مدارات

عندما يصبح ابن العائلة الاقطاعية شيوعياً مناضلاً (2-2) / كوريا رياح-احمد الغانم- سالم الحميد

وهل اعدتم اتصالكم بالحزب بعد خروجكم من المعتقل؟
صلتنا بالحزب كانت مستمرة ولم تنقطع نظراً لوجود عدد كبير من الرفاق معنا في المعتقل.
ومن هم أهم المناضلين الشيوعيين الذين عاصرتهم
كان هناك اثنان من ابرز الشيوعيين المناضلين:
سالم سريح والمناضل الشهيد صاحب ملا آل خصاف، الذي كتب عنه الشاعر مظفر النواب قصيدته الرائعة "صويحب من يموت المنجل يداعي". وهو الذي غدر به الإقطاع، قتلوه ورموا بجثته أمام داره، وأذكر أنه حين استشهد وضعنا علامات سود على اكمامنا حدادا عليه.
مجيء ثورة 14 تموز كان فرحة كبيرة لنا، وكنا نظن أننا سنعيش بعدها في مأمن من بطش السلطة، وأن مرحلة جديدة من العمل العلني ستدشن. وكنا ننتظر ونتابع الأخبار التي تأتي من بغداد وبلهفة.

يقال أنك قمت بتوزيع الحاصل على الفلاحين، هل كان ذلك برغبة منك أم تحت ضغط الفلاحين..؟

