ادب وفن

نبوءة الشاعر في "ما لا يجيء أراه " / عبد علي حسن

ينزع الشاعر في الكشف عن رؤيته تجربته الذاتية أو الجمعية الى تقديم مشهدية مجازية لتلك التجربة الممتلكة تفاصيلها المحسوسة والمعيشة، وهو بذلك يخلق واقعا او مشهدا آخر يعد مدلولا لدالة التجربة المكتشفة، وبهذا الواقع او المشهد الجديد انما ينقل التجربة من المكتشف الى اللا مكتشف ليرفد ذائقة المتلقي بمعنى جديد في سياقات جمالية تعتمد فنون القول وأخرى معرفية يتم التوصل اليها عبر تلك السياقات الجمالية التي تعد الوسيلة لنقل التجربة الى حيز اللا مكتشف والمعرفي، ونرى ان هذه العملية هي التي ستحقق للخطاب الشعري رسالته المفترضة، ويستخلص الشاعر عبر هذه الفعالية الى طرح الواقع الذي ينبغي ان يكون عليه ليس بحيثياته المنظورة وانما بالمماثلة المجازية التي تتكفل بتقديم نبوءة تستشرف الوقائع، وبهذا المعنى فإن التجربة ستحفز الشاعر على احتلال موقع لا يبتعد كثيرا عن المنطقة التي يحتلها النبي والثوري والمجنون وإن كان هذا الأخير ينسحب كليا الى داخله ويقطع صلته الكاملة بالواقع ليظل مسكونا بالواقع الذي يخلقه، فيما يذهب الآخرون الى تشييد الواقع الجديد والمغاير من خلال عملية الذهاب والإياب بين الواقع والذات، فمقترحات الشاعر في هذا الحيز انما هي نبوءات لما يكون عليه الواقع عبر استبطانه.
ووفق ما أسلفنا كان عنوان المجموعة الشعرية الجديدة "ما لا يجيء أراه" للشاعرة بيداء حكمت اذ ان العنوان يشير اشارة واضحة الى بنية النبوءة التي كونتها عناصر العنوان اللغوية، ف "ما لا يجيء: هو الغيب المحتجب عن النظر وحتى الإحساس للآخرين الا ان الشاعرة ومن خلال القسم الثاني من العنوان الذي كونه الفعل المضارع". أرى "وفاعله المستتر، تؤكد رؤيتها للذي لم يأت بعد، ولعل الرؤية هنا تتخذ وضعا حدسيا أو تنبؤيا أو توقعا من خلال إعادة انتاج الوقائع المنظورة والمكتشفة لتقدم رؤيتها هذه غير المكتشفة وغير المنظورة لتحوز صفة التنبؤ والحدسية، ولعل تأويلا آخر ينهض لجملة" ما لا يجيء "ومفاده نفي الذي". يجيء "ليؤكد العنوان على امكانية الشاعرة من رؤية حتى الذي لم يتوقع مجيئه، وهذا التأكيد بحد ذاته رؤية تنبؤية لما يجيء سواء محتمل الوقوع أو عدمه، وهذا ما سنحاول -- في السطور اللاحقة --- من الكشف عنه عبر تحليل عناصر الإنزياح والاسلوب الذي مارسته الشاعرة في نصوصها بِعَدِّها أنثى امتلكت خصوصية الطرح الجينثوي لخطابها الجمالي والمعرفي.
لقد شاءت الشاعرة بيداء حكمت ان تضع مجموعتها الشعرية هذه في قسمين، الأول يتضمن نصوصا شعرية تحت عنوان "أغرف من بئر اسراري" والثاني تضمن نصوصا نثرية تحت عنوان "رؤيات"، ففي القسم الأول جاءت النصوص امتدادا لنصوص مجموعتها الأولى "أغرف من بئر اسراري" الصادرة في 2010، لتشير الى ديمومة بئر الأسرار التي تعد الخزين او مجمع كينونة الشاعر الذي يغرف منه متى ما أراد، فإن كانت بهذا المعنى الشامل فلابأس من تكريس هذه البنية وما عداها فإن وضع هذه النصوص تحت العنوان آنف الذكر هو أمر لا مبرر له، بدلالة احتفاظ نصوص هذه المجموعة بمكونات تجربة جديدة اكتفى العنوان الرئيس للمجموعة وهو "ما لا يجيء أراه" بتأكيد دلالة واعية لمدلوله عبر النصوص التي حملت تاريخا لكتابتها ما بعد عام 2010.
