ادب وفن

كاهن الخذلان وعبور الشاعر الى المناطق "المحـرمةْ" / خليل مزهر الغالبي

تظل الفضاءات الشعرية مفتوحة وقابلة لتحليق الشعراء وسماع غواية بناءات رؤاهم الفنية للنص وانتاجها وفق لزوميات تحقيق الجمال الشعري، ومنها نهجهم في الخروج لمخالفة ومشاكسة وتخطئة المألوف والثابت ايضاً، حتى صناعة المفارقة في التجاوز على المتفق والعبور الى الممنوعات، والذي يظل باعثا لنقش هجسهم شعراً كما يرون في تحقيق جمالية الإيصال الشعري للنص، ومنها استفزاز المتلقي، بعد ان فقدت القصيدةُ حرارتها لدى الشاعر المحاصر والباحث من مللٍ عن الاسئلة، مثلما هو باعث عن الصرخة الرافضة لكل مسوغات القبح، ليحقق الشاعر قناعته في حرارة الخطاب الموازي المعادل لمحنة الإنسان، ليحمل الشاعر مغامراته لمحاكات اليومي والهامشي والمخذول منه، وهذا ما جعل فعل التحوّل الشعري هنا قريبا من لعبة الإزاحات الكبرى، بدءا من إزاحة الثابت المستهلك والتحرش بالقناعات، ومن الخروج من إغواءات الأدلجة والكشف عن واقع الانسان الحالم واسباب انكساراته ورهاب اعتراضاته من الاعتقال والتعذيب والاحتلال والحرب والموت، لتجرفه الى نائحة المراثي والفجائع، والسخريات الفادحة، والمنافي.
وهذا ما نهجه الشاعر "علي الشيال" في بناءات اصداره الشعري الاخير "كاهن الخذلان" وهو أمام وعي أكثر تجاوزا للممنوع، ولا بد هنا من التأكيد على ضرورة قراءة النصوص، من منطلق التداعيات الما بعد خاصية اللغة في تعبيرها وتصويرها الشعري، ومن أثر طبيعة فوراتها وانفعالها، لنستشف عقلانية اللغة الانفعالية التي اشتغل عليها الشاعر في تجاوزاته للمعتبرات ذات الشأن في ايمان المجتمع وظنونه.
وقد تشكل المكون الشعري في "كائن الخذلان" بنصوص قصيرة ومقاطع، بعضها بمثول ومضات شعرية، تعددت وفق تعدد وتنوع وتوزع طبيعة الثيمة المتضمنة، ومن الصور المنتقاة التي رصدتها عدسة الشاعر من واقع المحنة العراقية، والتي تعبر عن حالات الاستلاب التي امتدت طولا وعرضا على حياة الانسان ومن قبل تغير 2004 وبعده، وقد تمحور الخطاب الشعري على وصفها ومن حالات الحروب الصانعة والمنتجة للقتل والجوع، الحروب التي لا يملك الشعب فيها لا وطأ له ولا قدم غير ان يسيّر ابناءه الى الموت المجاني والفقراء اولهم، لتضع الشاعر "علي الشيال" عند الحافة المستنفرة منه والمستفزة له، لترعب الهجس الشعري الذي ظل يدفعه كثيرا ليُفعل مرارة إحساسه بالتساؤلات، والتي شكلت له عقدة ألم ، ألمٌ لا ينفع معه الترياق الطبيعي للتعبير البارد للنص والمهدئ بمفهوم روحية الشعر.
وكان لقسوة وآلام الاحداث ومأساتها أثر واضح في خلق وتوسم المناخ الشعري، والآخر المحدد للغة النص في التعبير عن الإدانة والرفض واللعنة لكل اسباب الاستلاب حتى شتم أولئك الحكام الصناع لها، لتكون هذهِ اللغة الاكثر ملائمة لتضمينها الحزين لها. وكما في وصفه لها0
وهي الحرب الرخيصة بأسبابها والخاسرةِ بنتائجها الفاقدة لحقوق محاربيها والناكرة لشهدائها، كما في وصفه الساخر المثير للتساؤل الحزين ايضاً والباعث للإحساس المنكسر بمقتها، كما في تضمينه الذاكر للسماء كجهة عليا في تقرير مصير البشر في الحياة..
(السماء رحيمةٌ جداً /لأنها تسمح للشهداء /برؤية اطفالهم يتسولون )ص23
هذهِ الحروب المتعددة الحقب، التي أَحسها الشاعر وقَيَّسها في الوصف الغرائبي والمفارق، والظاهر لقسوتها في قوله:"
الحرب السابقة جميلة/ فلم أخسر فيها/ غير ساق واربعة اصدقاء ".
