؤى القارّة، حيث كان الجسد بكل تمثلاته شاهداً وشهيداً على صفاء نظرته وشفافية صوره. فرؤيته للجسد تعبّرْ ممكنات المألوف واشتغاله، لإدراك القدسية والبهاء الصوفي. فهو يُظهر رشاقته واصطفافه خارج الوجود المادي. مما يمنحه قداسة مضافة إلى قداسته ككل في الوجود. إن رشاقة الجسد عنده من رشاقة الروح، فهما يستجيبان لخلود معنوي، يتمثل وجوداً مادياً لا تمسه شائبة. فلو فحصنا رسوماته ومنحوتاته نجد أنها تعمد إلى إزاحة ركام الأزمنة عن الجسد، مهما كانت هويته "جسد أنثوي/ جسد كاريزمي/ جسد ذكوري/ جسدان معاً".
هذه الإزاحة تدور حول هيبة الجسد مبدئياً "رؤيوياً". وتُعيد اليه كرامته ضمن البُعد الروحي. فالجسد الأنثوي مهما كان تمثله في اللوحة أو المنحوتة، يتمسك بمدياته الإنسانية، وهيبته الصوفية، فهو جسد النقاء والقدسية، لأنه موّلد ومنتج للجمال، وإذا كان ذكورياً فهو المكمل للأول خلال عقد قران يتسع لهيبة المقدس أيضاً.
أما تمثل الكاريزما في التاريخ، فقد قدم الفنان منحوتات ذات صفة أكاديمية، لكنها مشوبة برؤاه الصوفية أيضاً. أي أنه ينظر إلى النموذج في التاريخ عبر ذات مشبعة بالصفاء الروحي. لذا لا يعمل على نقل خصائصه كما لو أنه يترك انطباعاً فنياً "تقليدياً" وإنما يزاوج بين وجوده المادي، ووجوده التاريخي، وبالتالي وجوده في ذات الفنان "الوجود الروحي". إنه تعشيق عميق موشى بروح التأمل، والحامل لوجهة النظر "الرؤى الذاتية" للرمز، من أجل نحته كرمز جديد تتجسد صفاته في المنحوتة نفسها. إن الفنان صاحب مشروع كبير في انتاج اللوحة، ونموذج النحت. لكنه كان صبوراً في التنفيذ. لأن التنفيذ مقرون بمعارفه الواسعة ذات العلاقة الجدلية بمشروعه في الرسم والنحت، كما لو أنه يقرأ لافتة وضعها نصب عينيه دائماً "إذا أردت أن تكون فناناً مقتدراً، فما عليك إلا أن تكون مثقفاً كبيراً، ورائداً في تلقي المعرفة وتمثلها بتركيز ودراية".
رحلت يا عادل كامل. .. ولم تترك لنا فرصة الاستزادة من معارفك!
رحلت يا عادل كامل... أيها الزاهد، فأنت إليوشا دستويفسكي كما كان فؤاد شاكر.. أنتما زاهدين في الدنيا، متطلعين إلى الغامض والبعيد المجهول أبداً!