تؤثث الشاعرة بيداء حكمت نصها وفق تكثيف دقيق ومختزل لتفاصيل تجربتها الذاتية أو الجمعية، ولعل هذا الاختزال قد وفر فرصة للمتلقي للمساهمة في تشييد النص عبر ملء الفراغات المتروكة في تضاعيف النص، اذ كشفت النصوص عن رؤية الشاعرة من خلال الكلمات القليلة المكتنزة بالدلالات المحيطة بالتجربة،
تحت عنوان "فضاءات" اندرج "36" ستة وثلاثون نصا قصيرا شهدت تنوعا في الرؤى بقصدية تقديم تجربة مستبطنة لما وراء التجربة الحياتية المكتشفة وهي بذلك تضيف معنى آخر شكله الهاجس الشعري المجازي لضخ مزيد من الصور والفضاءات الشعرية لحيازة النص على امكانية التحليق خارج المألوف فنقرأ:
"كثيرا ما تدخل سرا
غرفتي الريح
وتبدأ بتقليب اوراقي
اي غزو
وأي احتلال. ....".
فدلالة الريح في هذا النص تشير الى دخول غير مرغوب به وغير مرحب اذ تدخل سرا وتبدأ عبثها بالأوراق الدالة على ملكية ثقافية أو حضارية ليشكل بعدئذ هذا الدخول معنى الغزو والاحتلال، ويخرج النص برؤيته البعيدة عن ما هو معروف ومشاع عما تفعله الريح بمدلولها السلبي، فالنص حلق خارج غرفة الشاعرة ليشير الى الغرفة الأكبر وهي الوطن عند تعرضه لدخول الريح/ الغزاة /المحتلين وما يمكن ان تعيث من فساد بكلمات قليلة متجنبة الاطناب لتقديم تجربة شعرية مكثفة لوضع قد يضر به الاطناب تعبيريا، فما قدمه النص رؤية مكتفية بذاتها ذات محمولات دلالية واسعة.
وعن التجربة العاطفية "الحب" التي شاعت في الشعر العربي منذ القدم تقدم الشاعرة نصا غاية في الاتقان الاختزالي :--
"الحب قطف وقطاف
اذا المحبون
بلا قلوب!. .....".
فالنص يقدم فرضية ونتيجة، والفرضية التي يقدمها تختزل صيرورة علاقة المحبة ومعاناتها وهي قطف الثمرة المصطفاة وفي الوقت ذاته هي عملية ذهاب بقلب المحب باتجاه المحبوب لتوكيد حالة التوحد، وفي كلتا الحالين فإن النص يطرح نتيجة هذه الفرضية وهي بقاء قلب المحب في جسد المحبوب فقلبه ابدا مودع عند من يحب، فالتجربة غاية في التكثيف والنص يكشف عن قدرة الشاعرة على استخدام آلية التشبيه البلاغي لتربط بين الافتراض والنتيجة التي تمتد لأكثر من تأويل محتمل عند استدعاء المتلقي مرجعيته الجمالية والمعرفية، وتشترك في هذه الخاصية الشعرية البليغة جميع نصوص المجموعة التي تبدت بها على نحو واضح هيمنة الوظيفة الشعرية/ الانفعالية المحيطة بتجربة الشاعرة التي كانت تخاطب ذاتها في النصوص التي هيمنت فيها الوظيفة الافهامية/ الخطابية كما في هذا النص :--
" حين لا ينصت اليك أحد
ولا تجدين حاجة اليك من أحد
اجلسي عند قبر أي أحد
فالأموات
منصتون جيدون أكثر من أي أحد..."
يستخلص النص الآنف الذكر تجربة ذاتية عبر خطاب الذات الشاعرة لذاتها من خلال الاقتراح الذي تضمنه النص والمطروح على "المخاطبة" مفاده الاتجاه الى الأموات في حالة عدم وجود من لا ينصت لها وحين لا تحتاج الى أحد، ولعل هذا الخطاب الذاتي يكتسب بعدا موضوعيا ليؤكد شيوع حالة العزلة أو انفصال الذات وعدم وجود من يتجانس معها لبث همومها.
