ادب وفن

بناء الشخصية في "قشور الباذنجان " / صباح هرمز

قليلة هي الروايات التي تستطيع أن تشد انتباه المتلقي اليها من أول الى آخر سطر فيها، ورواية "قشور الباذنجان" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت- عام 2007 لـ القاص عبد الستار ناصر واحدة من هذه النماذج.

ومكمن هذا الانشداد يتركز بالأساس الى الطريقة المقنعة التي يتمتع بها الراوي في سرد ثيمته عن طريق ضمير المتكلم ، ليغدو هذا الضمير رافداً للتفاصيل التي تتفرع منه الشخصيات الأخرى، كشقيقته "سلافة" وصديقه "حيران" وزوجة حيران "أنيسة" والجلاد دوهان المعروف والملقب بـ "شمام الدم".
وهو باتباع هذه الطريقة، اي بالانفتاح على بقية الشخصيات ، ومنحها حرية التعبير عن آرائها، اتخذ من اسلوب السرد الواقعي "متعدد الاصوات" نهجاً لراويته هذه.
على الرغم من ان نهايتها تختتم بالعودة الى نقطة بدايتها ، وتجري أحداثها بشكل متدرج ومتسلسل، كما هو متبع في الروايات التقليدية، فمثل هذين الاشكالين لهما مسوغهما ، وهما، ارتباط الأسلوب الدائري الاول بثيمة الرواية القائمة على السوداوية، وقتامة حياة الانسان العراقي الشبيهة بقشور الباذنجان، قشور الباذنجان من حيث اللون والطعم ،اذ مثلما كان مضطهداً ، في عهد صدام، فهو مضطهد كذلك في هذا العهد، وهكذا فان معاناته في دوامة مستمرة لا تنتهي ولا تستكين، واقتران الأشكال الثاني ،باستقراء الماضي (الفلاش باك) واستحضاره ،لتفقد تدرج الاحداث تقليديتها، وتمنحها بالمقارنة بين الماضي والحاضر، وبالعكس، والمفارقة بينهما أسلوبا آخر.
تبدأ احداث هذ الرواية قبل سقوط النظام بسبعة أشهر ، وذلك بوقوف الجلاد (دوهان) امام عتبة بيت السارد (ياسر عبد الواحد) وهو يذرف الدموع، اسفاً وطالباً المعذرة منه ومسامحته واعطاء الحق له في ان يفعل به مايشاء، حتى ان يشاء ذبحه، وتتكرر زياراته على هذا النحو، وفي احداها، يعطي انيسة (شقيقة) ياسر كيساً من اكياس التسوق، وهو يحتوي على ستة ملايين دينار، وقال لها سآتي في وقت متأخر ، وأختفى.
فمن خلال هذا الحدث غير المألوف لطبيعة شخصية الجلاد وتركيبتها المعقدة والصارمة بالتنازل لضحيتها والسجود امامها كما لو كانت في حضرة قديس ، ومانحة اياها حق ذبحها ،وتاركة لها مبلغاً كبيراً من المال ،لقاء الصفح عنها، يبدأ بطل الرواية في سرد قصته بالعودة الى الوراء لعشرين سنة ، اي عام (1984). "اتساقاً مع رواية لجورج اورويل، بنفس العنوان، التي تتصدى هي الاخرى للنظام الدكتاتوري" عندما كان في التاسعة عشرة من عمره والقي القبض عليه بتهمة الشيوعية،ليتذكر صاحب هذا الصوت الذي كان يشرف على تعذيبه في السجن: عرفت فعلاً،هو الغليظ الذي طالما تمتع بضربي ، سلموني اليه وانا في التاسعة عشرة من العمر ،وحده من يضربني بالكيبلات المسننة كالمسامير ،وحده من يرحمني اذا اراد الرحمة بي وحده من يحق له الجنة او النار ياخذني اليهما، كان بالنسبة الي هو الامر الناهي على جسدي ،كان الله والشيطان معاً، جاعلاً من هذا المدخل مرتكزاً لتعرية الجرائم التي اقترفت بحق الانسان العراقي في عهد نظام صدام، والدور الذي لعبه في تشويه شخصيته ،ليعيش حالة اغتراب حقيقية، عبر التضاد بين نوازعه في الظاهر ،ونوازعه في الباطن، ومتخذاً كل شخصيات الرواية وبدون استثناء نموذجاً لهذا التشويه.
ولاشاعة مثل هذه الحالة، وسعياً لإبرازها، والتهويل لها، وتاطير الجو العام للرواية بها، فقد عمد الى استيقاء نماذج واقعية من حياة الشعب العراقي ، ومقارنتها بنماذج واقعية اخرى من حياة الشعب العراقي في العهد الملكي ، وذلك بالعودة الى تقارير الموت في الحالة الأولى ، والى الطفولة البريئة في الحالة الثانية، متمثلاً الأول بقتل الأب ابنه الوحيد بحجة انه لم يشارك في الحرب على ايران ، مع ان حقيقة الامر كانت هو تخلصه من ابنه ليصفو له الجو مع زوجة ابنه الطرية الصغيرة ، ويكون بذلك قد ضرب عصفورين بحجر واحد، والمذهل ، ان رئيس البلاد توج الجريمة بتكريم الأب السفاح ، فأعطاه بيتاً محترما وسيارة مرسيدس ، والثاني هو ذهاب الاطفال الى المقاهي لمشاهدة التلفزيون الذي كان قد دخل حديثا الى العراق، وكان ثمن الشاي مع رؤية التلفزيون "عشرة فلوس"ِ فقط وهو مبلغ كبير بالنسبة الى طفل في التاسعة اوالعاشرة من عمره.ولعل هذه الواقعية تنسحب اكثر بالاشارة الى اسماء ازلام النظام ، وتتحول الى الواقعية الساخرة .
حتى اسماء من ولدوا في زمن الشر، لا شبه بينها وأسماء من عاشوا في سنوات الخير ،لم يكن بيننا من يسمى وطبان او مزبان او عاسي او جذام أو رواض أو بيدق او كسار ، كانت عندنا اسماء الود والبسمة والحلاوة والايمان .
واذا كان المؤلف قد استخدم اسلوب السرد الواقعي لاظهار تشويه شخصية الإنسان العراقي، فأنه التجأ إلى الرمز بالايحاء الى الخير والشر، كما اتبع اسلوب التمهيد للحدث ، بالاضافة الى رسم النماذج القائمة على ازدواجية الشخصية.
فنعيق الغراب هو الرمز الدال على الشر المتمثل بالجلاد .
عشرون سنة مرت لم اسمع فيها صوت غراب على سطح بيتي، لم يكن ثمة غراب في بغداد كلها ، فكيف عاد ينعق على سطح جارنا يوم زارني هذا الرجل؟.
وهديل الحمام الى الخير .
أي ترف هذا؟ أسافر إلى الدنيا وارى البحار والجبال والنساء دفعة واحدة؟ اسمع هديل حمامة على سطح دارنا...
كما انه وظفه في تحديد مسار الجواميس من كلب واحد، وهي لاتدري اذا ما انقلبت عليه فسوف تمزقه اربا، ولكنها مرعوبة من نباحه ،خائفه من سطوته، تمشي كما يريد،مع انه خائف منها ايضاً... والرمز هنا واضح، فالكلب هو رئيس البلاد والجواميس هي الشعب العراقي.
وجاء توظيفه للأسلوب الممهد للحدث عبر حلم السارد بالكلب وهو عطشان، وصار يتبعه أينما ولى، وتفسر "سلافة" هذا الحلم، على أن هذا الكلب هو الجلاد الذي يتمنى ان يغفر له ياسر، وهو صادق في توبته، وتفسيرها هذا هو تمهيد لقبول المبلغ المقدم اليه من قبل الجلاد. واقترن التمهيد الثاني بالعلاقة التي ستنشأ لاحقاً بين ياسر وزوجة صديقه حيران (انيسة).
شئ واحد فوجئت به وأنا في بيت حيران ، ربما تهيأ لي ان زوجته أنيسة أطالت النظر إلى وجهي، وعلى غفلة من زوجها غمزتني بعينها اليسرى.

