ادب وفن

"بيت السودان".. إتصالية السرد وتكذيبه / مقداد مسعود

"بيت السودان" و"خان الشّابندر" للروائي محمد حيّاوي، تقتسمان عنف الختام الدامي. حيوات نسوية مقهورة تبيدها قوة غاشمة بلا سبب . وما حدث، "يحدث يوميا" بشهادة العم مجر في الصفحة الأخيرة من "خان الشّابندر". وما حدث للنسوة المسقطات هو:"دخل المُسلّحون يحملون سكاكين ضخمة وبلطات، لم يصرخن أو يتوسلن"، وما حدث في "بيت السودان" أنّ القتلة "أوصدوا الأبواب والنوافذ بالألواح والمسامير، ثم راحوا يرمون المشاعل عبر الباحة، حتى انتشرت النار في بيت السّودان، وأكلت كل شيء، واشتعل حريق كبير ظلّ يتأجج طوال الليل، ولم يأت ِ أحدٌ لإطفائه أو نجدة الفتيات، فتقوضت جدرانه وسط الرّماد الأسود. لم ينجُ أحدا من تلك المحرقة، حتى الحمام .أرواحهن البريئة مازالت تحوم". وكالعادة جرائم الإبادة الجماعية لا تستفز ضمائر الجموع:"صمت المدينة وخذلانها". والحال نفسه في "خان الشابندر".. "هالني منظر الناس وهم يسيرون باتّجاه النهر بهدوء غير عابئين بالقنابل والرصاص.. كانوا ينسابون بنعومة وصمت".
لا يمكن نسيان شخصية "ضمد" في رواية "بيت السودان" ولهذه الشخصية سردياتها الوجيزة المشفرة، وضمد يتجاور بعض الشيء مع العم "مجر" في رواية "خان الشابندر"، وما أنّ أتوغل في شخضية عفاف في "بيت السودان" حتى ترافقها "نيفين" في رواية "الشابندر" والبطل اسمه "علي" في الروايتين وكلا العليين يتسمان/ ينتسبان للبراءة الأولى ..
(*)
لا تكرار للموضوعة في الروايتين بل هي محاولة سردية جادة في تعميق مجرى السرد وتوسيع قوس الفضاء الروائي بطريقة إبداعية.
في الصفحات الأخيرة من "خان الشّابندر" وعلي في المقبرة مع الفتاة زينب وإخوانها، يسمع علي مَن يناديه "علي.. علي"، ثم يخبرنا "انبثق الصوت فجأة بأذني آتياً من مكان ما في المقبرة، وخطف طيف امرأة مُتلفعة بالعباءة بين القبور، تبعت المرأة بخطى مُتعثرة".. والصوت نفسه ثانية "علي.. علي" لكن "جاء الصوت من الجهة الثانية هذه المرة" ويتكرر الصوت بعدها للمرة الثالثة "علي.. علي".. "عاد الصوت المنادي من جديد، لكنه أبعد هذه المرة! وعبثًا حاولت تمييز قامة المرأة التي انبثقت فجأة أمامي". هذا الصوت/ الهاتف سيكون له قوة القرار في نهاية رواية "بيت السودان".. "وفي لحظة خاطفة دهمني طيف ٌ عابر ُ مثل طائر، وهتف في أذني بنبرة حنون:
- أذهب مع عفاف يا حبيبي. لا تخف.
ثم اختفى، وظلّ الصّدى يتردّد آفلاً وسط القبور:
- لا تَخَف.. لا تخف.. لا تخف".
والمرأة التي ترتدي عباءة، سيكون قوسها أكثر سعة في رواية "بيت السودان".
(*)
يستقبلنا مقتبس ذاتي يشترط علينا الإصغاء التام وظلمة الليل وبهذا المثنوي يمكننا التماهي في المشهد:
"لو أصغيت َ جيدّا، فستسمع نَقرَ الدّفوف
وإذاكان الليل ُ رائقا والقمر متواريا،
فسيكون في إمكانك رؤية ُ أعمدة النّور تنبعث ُ من الرماد
وترقص فوق الحُطام رقصتَها الأبدية".
في الصفحة التالية، نصغي لصوت أنثوي، بسعة ثلاث صفحات. وهذا الصوت يشغل وظيفة خلية السرد الموقوتة التي ستكون مديات تشظيتها، وفي خلية السرد الموقوتة، ثمة نواة يمكن تقشيرها لنحصل على عينتها الأساس:"المرأة التي في خيالك، مهما يكن اسمُها، تمسك بأذيالها. لا تُفلِتها مهما حدث. تلك المرأة ُ! ما بك؟ أقصد تلك السمراء ذات الشعر الأجعد، والتي تشبه عيناها بُقعتي قهوة. نعم تلك. لا تتركها ترحل. حتى لو لزم الأمر تقبيل التراب الذي تحت قدميها".