لا.. طوعا وبرغبة مني. بعد فترة من قيام الجمهورية قمت بفتح الأبواب ووزعت المحصول على الفلاحين، وقلت لهم: خذوا ما تريدون .. أنها ملك لكم. قدمت على ذلك طوعا ودون إكراه. كنت أتمنى أن أطبق الاشتراكية ولو بشكل فردي، نظراً لإيماني بما تعلمته من مبادئ.
في سنة 1958 رحلنا الى بغداد لنستقبل حياة جديدة وكتبت رسالة للحزب بعد أن تأخر ترحيلي قلت فيها: يجب أن ترحلوني إلى بغداد. لكن لم يأت الترحيل، وكنت في شوق لإتمام مسيرتي في الحزب رغم كوني لم أكن بعيدا عنه. كنت أعمل في صفوف الشبيبة وأشارك في كل نشاطات الحزب الجماهيرية .. وكنت أنتظر ان يأتينا الأشراف لأستفسر عن سبب التأخير.
ولما جاء الرفيق المشرف فوجئت بأنه هو الرفيق ستار خضير. سألني بعد أن أخبرته عن ظروف اعتقالي في العمارة:
هل أعتقل احد معكم؟ قلت نعم، اعتقل ثلاثة كما عملت، منهم الرفيق ستار خضير. ابتسم وقال: أنا ستار خضير. ثم اقر أن تمنح لي بطاقة عضوية الحزب. وبعد اجتماعين تدرجت من عضو إلى عضو متقدم، وكنت قريبا من المحلية، وكلفت بأن أكون مسؤولا عن منظمة كبيرة هي منظمة الشاكرية والوشاش.
بعد فترة قدنا مظاهرات إلى السفارة الأمريكية للاحتجاج على التجارب النووية في الفضاء الخارجي. وكل منا يرتدي زيه الشعبي (الأفندي وأبو العقال، وأبو جراوية..) أو الزي القومي (الكردي والآثوري) حتى يتم تمثيل كل أطياف الشعب.
وصلنا إلى السفارة الأمريكية ونحن نهتف ضد الامبريالية الأمريكية وقبل أن نصل إلى السفارة نبهنا شاب صغير إلى أن الأمن يحيطون بالسفارة. وما أن اقتربت المظاهر ة حتى داهمتنا القوات الأمنية وباشرت حملة اعتقالات ضدنا. وكنت أيضا ضمن المعتقلين، حيث قُيدت بعقالي وغترتي، وضربوني بقسوة حتى ظلت الدماء تسيل من فمي وانفي. ورغم أن حالي كان لا يسر أحدا فقد تألمت لمنظر الشاب الذي نبهنا في الطريق . حيث رأيت الشرطة يتحلقون حوله و يضربونه بقسوة. فما كان مني إلا أن انتفض بوجههم قائلا: ما سبب ضربكم لهذا الطفل الصبي؟ كان طالباً في الثانوية وأصبح طبيب عيون فيما بعد . وجاءني الرد سريعا حيث لم أعد أعرف من أين تأتيني الصفعات. اركبونا سيارات الشرطة، فتحينت الفرصة للهرب وكورت جسمي متأهباً لأطلق ساقي للريح .. ولكنهم انتبهوا فما أن حاولت حتى قبضوا علي وسحلوني من الشارع إلى داخل المركز. كنت فاقدا للوعي ..وضعوني في الساحة و تجمع السجناء حولي وهم متألمون لحالي، لظنهم أنهم جاءوا بي إلى المركز دون ذنب، وإن لا صلة لي بالمظاهرة. فكانوا يقولون لي: عمي أحسبها علينا. وكنت انا أضحك في داخلي واقول لهم بلهجتي العمارية: هاي بسيطة بصايتكم، تهون وأنتم سالمين.
احد الرفاق ويدعى عباس الخفاجي (أنهار فيما بعد) خطب فينا قائلا: رفاق، على كل منكم ان يتصرف كما يلي: أذا كنت شيوعيا ومعروفاً من قبل الأمن فقل أنني خرجت في المظاهرة بناء على طلب الحزب. وأذا كنت غير مكشوف فقل إني سمعت الزعيم يشجب التجارب النووية في الفضاء الخارجي وخرجت مؤيداً الزعيم ، أما اذا كنت تريد الخروج فقل إني كنت مستطرقا وقبضوا علي وجاءوا بي إلى هنا.
ولما عرضونا على المحقق ، كنت لا أستطيع الكلام نتيجة للألم والكدمات التي ملأت جسمي والدماء التي ملأت فمي.
وقد سبقوني في التحقيق أحد الموقوفين وقال أنه سمع الزعيم يشجب التجارب، ولذلك خرج للمظاهرة. فما كان مني إلا أن أقول: آني مثله. لكن ذلك لم يشفع لي وأرسلت إلى الموقف العام - القلعة الخامسة. وكان معي هناك الشهيد حمزة سلمان أبو سلام الذي قال للجلادين ومنهم عبد السلام محمد عارف حين هددوه بالموت، قال لهم بثبات: أين هو الموت؟ إني أبحث عنه..
وقال لي الشهيد: أنت ستبقى قربي هنا. وهيأ لي مكاناً للنوم قربه. كان مناضلا ومعلما وإنسانا كبيرا. كان لا يناديني إلا بكلمة رفيق. وبعد شهرين أو ثلاثة أطلقوا سراحنا.
الدور الذي كان الحزب يلعبه على الساحة لم يكن سياسيا فحسب. كان يساهم في حل النزاعات العشائرية ومعالجة القضايا الاجتماعية والمدنية نظرا لما يتمتع به من احترام بين الجميع.
قال لي الشهيد حمزة سلمان:
رفيق هاشم، يقال أن نزاعا مسلح نشب بين عشيرة آل زيرج وعشيرة البو علي في العمارة، وأريدك أن تسافر الى هنالك. وبعد تشكيل وفد الشيوعيين للتوجه للعمارة لغرض مصالحة الطرفين وإطفاء نار الفتنة، وتهدئة الوضع ، شعرنا انها ليست بالمهمة السهلة، لكن كان علينا الامتثال لأوامر الحزب. الوفد كان مؤلفاً من أربعة رفاق. اثنان الى كل عشيرة. فكنت أنا وشنيشل حاتم المذكور (أبو ماجد) إلى آل زيرج والوفد الثاني كان برئاسة فعل آل ضمد إلى البو علي. وجرى التأكيد على ضرورة الذهاب في المهمة بالزي الريفي .
توجهنا للعمارة وهناك ذهبنا الى اللجنة المحلية بالعمارة حيث وجدنا الرفيق صاحب الحميري، الذي رفض أن يعطينا أي معلومات إلا بعد جلب رسالة من الحزب. وذهبنا على مسؤوليتنا حيث أنجزنا مهمتنا. وقد بذلنا جهدا كبيرا في سبيل تهدئة الوضع ومن أجل الجنوح للسلم بين الطرفين. واتصلنا بشخصيتين هما حاتم آل مذكور من وجوه آل زيرج و مزعل آل ساجت من الوجهاء ايضا. وعند عودتنا قدمنا تقريرين للحزب عن مهمتنا. وأرسل لي الحزب بعد ذلك عضوية اللجنة المحلية في الكرخ ، (الشاكرية، والوشاش، والشواكة ، وأطراف بغداد المحمودية واليوسفية) وكانت سكرتيرة محلية الكرخ آنذاك الرفيقة ليلى الرومي.

