المنبرالحر

الشاكرية / خضر عواد الخزاعي

يعيد التاريخ نفسه وعلى مقربة من ضفاف دجلة كان للجنوبيين أحفاد سومر وبابل قدراً جديداُ لكنه يختلف هذه المرة عما كانوا عليه في موطن الحضارات الأولى في الارض التي حملت أسم بلاد الرافدين حين غربت شمس الاميراطوريات وأمست الأقوام المؤسسة لأول الحضارات البشرية قطعان من النازحين والمهجرين قسراً عن موئل الأرض الأم ونبراس النور أختفت عشتار وغادر تموز برحلته الأخيرة حيث اللاعودة وعلى ضفاف دجلة بغداد تأسست اول أمارة للمهاجرين الجدد - الشاكرية ..
نسبة قليلة جدا من هذا الجيل يتذكر الشاكرية رغم ان آباءهم وأمهاتم عاشوا هناك لفترة لابأس بها الشاكرية كانت محطة الرحال الاولى لآلاف النازحين العراقيين من جنوب العراق وبالأخص العمارة والكوت وبعض مناطق الفرات الأوسط في بداية الثلاثينات من القرن المنصرم ﺇلى بغداد هرباً من الاقطاع والفقر والبحث عن فرص جديدة لحياة أفضل في بغداد الشاكرية في موقعها الجغرافي الذي تأسست عليه كانت جزء من كرادة مريم وهي الآن تشكل دائرة أو مربعا تحتل كل المنطقة المعروفة الآن بالمنطقة الخضراء (المنطقة الدولية) حيث مجمع القصور الرئاسية في وقتها كانت ضاحية مهملة غرب بغداد بنيت بيوتها من الصفيح والطين والقصب وسعف النخيل وأمتدت وتوسعت لكثرة المهاجرين حتى وصلت الى أطراف الوشاش وهي لم تتأسس بتخطيط أداري أو عمراني بقدر ما تشكلت على أسس سكانية - عشائرية وبطريقة عشوائية في فترة ما سميت بموسكو الصغرى لما كان لدور الحزب الشيوعي فيها من نشاط وتأثير في شريحة كبيرة من أبنائها ، من معالمها الرئيسية آنذاك شارع الكيارة ومقهى جبار مريدي وباص المصلحة رقم 15، أمتاز أهلها الى جانب الفقر والبساطة بالوداعة وحب المشاركة في الأفراح والأحزان مع الاخرين تجمعهم صلة القرابة والعشيرة والفقر ولقد كان الفقر علامتها الفارقة في وقت كانت فيه فرص العمل نادرة وتحتاج الى متعلمين في حين ان أغلب النازحين من الجنوب كانوا أميين لا يجيدون فك الحرف بالأضافة الى أن اغلبهم لم يكونوا حاصلين على الجنسية العراقية أصلا بسبب سوء الأدارة والاهمال المتعمد لهذه الشريحة من أبناء العراق من الحكومات المتوالية على حكمه لذلك أضطر معظم أبنائها الى العمل في ظروف سيئة كعمال بناء او مستخدمين أو باعة متجولين والبعض منهم أسعفه الحظ فقبل بالأنتساب في سلك الشرطة شرطي أو قبل بالتطوع في الخدمة العسكرية ليتمكنوا من الحصول على ما يكفي من قوت يومهم حتى فجر ثورة 14 تموز 1958حيث تبنى الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم أول رئيس لوزراء العراق في العهد الجمهوري بعد زيارات متعددة لتلك المناطق وما شهده بعينه من معاناة وهدر لأنسانيتهم فتبنى شخصياً قضية هؤلاء النازحين من أبناء الشاكرية وحاول تحسين أوضاعهم المعاشية والسكنية حين قام بتوزيع سندات الاراضي لهم شرق بغداد في المدينة التي سميت بعد ذلك بمدينة الثورة وبناها لهم وأن لم يشمل الحال الجميع بسبب أغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم وأجهاض الثورة في أنقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 .
مازال الكثيرون من كبار السن يتذكرون الشاكرية ويحنّون ﺇلى أيامها رغم المعاناة التي عاشوها هناك لكن تظل المدينة والموطن الذي عرفوا به بغداد والمكان الأبرز في الذاكرة فهي المحطة الاولى والتجربة الفذة في مواجهة المدن الكبيرة قدمت هذه المدينة للعراق الكثير من المثقفين والمبدعين والاساتذة الذين نشأوا وتربوا هناك كتب عنها الكثيرون مثل كريم العراقي في رواية الشاكرية وكذلك عبدالله صخي في رواية خلف السدة والكثيرون .