مدارات

مع المسيرة الثورية - الخطوات الاولى... نضال.. وتطورات فكرية (25) / الفريد سمعان

بعد عام 1954 ومع مور الايام بدأت الامور تزداد سوءاً والاحداث تتابع مسارها.. عبر اختناقات وتوقعات سياسية مجهولة المصير، كانت الجهود السلطوية تتبنى سياسة وتوجهات الاستعمار لاسيما بعد ان حدثت مواجهات جديدة مع السلطة عام 1953. كان حلف بغداد شبحاً يتجول ويريد ان يضع نفسه على قاعدة مقبولة من الشعب تكاد تكون غزلا سلطوياً مع الصراعات المحتدمة. والاحزاب السياسية وعلى رأسها القوى التقدمية وفي طليعتها الحزب الشيوعي وهو يراقب بدقة وعمق ما يجري على الساحة. ويتابع امتداد ذلك من آفاق بعيدة. فقد كانت الدول الرأسمالية تسعى لتطويق الانتصارات التي سجلتها الشعوب بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط الفكر النازي وإماطة اللثام عن نواياه القذرة، وما منعته الطموحات البعيدة المدى ومحاولة تطويق الشعوب بقيود جديدة مرسومة بدقة وبشكل لعله يحظى بالقبول، وعلى رأس ذلك ربط الشعوب المتحررة بمعاهدات جديدة تخضع الشعوب وتضعها تحت المظلة القديمة بألوان جديدة، ومكان حلف بغداد احد المشاريع التي سعت اليها الدول الامبريالية لابعاد الانفتاح الديمقراطي وانتصار قوى الاشتراكية وانطلاق المشاهد المشرقة من وراء (السياج الحديدي) كما كانوا يطلقونه على الاتحاد السوفياتي. وفي الوقت الذي كانت فيه نداءات الشعوب تشيد بالانتصار كانت هنالك محاولات لاعداد مشروع الهلال الخصيب تحت التاج البريطاني، وكانت تلجأ قبل اجتماعات حلف بغداد.. او عند وقوع احداث او اجراء لقاءات على مستوى دولي الى اعتقال عدد من اليساريين الذين (يمكن) ان يحرضوا او يقودوا الجماهير للخروج في مظاهرات او القيام بحملة احتجاجات (تفسد) الاجراءات التي ينوون اتخاذها. وعند انتهاء الاجتماعات يطلقون سراحهم بعد اعتقال لمدد تتراوح بين الاسبوع او اسبوعين. وكنت واحداً من هؤلاء المعتقلين وقد اصبحنا (معاميل) مع دائرة التحقيقات الجنائية يرافق ذلك التهديدات وابداء النصائح لعدم ممارسة مثل هذه الاعمال (الاجرامية)، كما كانوا يسمونها لانها تسيء الى علاقتنا مع العالم والدول المتحضرة. وكانت هنالك ايضا نوايا اخلاقية سيئة تخص بعض المتمردين على اغراءات وتهديدات بعض (عرفاء) الامن، ويستغلون مثل هذه الفرص لاعتقالهم، وبالتالي إرغامهم على مماسات اخلاقية، وحدث مرة ان اعتقلتُ مع صبيان تتراوح اعمارهم بين الخامسة عشرة وآخر قليلا وكان معنا مهربون، وشقاوات، وكنت اضطر للسهر حتى الصباح وتنظيم خفارات لمنع اعتداء أي من هؤلاء على الصغار المحسوبين على الاحداث الاسياسية. لأنهم كانوا ابناء منطقتي (السنك) واشعر بالمسؤولية عنهم ولحمايتهم، وتحديا لرجال الأمن السفلة.