محطات حياتية مهمة

وانقطع الرفيق هاشم عن الحديث ، ثم راح يسترجع ذكرياته: انتخابات الشبيبة كانت تحمل نكهة خاصة رغم المواقف المؤلمة التي صاحبتها.
يقول الرفيق مستطردا: زاد عدد الأصدقاء في منظمة الشبيبة على 120 في منظمتنا ، فأراد الحزب أن ينتخب لجنة قيادية. كان الجميع يحبونني، ولي علاقات جيدة مع الكثير منهم وكنت ضامنا للفوز فيها. وبعد التصويت انتخبوا أربعة أنا واحد منهم، إضافة إلى كشكول وعزيز اسود والمحامي الحريشاوي. شكك البعض في نزاهة الانتخابات فأعيدت مرة أخرى وكان أسمي ضمن الفائزين أيضا. حاول قاسم جلود فرض نفسه ليكون بديلا عني، لكني رفضت، مما تسبب في شجار بيني وبينه و صل إلى حد أنه أراد أن يقتلني، ولولا قدوم أهلي وأخوتي في الوقت المناسب لما نجوت من الموت.
لم يهنأ الشيوعيين أو يتمتعوا بديمقراطية حقيقية في ظل أي من الأنظمة ، وحتى في عهد عبد الكريم قاسم. حيث أن الكثير من الشيوعيون تعرضوا للاعتقال وأحكام وصلت إلى حد الإعدام. ولما نجح الانقلابيون في عام 1963 وقف الشيوعيون في المقدمة للدفاع عن الجمهورية.
يقول الرفيق هاشم محمد:
كنت انا ضمن المواطنين الذين حاولوا دخول الإذاعة قبل إعدام عبد الكريم قاسم، وجدت هناك احد المعارف من جيراننا اسمه ساجت علوان، قلت له: ساجت نريد ان ندخل للاذاعة لنذيع بياناً، فقال لي: يا إذاعة، الإذاعة في أبي غريب.
بعد أسبوع من الانقلاب كنت ابحث عن الرفيق حسن كشكول لمعرفة الأخبار منه عن الانقلاب، وعن الهجمة الشرسة التي وجهت للحزب، فاعتقلتني مفرزة كبيرة. أخذوني إلى مركز شرطة الشاكرية، وكان طلبهم الوحيد هو أن أسب قيادة الحزب الشيوعي (الرفيق فهد ،صارم ،حازم ،سلام عادل) مقابل أطلاق سراحي. فقلت لهم مستفزا إياهم: اذا سبيت الشيوعية فمن الذي يضمن أن الشيوعيين لا يستلمون السلطة كيف يكون موقفي؟
أصر أحد الضباط أن اذكر الحزب بسوء ، لكني رفضت. فما كان منهم إلا أن مارسوا معي أشد أنواع التعذيب، كنا نرى صمود الشيوعيين الأبطال وهم يواجهون جلاديهم بإيمانهم فنزداد إصرارا ،و ثباتا على موقفنا .. حتى أن الموت بالنسبة لنا كان كأنما الذهاب إلى نزهة .
افراد الحرس القومي والشرطة كانوا يقولون لنا: سب وإحنا نبريك .. مثل بقية رفاقنا ..أخذونا بعدها إلى ملعب الإدارة المحلية، وكانت كل غرفة فيها عشرون معتقلا من الشيوعيين واصدقائهم ..
أحالوني إلى المحكمة وصدر بحقي حكم بالسجن لمدة خمسة أعوام أشغال شاقة. لكني خرجت عام 1966.
قد يتعب الحديد، لكن الشيوعيين كلما زادت المحن عليهم كلما صاروا اشد عزما وإصرارا على مواصلة المسيرة.
خرجت ، وقد انقطعت عن التنظيم، بسبب المرض الذي أصابني والالتزامات العشائرية والاجتماعية، و لكن بقيت صلتي بالحزب قوية واساهم في اغلب النشاطات. أتذكر أننا قمنا باحتفالية في الذكرى الأربعين للحزب وعاصرنا قيام الجبهة الوطنية، والارتداد، وفشل التجربة وظلت قلوبنا تتابع رفاقنا ونتابع اخبارهم. وحين سقط صنم الدكتاتورية والاستبداد، زرت المقر الرئيسي للحزب، وحضرت بعض الاحتفالات. وتواصلت زياراتي ولقاءاتي مع الرفاق في منظمة مدينة الثورة.
هكذا أنهى رفيقنا هاشم حديثه، وودعناه ونحن على يقين بأن في جعبته الكثير الكثير بعد من الذكريات. لكن حالته الصحية المتردية لم تسمح له بالكثير من الحديث.