والتمهيد الثالث في بكاء حيران:

كان يبكي حيران، يا للعجب، لما أصدق نفسي، لماذا تبكي يا حيران، لقد انزلق الكأس من بين أصابعه، طرطش البيرة على عينيه، وهذا موجز ما جرى.
وهو في الحقيقية لم يكن يبكي لانه يخشى الا تتزوج به سلافة وانما لارتيابه بزوجته وخيانتها له، وهذا ما يتضح أكثر لاحقاً.
واذا كان الجمع بين سمتين متناقضتين في شخصية واحدة، بحاجة الى من يجيد صناعة هذه اللعبة، فان عبد الستار ناصر أجادها بجدارة، وذلك بتعميم هذه الازدواجية على كل شخصيات الرواية، وزاد حذاقة اللعبة، تعاطف المتلقي مع هذه الشخصيات ،مع ان المطلوب منه ان يكرهها، او ان عدم مصداقيتها مع بعض الاخر ، يشي باتخاذ هذا الموقف منها ، وجاء بناء هذه الشخصيات على هذا النحو، لادانة النظام السابق في تشويه شخصية الانسان العراقي التي كانت تتحلى بالطيبة والنقاوة ،وقام بتحويلها الى فعل الشر والقتل والتعذيب وكتابة التقاريرِ.
لقد استخدم المؤلف ثلاثة أساليب للتعاطف مع شخصياته وعدم كرهها وهي
1. ابراز غلبة الجانب الايجابي فيها على السلبي .
2. التقليل من شان الجانب السلبي .
3. تأخير الجانب السلبي لها، وتقديم الجانب الايجابي للجلاد فقط.
فالسارد، او الراوي الذي يتعاطف معه المتلقي بسبب اعتقاله وتعذيبه، وحديثه عن طفولته ، فاذا به يخون اقرب اصدقائه مع زوجة صديقه حيران (انيسة). وسلافة شقيقة ياسر الارملة التي تتصف بالحكمة وتنعت أنيسة بالمرأة الطيبة، وترفض الزواج بحيران ، لانها لاتستبدله باصبع من ابراهيم زوجها الشهيد ، نجدها تتخذ موقفاً مغايراً، وتتزوج من حيران، كما ونكتشف بانها ليست امراة طيبة وإنما هي عاهرة.
وانيسة ضحية زوجها السكير ذي الرحلات الكثيرة، وزوجها ضحية الوسط الثقافي المتمرد، وضحية النظام الحالي الذي قام باغتصابه.
ولعل المتلقي يتعاطف مع شخصية حيران أكثر من أية شخصية أخرى في هذه الرواية ، لما تتمتع بها من الطيبة والبراءة ، وهي اقرب نموذج إلى طبيعة الإنسان العراقي، وتمثله بصدق ، ولا استبعد ان عبد الستار ناصر، وهو يمتلك هذه الجرأة، يريد ان يقول من خلال هذه الشخصية وشخصية السارد (ياسر عبد الواحد) ان النظام الحالي "اغتصب الشعب"، والنظام السابق شوهه.