مدارات

ابو تموز وجده! / شمران الياسري

كان سويلم الصفر (دَرْجَه) في سلم الريف الاقطاعي، يرقاها الفلاح اذا اراد مقابلة المأمور او الوكيل، وعليها يهبط الشيخ الاقطاعي، اذا شاء الاتصال بفلاحيه، متجاوزا الروتين الذي يقضي بان يتم اتصاله عن طريق الوكيل ثم المأمور، وعلى العموم فقد كان سويلم درجة ممهدة بوجه الهابطين، صعبة مستعصية على الصاعدين، شأن السراكيل الاوفياء لـ (مهنتهم). وخلال عمليات الصعود والهبوط تتساقط فتات وكسر، احسن سويلم جمعها وادخارها، فغدا مميزا عن اقرانه بوسعه دفع اجور عن تعليم اولاده الثلاثة لمبادئ القراءة في (الكتّاب). وتشاء الصدف (ولست ميالاً لتحميل الصدف كل المسؤولية) ان تكون استفادة الاولاد من (الكتّاب) بطريقة معاكسة لاعمارهم، فاكبرهم رسن، نسي ما تعلمه بعد سنتين، واصغرهم معن، اكثرهم استفادة مما تعلم. واوسطهم حسن، وسط بين الحالتين.. وكان حلم الاب ان يصبح احدهم في مرتبة كاتب الشيوخ (الملا) المتأنق المتحذلق.. المتهم بجمع آلاف الدنانير (وهي تهمة خير على كل حال) وكان يحلو لسويلم الصفر ان يعمل ميزانية سنوية – مع نفسه – لإيراد الملا المنظور، مضروبا في عشرة – تخمينا لإيراده المستور. وتتلخص مبادئ سويلم في الحياة بمأثورتين: (الما عنده فلس ما يسوا فلس) و (ايد الماتشابجها بوسها).
وعلى ضوء مبادئه، في الحياة، تمكن من تعيين ولده، الصغير معن حارسا لمدرسة قرية الشيوخ التي افتتحت حديثاً، نتيجة لمسعاه الدؤوب الذي اثمر وساطة الشيخ، ويومها لن يخيب للشيخ رجاء.. فقال الفلاحون عن سويلم:
- حظه عدل وجعبته لاجية، زرع زين، وحلال تارس الثنية، وانوب معاش حكومه، واولاده كل واحد لزم الشغله اليعرفها زين ويطلع من حكها: رسن راعي بالحلال، وحسن فلاح بالزرع، ومعن فراش ياكل معاش..
وكسب معن مرضاة المعلمين، فصار حارس المدرسة وفراشها وطباخ المعلمين وصديقهم.. يقرأ ما يقرؤون، ويصغي بانتباه حين يتناقشون فسمع حكايات عن ثورة اكتوبر.. ومراسيم السلام والارض التي اصدرها لينين، غداة الثورة، فاستأثر باهتمامه مرسوم الارض الذي لامس اوتارا حساسة في قلبه، اما مرسوم السلام – والسلام كله – فلم يفهمه كما ينبغي، وربما لم يفهمه كلية شأن الذين ابعدتهم الظروف عن ساحات الحرب فلم يكتووا بنارها ويتجرعوا ويلاتها.. وراح معن يبشر بمرسوم الارض. ويروي للفلاحين ما سمع وما قرأ عن اكتوبر وتنفيذ مرسوم الارض.. وامكانية تكرار التجربة، على ارض العراق، بهذا الشكل او ذاك، اذا ما طبقت تعاليم لينين ووصاياه.
وسعى الساعون بوشاية عند ابيه قائلين: لو بلغ مسامع الشيخ بعض الذي يقوله معن، فان هذا البعض يكفي لفصله من الحراسة، وطردك من السركلة. فاحتدم سويلم غيضا، وثارت ثائرته، واختلى بولده ناصحا ومؤنبا.. ومهددا:
- اسمع اكلك.. آنا ما صرت سركال الا بعد ما ذبحت الف دجاجة.. وچذبت الف چذبه.. وما سويتك حارس بالمدرسة الا بعد ما حبيت الف ايد.. وطبطبت على مية چتف.. وتالي ما تالي، اتريد اتضيعها كلها برمشة عين، على سالفة مدري شنهي ما شنهي.. اسمع اكلك.. انچان ربعك المعلمين ترضيهم هاي السوالف.. سولفها، لكن اياك وبالك يسمع بيها الشيخ.. ولك لا اتصير غشيم.. اهل المثل گايلين: الشاطر يخفي البعير وحداجته بمخلايته.. اسمع اگلك.. هذوله التسولف عليهم.. نسيت اساميهم.. مريسيم وكتيبير ولينين، ما عندي عداوه وياهم هالاولاد الحموله، لا اعرفهم ولا يعرفوني، لكن ما دام الشيخ يكرههم لا تسولف عليهم وتخليه يسمع.. ويطردني من السركله ويفصلك من شغيلتك.. ولو سولفلي عليك مرة ثانية، تراني موش زين اوياك! وتعرفني.. اگول وافعل.