(*)
"علي" الشخصية التالية أما الشخصية المحورية فهي ياقوت. علي من سرديات الأنوثة العراقية الجنوبية، فهو نتاج سردياتهن فيه، بدءا من وصية الصوت الأنثوي في مستهل الرواية: "لا تتركها ترحل حتى لو لزم الأمر تقبيل التراب الذي تحت قدميها" وهذا الصوت، يريد تخليصه من تعديد الأنثى إلى فرادة المؤنث. ذلك لأنه منذ لثغته منجذب/ مجذوب إليهن "منذ طفولتي اعتدت تتبع النّساء في الطرقات والأزقة والأسواق.شيء ما يجذبني إليهن في الحقيقة"، من خلال هذا الجذب ومع تنامي الوعي/ تزايد الشهوة الملتهبة سيقر علي أن للنساء مؤثرية سردية في أفق حياته.. "لطالما أدّت النسّاء دوراً في حياتي ورسم مصيري وتجسيدي. إنهن صانعات ماهرات مثل مَثَال حاذق، تلصق أحداهن أذني في مكان مرتفع قليلا فتأتي الأخرى لتنتزعها وتُلصقها من جديد في مكان مناسب. تحفر إحداهن نقرة سرّتي بسبّابتها في مكان منخفض قرب عانتي، فتأتي أخرى لتردم الحفرة وتصنع لي سرة جديدة في مكان مناسب". هنا يكون علي موضوعا محضا على هيئة منحوتة تتشارك في تشكيل هيئتها الأخيرة أياد أنثوية.. وبشهادة علي نفسه (لطالما حوّرت النسّاء شكلي وعدّلن فيه، حتى أصبحت ُ في النهاية ما أنا عليه الآن، حصيلة النساء وتعديلاتهن التي لا تنتهني".
(*)
تخاطب علياً ومن خلاله تخاطب القارئ أيضا: وهذه الخطبة القصيرة جدا لها وظيفة مناصة تنفع القارىء/ تصد التشويش عنه وبدوري أثبتّها "نعم ياعزيزي. عقلك البشريّ لا يتسع لمثل هذا الخيال. أعرف ذلك .لكن صدّقني ولو هذه المرة فقط. فإن لم تفعل فستتبدّد روحك هباءً وتتعذّب وتتوه في غياب الطُرق المتقاطعة، ويتلاعب فيك السّحرة. فالحكايا التي ستسمعها. والوقائع التي ستعيشها، يشيب لها شعر الرضيع. إني أحذّرك فحسب. لا تصدّق كل ما يقال. وتمسّك بالمرأة ولا تدعها تتوه منك. فهي هاديتك ووسيلتك للخروج سالمّا من مخاضة الحكايا" بين القوسين أشبه ما يكون عقد اجتماعي/ أخلاقي/ جندري فالخلاص من الخانق/ النفق/ المأزق لا يكون إلا من خلال الوثوق بالمرأة وبقيادة المرأة.
ثانيا: ما بين القوسين يشير إلى الوقائعي والغرائبي..إلى المرئي واللامرئي.. البراني في الهواء الطلق والجواني في ذلك الخسف البارد الجنة المدفونة تحت رمال المقبرة.. جهّنم المعلقة في السماء والجنة المدفونة تحت المقابر!
(*)
المرأة التي كان يتبعها من زقاق إلى آخر.. المرأة التي تجتاز ضجيج المدينة.. ثم تجتاز صمت المقابر المهجورة.. ثم تلج بساتين.. المرأة التي لا يتوقف عن متابعتها، وحين يغفو في ظل قبر فسيحلمها ويصفها لنا الشاب المأخوذ بفتنة النساء.. "مجرد فتاة صغيرة السّن لا يتجاوز عمرها سبع عشر سنة تقريباً، كانت سمراء بوجه مستطيل وفم عريض وعينين سوداوين واسعتين وشعر فاحم طويل. صبّت الماء بكفها الصغيرة وغسلت وجهي المعروق فأجفلتني، ثم أمسكت بطرف ثوبها ونشّفتني". هنا الحلم يقظة من باب الإستئناف لملاحقته للفتاة .. ثم تهبط به إلى العالم السفلي من خلال خسف أرضي.. فيرى جنة مترامية الأطراف.. وفيها من الحور العين "سبع فتيات سوداوات يُشبهن الحوريات يجلسن باسترخاء حول العين".
لدينا هنا تراسل مرآوي، فالفتاة التي تقف قربه ستسأله "احزر: أيهن أنا من بين أولئك الفتيات السبع؟" ومن باب التحفيز ستعده "إن حزرت َ أعطِك قبلة من فمي" وحين تفي بوعدها ستكتشف أنها قبلته الأولى في حياته.. وفي نهاية اللقاء/ الحلم.. سيكون بينهما عقد عاطفي "ستقودك إذن إحدانا كلّ يوم لتُطلعك على سرها".. وهو في هذه اللحظة الحالومية الشبقة ستسحبه النسوة إلى مياههن بشرط تماثله معهن في العري والسباحة و...