خلال ذلك كانت الحركة الثقافية تؤكد وجودها التقدمي. كانت هناك شلة ادبية متقدمة وهم عبد الملك نوري وغائب طعمة وبلند الحيدري والبياتي، تلتقي في المقهى البرازيلي. وكان قسم آخر في مقهى السويسري وهما في شارع الرشيد قرب سينما الزوراء التي اصبحت الان (مزبلة)، وكانت من وجوه التقدم الفني البارز حيث تكثر دور السينما وتتصارع في تقديم الافلام كما كان هنالك عناصر اخرى تتردد على مقاهي البرلمان وحسن عجمي والزهاوي، وهي الاماكن القريبة من شارع المتنبي. وكان الحوار يحتدم والمناقشات تتعالى صرخاتها، وينتقل هذا الحوار الى الصحافة، صراع بين الواقعية الاشتراكية والسريالية والواقعية. وكان بدر السياب يطلق قصائده الثورية والجماهير تسترجع قصائده، مثل "حفار القبور" و"المومس العمياء". وكاظم السماوي يضخ شعره الكلاسيكي ويؤكد وجوده كشاعر عملاق متمكن يحاول ان يثبت قصائده في مجابهة الجواهري ورشيد ياسين يناقش جهارة وتحدٍ، ويعلن عن تطلعاته الثورية الحديثة. كما كان حسين مردان يتألق بما يقدم من قصائد عارية وجريئة وقد كنا شبابا.. متواضعين لجأنا الى تشكيل (اسرة الفن الواقعي) وكان ابرز أعضائها مرتضى الشيخ حسين ورشدي العامل وموسى النقدي واحمد الصفار. وماجد العامل، ومحمد النقدي وأصدرنا أول كتاب (قصة من الجنوب) لمرتضى، وكان الكتاب الثاني ديوان (قمم) لألفريد سمعان.. وكان الكتاب الثالث مجموعة قصصية لأحمد الصفار وقد كبست في المطبعة وصودرت من قبل التحقيقات الجنائية. وقصيدة قمم كنت قد القيتها في اجتماع اقيم في سوق الصفافير ليلاً تأييدا للأستاذ كامل الجادرجي الذي كان مرشحاً عن الحزب الوطني الديمقراطي، المنطقة الثالثة على ما اعتقد، وكان عريف الحفل المحامي عبد الرحمن الصفار الذي اعترض في البداية وكان إصرارنا نحن أنصار الحزب الشيوعي قد أجبرهم على ان تقدم فعالية ومشاركة فألقيت القصيدة.. وخرجت مظاهرة ليلية تأييدا للجادرجي مع شعارات المناداة بالحرية والديمقراطية والخبز ومحاربة البطالة.
لقد كان هناك تعاطف مع القراءة لاسيما بعد الانفتاح المنغلق الذي ساد الاجواء لاسيما بعد قيام دور النشر اللبنانية والمصرية بشكل خاص بترجمة عدد كبير من الروايات والقصائد للشعراء السوفيت وكبار الكتاب من ضمنهم تولستوي، تورجنيف، دستوفسكي، وغوركي. اضافة لهوارد فاست همنغواي وكالدويل وسواهم وأصبحت هذه النتاجات الرائعة تناقش وهنالك منافسة شديدة واقبال كبير على المطالعة والحوار. كما كانت هنالك افلام تتحدث عن صراع الحلفاء ضد النازية والفاشية. ويمكن اعتبار الخمسينات هي بدء الانفتاح الثقافي التقدمي والحوار الكثيف حول الفكر العالمي. وكانت الكتب تصل من بيروت ومصر بشكل ما.. لم تتبرأ من (التهريب) الذكي من قبل اصحاب المكتبات وعلى رأسهم قاسم الرجب.
كما كانت تصل عن طريق (جبار) الذي كان يتخذ من مدخل فندق الرشيد قرب المقهى البرازيلي رفوفا لمكتبته المتواضعة، واصبح قريبا منا حيث كان يقدم لنا الكتب التي يصادرها رجال التحقيقات من بيوت التقدميين وبيعها لنا ثانية.. وهكذا كان رجال التحقيقات يساهمون في (تثقيف) التقدميين بهذه الوسيلة ويؤكدون على (لصوصية) ذكية كنا نرحب بها.
وفي يوم ما جاءنا خبر بان هناك حملة اعتقالات جديدة ولا بد من الاحتياط ونقل الكتب والورقيات الأخرى.
وكان قد صدر للرفيق عامر عبد الله كتاب عن حركة السلام وتنظيمها وهي، مجموعة أغاني الحرية وديوان الفريد سمعان حيث كلف المدعي المدعي العام عبدالامير العكيلي بإقامة الدعوى علينا. ورفض، فقام قاضي تحقيقات الأمن بذلك. وقد نقلت كتبي الثمينة التي جلبها لي اخي عدنان سمعان بعد عودته من الدورة الرياضية العربية التي أقيمت في بيروت. ونقلتها الى بيت أحمد الصفار وبعد بضع ساعات خابرت زوجته، وقالت ان زوجها اعتقل وصودرت الكتب. وبقى مصراً على انها تعود له وقضي اكثر من تسعين يوماً معتقلاً من أجلها. وعند مطالبتي له بالكتب التي استعادها رفض، لانه صانها بصموده وصمته. وكان يستحق ذلك فعلاً.