وسرت العدوى من معن الى حسن (وما اسرع واخطر عدوى الافكار اذا صادفت منبتا خصباً) وصار حسن قطبا لكل حلقة فلاحية يروي لهم حكايات عن مرسوم الارض، ونتائجه.. وكيف يعيش الفلاحون الآن، في الدولة التي انشأها لينين، وطبق فيها لاول مرة، مرسوم الارض.. وسارع بعضهم الى سويلم الصفر، ناصحا ومحذرا من عواقب الامور.. وان الوشاية قاب قوسين او ادنى من اذن الشيخ الاقطاعي.. فامسك سويلم ولده حسن من (زيگ الدشداشه) وقال له بحدة جنونية:
- اسمع اگلك.. اريد احچيها سراحه.. لو خيروني بين رضا الشيخ ورضا الباري، عز وجل، اتخير رضا الشيخ من حيث الباري عز وجل، نفسه طويل وحسابه تالي وكت ومنها ليوم القيامة مية الف باب فرج.. لكن الشيخ حسابه نقدي، يطردني من السركله ويفصل معن من شغلته.. اسمع اگلك.. لو ما بطلت من هالسوالف تراني اطردك.. واعرف اشلون انتقم منك واحرچ گلبك.. تراني اجوز بتي اللي تريد اتصادق بيها اگبال عشيچتك.
وانطلقت جماهير الفلاحين من اسرها، صبيحة الرابع عشر من تموز 1958 في (هوسه) استفزازية للشيخ، جوار قصره، يوجهها ويقودها اولاد سويلم الصفر.. وبلغه ما فعل اولاده، فاستقبلهم مساء بغيض – كسابق عهده – لكنه فوجئ برد حازم وجريء، لم يعهده من حسن، يتلخص بعبارتين: كنت تهددنا ليس كأب ناصح فنسترشد بما تقول.. انما تهددنا بصفتك سركالا عند الشيخ، ولهذا نرهب جانبك.. اما اليوم فقد اختلف الامر تماما.. وانبرى له معن، موضحا: لقد سقطت دولة الشيوخ، وصار الدفاع عنها باللسان، فضلا عن اليد، يشكل خطورة تدق العنق! فتراخى سويلم، وخمد بركانه، واجاب همساً:
- كونها صدگ، مثل ما اتگولون، والشيوخ ما يردون بعد، ويحكمون.. احسبوني وياكم.. نعلة ابو الشيوخ لا ابو حزيتهم.. لكن اخاف وراها حصبة وجدري..! ولما اطمأن سويلم الى رسوخ الجمهورية ورآى ثورة تموز تسير بقوة لا تقاوم، وضع ما عنده من طاقات في خدمة الجمهورية! وصار (مهوال) كل جمع فلاحي، لا يمل من ترديد الهوسة المعروفة:
- من عهد البايد ملينا ..
ورافق لجنة الاستيلاء التي جاءت الى مقاطعة الشيوخ، واصر امام جمهرة الفلاحين، على ان يضع (الثاية) الاولى بيده.. قائلا وهو يمسك المسحاة:
- گبل عشرين سنة ناذر نذر، لو اجت حكومة رحومة واخذت گاع الشيوخ، لازم بيدي ادگ اول ثايه واجسم الگاع على اخوتي الفلاليح..
وحظي نشاطه باعجاب الفلاحين، وتغيرت صورته في اذهانهم وقال بعضهم لبعض: عله يكفر عن اخلاصه السابق للاقطاعيين، وبعض قال: ربما كان يخفي كراهيته للشيوخ.. وبذلك امكنه الاحتفاظ بالارض التي كان يزرعها في (عهد البايد) ولم يزاحمه احد من الفلاحين على المساحة المتبقية من (الهوره) التي تكفي خمسة او ستة فلاحين.. وتضاعف محصوله الشتوي والصيفي، وصار قطيعه (يفور) بركه.. وتعود الفلاحون ان يسمعوه مرددا بمناسبة ودون مناسبة، (تيموز ابو الصلاح الزراعي.. تيموز ابو الخيرات..).