والسؤال هنا باشلاريا: هل النساء اللواتي يلاحقن بتوقيت لهيبه ولهيب الظهيرات الحارقة
يمثلن لشخصية علي: مثلنات الحياة؟! وهل بهبوطه من خلال الخسف كان علي يرتقي إلى مثلنات تضاعف التي "تجلب الحياة نحو قممها"؟! كل احتمالات قراءتنا مؤطرة بسرد الأنوثة في عقل وروح ونفس وجسد شخصية علي.
(*)
الفتاة التي قادته طوعا، في الصفحات الأولى من الرواية، هي التي ستنقذه من رجال الأمن، في الصفحات الأخيرة من الرواية.. "ثم شعرت فجأة بامرأة جالسة تجذبني وتطلب مني أن أهدأ، فجثوت خلف ظهرها وغطتني بطرف عباءتها الكبيرة". وحتى يعطي السرد لسرديته علاماتية الميداني، يضيف.. "وشممت رائحة عرقها مخلوطة برائحة السمك، وسمعت همهمات رجال الأمن وهم يشقّون طريقهم وسط زحمة السّوق بعيدّا عنّي".. ثم يغادر علي حمايتها وهو يعاني من عرجٍ وألم حاد.. ويخترق زحام السوق "منتشيا بغموض وغير عابئ"، يتحرك بذاكرة مغيّبة ويلمح تلك المرأة التي أخبرنا السرد عنها في الصفحات الأولى فتقود للخسف نفسه، فيرى "النساء اللاهيات في عزلتهن الباردة" فتسأل السؤال نفسه "هل عرفتني من بينهن؟ أيهن أنا من بين أولئك الفتيات السّبع؟ إن حزرت فسأعطيك قبلة من فمي". وتتكرر الوحدة السردية نفسها ويكون جواب علي "تلك أنت هناك، التي تلوح لنا من بعيد".
(*)
تشتغل الرواية على مستويين
* البعد المعلن الجمعي الميداني: وهذا البعد يتشارك في مسردته
* الطبيب رياض
* الجدة عجيبة
* الشيوعية عفاف
* وهناك سرد جسد ياقوت أثناء رقصها ليلة الجمعة.
* وسرد ياقوت في مناصة الرواية التي تستقبلنا في الصفحات الأولى.
* الوجيز السردي من خلال السارد العليم عن حياة صبرية السجينة مع عفاف.
* سرد علي: وينقسم سرد علي قسمين:
* السرد المؤتلف مع بقية السرود في إدائه..
* السرد المختلف، وهو البعد الخفي الخاص اللامرئي وسأطلق عليه: عين علي.
* الخفي المشترك من قبل عينيّ ياقوت/ علي وسأطلق عليه سرد الغزالة.
* وهناك إلتباس السرد وتشويشاته في نهاية الرواية.. أعني سردية علي وتفنيدها سرديا من قبل عفاف..
(*)
نتوقف عند الملتبس السردي، ولا نشعره ملتبساً إلاّ حين تفنّده عفاف في تحاورها مع علي..
يخبرنا علي عن ذلك الصباح الذي جاءت صبرية للبيت وأطفقت مع ياقوت أنها في اليوم التالي ستأتي وتأخذ علي لرؤية عفاف التي أطلق الأمريكان سراحها وسيتم ذلك ويذهبان صبرية وعلي إلى فندق الهناء وكل السرد سيكون ضمن بعده الواقعي المتعارف عليه في محفل التلقي، وحين تتركه صبرية وحده وبعد انتظار يخبرنا "كما لوكنت لمحت صبرّية ومعها امرأة متوسطة الطول تتلفع بعباءتها، لم استطع أن أحدّد من مكاني إذا كانت عفاف أم امرأة أخرى" وحين يطل من النافذة ويرى "سيارة شرطة وعددا من رجال الأمن يتجمعون أمام الفندق" سيعتلي حافة النافذة ويلقي بنفسه فوق أكداس الأقفاص والخضروات الفاسدة.. وحين تعثر عليه عفاف في المقبرة ويعيد وجيز المسرود فترد عليه عفاف "عدنا إلى هذا الحديث من جديد". ستكذّب عفاف سردية علي الممدودة وتخبرنا/ تخبره أنّ ياقوت هي التي أنقذته والبيت يحترق والنساء يحترقن والحمام...
(*)
وهنا نحصل على:
* تكرار سردي متبادل، فهو حين يسرد لنا ماجرى له يكون جوابها "عدنا إلى هذا الحديث من جديد" وعلي بدوره سيلحظ التكرار ذاته في كلام عفاف وبشهادته "كانت عفاف تروي له الحكاية بطريقة آلية كما لو كانت قد روتها عشرات المرات من قبل".. لكن سرديتها تدحض سرديته، وتخلص محفل التلقي من التشويش وإشكالية الملتبس السردي.. فعلي يشعر بما بتغذية سردية من ضمد التي هي بالأساس/ امالي تسرد عليه من الرقم السومرية
وبشهادته "ألم أقل لكما؟ الرُّقّم تخبرني بكل شيء هي لا تكذب".. والرقم هي فيها عاصفة الصحراء وغيرها من الويلات والمصائب التي ستحل في بلاد ما بين النارين/ النهرين.