وفي نص "اوهام على رفوف" تمتد التجربة الذاتية خارج حدود تفاصيل الشعور الذاتي للتعبير عما حصل لمنزل الشاعرة اثناء احتلال قوى الظلام الداعشي مدينتها الموصل لأنها تدرك جيدا شمولية هذا الانتهاك وهذا الخراب :--
"مهجور منزلها
مخطوف لون وجه حديقتها الصغيرة
منكسة رأسها
شجرة النارنج في الحديقة
وبدت شاحبة الوجه مكتبتها....".
فعبر رسم هذا المشهد المؤثر لما حصل لمنزل الشاعرة فإن التجربة الواقعية المعبر عنها مجازيا تكتسب بعدا موضوعيا يسهم فيه الآخرون من طالتهم يد العابثين، فالشاعرة تتحدث عن نفسها مرتدية قناع الآخر "هي" لتهيمن الوظيفة الشعرية/ الانفعالية للنص الذي أحاط حتى بمكونات الشاعرة الثقافية وتعرضها للانتهاك.
وفي القسم الثاني للمجموعة الذي وضعته الشاعرة تحت عنوان "رؤيات" ولعله جمع لمفردة رؤية، الا ان جمعها هو "رؤى" كما هو معروف، اذ ان نصوص هذا القسم هي رؤى حول عملية الكتابة وصيرورتها وما تشكله من عالم يمتد الى مكمن النفس الشاعرة لتتجاوز التعبير الجاهز والمواقف البسيطة والمكتشفة من الكتابة وكينونتها، وبذلك فقد كانت الوظيفة المهيمنة في هذه النصوص هي الميتاشعرية أي الكشف عن خصائص القصيدة حين تكتب ذاتها مشفوعة برؤى فكرية وجمالية ابعدت هذه النصوص عن التقريرية النثرية لمحايثة كتابة القصيدة، ولعل استخدام الشاعرة مفردة "رؤيات" بعدها جمعا لمفردة رؤيا /الحلم، ففي نص" نثريات في الجمال "تشير الشاعرة الى "ان الكتابة مشروع ابتكار وتأسيس واختلاف، ولكل هذه المعطيات حمولة يغذيها التأمل والرؤيا والخبرة، هكذا تسعى كل تجربة الى نحت جمالي يحمل قسماتها.... ويتبدى هنا أثر الـ "رؤيا" بِعَدِّها الفضاء الحلمي الشعري الذي يستقي منه النص حركته باتجاه الواقع وتجاربه ورحلته المعكوسة الى مجازيته التي يتضمنها التعبير عنه، وفي نص "آناء حمى" تكشف عن دهشتها أثناء الكتابة التي تأخذ طريقها الى الورقة بانسيابية لتكتب تجربتها :--
" أية دهشة هذه
دبت دبيب النمل
من أصابعي
الى جسد الكتابة. ... ".
فالنص يشير الى تلقائية الكتابة وما ينجم من شعور اثناءها، الى مستوى أن التجربة تكتب ذاتها دون تزويق او افتعال.
لقد كان بالإمكان ترحيل بعض نصوص هذا القسم الى القسم الأول من المجموعة لخروجه عن سياق قسم "رؤيات" كنص "هذا حنيني" و "إصغاء" و "ذات قيظ" لأني وجدت تجاربها بعيدة عن سياق نصوص "رؤيات" التي اختصت بالكشف عن موقف الشاعرة من الكتابة ذاتها وصيرورتها وحيثيات حركة الكتابة باتجاه الابانة عن تجربة الشاعرة.
وفي قسمي مجموعة "ما لا يجيء اراه" كليهما للشاعرة بيداء حكمت تتبدى لنا نبوءة الشاعر المترشحة من إعادة انتاج الوقائع الحياتية تأويلا وتقديم رؤية مجازية ومختزلة منحت فرصة للمتلقي للمساهمة في تشييد تلك النبوءة المستشرفة للواقع باتجاه تخليق الواقع الآخر المجازي ليرى كل من الشاعرة والمتلقي على حد سواء ما لا يجيء بأسلوب تميز بالتلقائية والدقة في تخليق الصور الشعرية والإبانة عن الجمل الشعرية الممثلة للغة المرأة الشاعرة عبر تشكل الفضاء الجمالي والدلالي للتجارب التي طرحتها نصوص المجموعة ومنها النصوص التي اخترناها في تحليلنا السالف.