وغدت ربعته مقرا للجمعية الفلاحية، ومنتدى للشباب، فيها تقام الاحتفالات بالمناسبات والاعياد الوطنية والاممية.
وقبل ان ينقضي العام الاول من عمر الجمعيات الفلاحية، في عهدها العلني، ارتفعت الاصوات المرعوبة من النشاط الثوري في الريف، داعية الى الحكمة والتعقل، مستظلة براية (زيادة الانتاج) واضعة النشاط الجماهيري نقيض زيادة الانتاج.. وسادت الريف موجة (التعقل) البرجوازي يرافقها تشخيص، ثم قمع للعناصر الفلاحية القائدة.. وكان سويلم الصفر بين مصدق ومكذب لما يجري حوله، ويُهمس في آذانه، همه ان يعرف الاتجاه النهائي للسلطة.. واذ توضحت له الخطوط قال مجاهراً:
- عمي اتريدون الصدگ.. ولو ابني ريس جمعية.. لكن الحسبة موش عدلة، ما ايصير امورنا بيد الزعاطيط لوحدهم.. ويظلون اولاد الحمولة والاجاويد على صفحة ما إلهم صوت مسموع.
ورفع عالياً راية تقديم اولاد الحمولة، الى المناصب التي هم اهلها، اب عن جد، فكوفئ على دعوته هذه.. وعيّن عضواً في مجلس ادارة الجمعية الجديدة، التي تألفت من اولاد الحمولة والاجاويد، لتحل محل الجمعية الفلاحية الحقيقية.. واستقامت الامور لاولاد الحمولة.. وساد الريف ارهاب وقمع.. وبدأ سويلم الصفر يبشر برأيه الجديد: ما دامت الارض هي بغية الفلاح، وما دامت الحكومة الوطنية قد وزعت الارض على الفلاحين.. فينبغي علينا الدخول في مرضاتها، بأي ثمن.. وتبعا لذلك حرم على اولاده اقامة اي احتفال وعقد اي اجتماع في ربعته، مستثنياً عيد تموز.. قائلا بوضوح:
- احتفلوا بتيموز على كيفكم.. تيموز ابو الصلاح الزراعي.. تيموز ابو الخير.. واللي ينكر فضله ابن حرام.
وسار الحال على هذا المنوال، في ريف اولاد الحمولة، ولم يتبق على موعد الاحتفال بالذكرى الخامسة والاربعين لثورة اكتوبر العظمى، الا ايام معدودات، وراح اولاد سويلم واصدقاؤهم يفكرون اين يقيمون الاحتفال.. فدبروا امرهم.. واتخذوا كل حيطة.. وفي اليوم المحدد، وعندما توجه سويلم الى مضيف الشيوخ، على عادته، ليشرب قهوة العصر.. بدأ اولاده اقامة الاحتفال في ربعته، مقدرين ان بوسعهم اختتامه قبل عودة الاب.. وغصت الربعة بالفلاحين – الشباب خصوصا – وشرع اولاد سويلم يعملون: حسن يوزع الجكليت.. ورسن يصب الشاي.. ومعن يتحدث عن ثورة اكتوبر وقائدها العبقري، لينين.. ان ثورة اكتوبر فتحت الدرب لكل المحرومين وسهلت لهم انتزاع حقوقهم المغتصبة.. وان ثورة اكتوبر .. وان لينين.. اكتوبر.. لينين وتجمدت الكلمة فوق شفتيه حين دخل الاب فجأة، وسارع بالسؤال:
- هاي شنهي؟ آنا موش گلت بعد ما ايصير احتفال بربعتي.. عدا احتفال تيموز..
فأجاب حسن:
- احنا ما امخالفين وصيتك.. هم جاعد نحجي على تموز..
فتساءل الاب بحدة:
- چا هذولة التحجون عنهم: اكتوبر ولينين شنهم؟!
فسارع معن يجيب بلهجة حازمة:
- حسابات الاشهر ما تعرفها انته.. آنا افهمك بيها: اكتوبر ابو تموز، ولينين جده.. فصمت سويلم لحظة، واجال بصره في الربعة. وحين تملى وجوه الرجال طالعه الجد والاصرار.. وعلامات الموافقة على ما قاله معن مرتسمة في الوجوه .. فبلع ريقه وقال بفتور:
- چا اشمدريني!
على احسابنا العتيج.. يطلع ابو تيموز حزيران وايار جده.. لكن ما دام حسابكم ايگول ابو تيموز اكتوبر وجده لينين.. ما عندي اعتراض.. بيها الخير!
بيها الخير ما دام طلع ابو تيموز اكتوبر وجده لينين!