ويذهب الشاعر علي الشيال كذات فاقدة للأشياء الجميلة من حلم وحقوق حياتية، لتأكيد فقدان الحروب لأسبابها الوطنية العادلة، وفق معادلة المواطن المقاتل المغلوب على امره تحت القوة، وكما في الكشف لخسارات الحرب، وهي خسارات متعددة وراهبة للإنسان المجلوب فيها كمقاتل، وتصبح خسارات معجزة له منها النفسية والجسدية، وما صار عليها لتسخر منه اكذوبة الحرب وريائها كما في قراءة اللغة الوصفية "الميتالغة" لها...
"ذات رجولة فاشلة/ قالت لي: سأبصقُ على خرقتك المتدلية/ كانت الحرب تحت السرير/ تراقبني وتضحك لانتصارها"..
ويمكن اتضاح سببية التقطيع الشعري وتعدده وتنوعه الى تعدد حالات الاستلاب وكثرة حصولها لتزدحم في ذاكرة الشاعر وتطبع مخياله، لهذا نهج الشاعر علي الشيال للتعبير الدلالي المختزل المفتوح على سعة المعنى، لتتشكل بعض المقاطع بروح الومضة الشعرية وبنائها الاكثر اختزالا كما في ...
"هل كانت الحرب ابنتك المدللة... لتجعلها تنتصر علينا في كل حين"؟
وايضاً في ومضته الاخرى في محكيها عن الحبيبة التي لا تمر إلا ممتزجة في ألم الحرب "حينما سألوني عنكِ، اكتفيت بدمعة".
وحرص الشاعر على تكوين لغوي خاص وملائم لثيمة الخطاب وموضوعه الفاجع، وبما اثار الشاعر وهو يقلب الواقع ،حيث رائحة الموتى ونواح الجياع لتصنع منه ذلك الكائن المنفعل المستشاط الباحث عن تفريغ لعناته على رجالات الفعل الظالم والكسوف الانساني، وهي لغة مؤهلة للتعبير عن حجم المفارقة المخالفة والغرابة الصانعة لتحريك المتلقي في قراءته... ليلفظها الشاعر شتما لكل الوقائع ومسببيها ، بدءاً من إزاحة مفهوم الثابت و التحرش بالقناعات وكل الكاهنات التي قدسها الانسان و صيرها مقررة لوجوده حتى قدم لها الشعب القرابين واكباش الفداء ومن خلال حروبهم المقدسة منهم ،حروبهم التي سخر منها الشاعر في وصف احد أبطالها المتوسمين بالشجاعة فيها في الصورة الشعرية ذات التراجيديا الكوميدية Tragicomedy الغرائبية المتسمة بالسخرية ...
"باع أنواط الشجاعة/ وأوسمة النصر/ ليرتق حذاءه الممزق".
حرص الشاعر علي شيال على شد وايصال التوتر النفسي والعاطفي للقارئ، وفق تصوير شعري صادم، وبما أثار للمتلقي الرفض التام للحروب واسبابها ورجالاتها الصانعين لها وتجارها، ولما للفعل الشعري من تكريس لمنتج الحرب، ومن حالات مفصلها اللا أخلاقي، كما في اختياره الدالة الرفيعة للعلم ،ولما صارت عليه في تصويره للحالة المختلة للسلوكـ ،وهو تصوير شعري يحمل دالتين في تضمين صورته الشعرية وبما يخل بالموقف الاخلاقي الغائر في السفلية الساقطة، ومن دلالات العلاقة العليا ذاتها لقادة رجالات الحرب، والمتمثلة بالعلم العراقي والرئيس وما في زوجته وهذا ما تضمنه القول ...
"العَلمْ الذي استشهد/ من اجله نصف الشعب/ كانت زوجة الرئيس/ تستخدمه لأغراض خاصة".
ولشمولية مأساة الحرب وقسوتها جميع مفاصل الحياة حتى راحت لتحاصر الانسان في رؤية حبيبته وتلزمه عبر ثقب الرصاصة المرعب والصغير الذي لا يسع شوق الانسان ولا يلبي لهفة ذلك الجندي المبتلى في الحروب...
"انا العاشق/ الوحيد في هذا العالم / الذي ينظر الى حبيبته/ من ثقب رصاصة".
لقد كانت آلة الحرب وكما في وصفية نصوص "كاهن الخذلان" آلة حادة لا تعرف الرحمة والتوقف، لذا راحت تبتلع ما تراه بل وتطلب المزيد ومن عد القتيل الاول لتتسارع لترقيم الالاف من القتلى، كما يراها الشاعر...
"الكأس الاولى/ في صحة الجندي الاول/ الكأس الثاني/ في صحة الجندي الثاني/ الكأس الالف في صحة الجندي الثالث/ الكأس ال... في صحة الجندي/ نفذ النبيذ في العالم/ ولم ينته الثمل/ من عد أسماء القتلى".
ومن كثرة الاموات في الحروب والتغيب المميت ايضاً في المعتقلات السرية، يذهب الشاعر في رفضة الجازم لموته وفق أوامر "الرئيس" وأعوانه، وصناعتهم لموته وهو مسروق الفعل والقرار، كما في تضمينه وهو يكره موته مقاتلا في حروبهم، بل راح في تمني موته خارج قراراتهم، بل الموت وهو مسترخ تحيطه أشياؤه الجميلة من موسيقى ولفافة تبغ عند شفتيه وباقي اشتهاءاته...
"أنا المقتول سلفاً/ أريد أن أموت/ بطريقتي/ هادئاً وفي يدي سيجارة/ وعلى شفتي أثار قبلة/... وانا اسمع بتهوفن/ مرتدياً اجمل ثيابي..." ويحصرها في ختم "أريدُ ان أموت على طريقتي/ لأنني أكره موتكم".
هذا الموت أو القتل الذي حاصر أيامه والدخان والصراخ حتى ذهب لمناداة ما في السماء في انشاد وجودي في عتابه الاليم ...
هنا لا بد من القراءة الثانية، أي القراءة المتأملة للمكون الشعري هذا وامتيازه المخالف في عبوره المنطقة الممنوعة المحرمة، و مراجعة صدمتها لغرض العبور من شكلانية التعبير الى وضوح اسبابه، ومنح السلامة الفكرية لتعبيرات اللغة ونوعها الشعري في صنع الخطاب الشعري الموقن بقراءة وسماع هذه الدرجة من لعنة النصوص لأسباب الدمار، الدمار الباقي لدمار بقايا وجودات الانسان ووطنه، ونحن نرى الضحايا المتوسدين بقايا حبهم البعيد ومن تذكر واشتهاء الحبيبة من خلال دخان المعارك او التفجيرات التي اجتاحت وجوديات الانسان، هذه الوجوديات التي شغلت وامتدت على جميع شعرية هذا المكون الرافض لتقبيح الحياة وقتلها.
ونبقى في اقتران قراءة "كاهن الخذلان"، من منطلق تداعيات مضامينها ومن أثر طبيعة فوراتها اللغوية في التعبير والتصوير الشعري. كما في قراءة "شتم الاب الشهيد" وهي تمثل عبور الشاعر علي الشيًّال الى المناطق المحرمة على الشاعر بعبورها شعرياً وبمعناها المناطق الخطرة المميتة في الحرب، وهذا ما نراه في المشهد الشعري المصور "المعلمة: ما تريد ان تكون في المستقبل؟/ التلميذ: جندي/ المعلمة: ولماذا؟/ التلميذ: كي استشهد/ المعلمة: ولماذا؟/ التلميذ: كي ارى ابي في الجنة".
والى عبور اخر في قوله "في ليلة ولادتي قتل ابي/ في حرب ما/ ولذلك كلما زرت /نصب الجندي المجهول/ بصقتُ عليه". وهي مرورات شعرية تصدم القارئ كثيرا، كما اشرنا اليها ومن تحرش الشاعر بالقناعات الاجتماعية الثابتة والتقاليد الموروثة كما في دالة الاب والاب الذي قتل شهيداً في الحرب، وفي الصورة الاخرى المتمثلة في البصق على نصب "الجندي المجهول" ذو القدر والقيمة الاجتماعية العالية، ومنه وكما ذكرنا بضرورة الفهم الما بعد القرائي لتداعيات هذا العبور المحرم الممنوع في التعبير الشعري، والكشف عن لماذوية هذا النهج الصانع لسخونة النص وفوران مناخه، والكامن لدى الشاعر ،من عدم تثبيت الضماد والشريط الشعري المألوف لإيقاف النزيف ومعالجته حتى تحقيق الحلم في جمالية الحياة البعيدة عن الاستلاب من الحرب القاتلة للإنسان والمغربة للحبيبة في وصفه ... "وحدي ووحدي/ والليل طويل/ وأنا وحدي/ أهمسُ لصورتك / في وميض الرصاص/ أينك فالحرب تمضغني".
لقد بصم الشاعر علي الشيَّال تفرد مكونه الشعري هذا، وبتوصيفه... البصمة الصعبة المؤهلة لتلبية الخطاب وايصاله الصعب.