المنبرالحر

بعيداً عن الطائفية قريباً من العراق .. الموصل جرح آخر ينزف في خاصرة العراق / خضر عواد الخزاعي

الحديث عن الموصل الحدباء حديث ذو شجون ويحتاج إلى الجرأة والصراحة ومكاشفة الذات لكل من كان قريباً مما حصل ويحصل للموصل من أحداث منذ دخول القوات الامريكية لها في 11 نيسان 2003 أي بعد يومين من سقوط النظام البعثي الدكتاتوري وانسحاب الفيلق الخامس للجيش العراقي السابق منها دون قتال وهذا دليل على أن ما حدث خلال يومي 9 و10 من هذا الشهر والذي شهد تقهقر وأنسحاب قطعات الجيش العراقي الحالي لم يكن الأول من نوعه في هذه المدينة التي تعرضت خلال تاريخها الطويل لعدة حملات وموجات من الغزو الأجنبي والمحلي كان يكلفها في أغلب الأحيان الدمار والتعرض للنكبات .
الموصل مركز محافظة نينوى تقع في شمال العراق وتعد ثاني أكبر مدن العراق بعد بغداد حيث تبعد عن بغداد 402 كيلومتر عدد سكان محافظة نينوى حاليا أكثر مليون ونصف المليون نسمة يقطن نصفهم تقريبا في مدينة الموصل بينما يتوزع آخرون على ضفتي نهر دجلة تبلغ مساحتها 32308 كم مربع سماها العرب كذلك بالحدباء لأن فيها منارة للمسجد الكبير وهي منارة منحنية وأيضا لتحدب مسار نهر دجلة فيها وسميت أيضا بأم الربيعين لأن الخالق عز وجل وهبها ربيعين إثنين في السنة فخريفها هو الربيع الثاني .
تاريخياً تعتبر الموصل واحدة من أولى مناطق الأستيطان البشري ففي سنة 6000 ق.م أستوطن البشر في السهل الممتد شرقي الموصل وخاصة ملتقى نهري الخوصر ودجلة وذلك لخصوبتها ومرور القوافل التجارية لكن لا احد يعرف بالضبط تاريخ بناء المدينة فأول ذكر لمدينة نينوى جاء حوالي 1800 ق.م. حيث عرفت عبادة الإلهة عشتارفي تلك المنطقة فذاع صيتها آنذاك وانتشرت أخبار معجزات الإلهة عشتار في مدينة نينوى في العديد من أنحاء العالم القديم ويعزو المؤرخ الإغريقي قطيسياس والذي كان طبيباً للملك الأخميني أحشيروش الثاني بناء المدينة إلى القائد الآشوري الأسطوري نينوس بناءً على معلومات استقاها من دراسته الوثائق الملكية الآشورية .
بالأضافة إلى ذلك فأنها تعتبر واحدة من أهم المدن التي كانت موطناً لواحدة من أعظم الحضارات العراقية وهي الحضارة الآشورية التي تأسست على أرضها الامبراطورية الىشورية في الألف الثاني قبل الميلاد وأمتدت شمالا لمدن نينوي في النمرود وخورسباد لكنها تعرضت لغزو بابلي بقيادة الملك حمو رابي حيث أحتلها في العام 1760 ق.م لكن ذلك لم ينهي الدور التاريخي للآشورين حيث أستطاعوا بعد فترة وفي القرن الثامن قبل الميلاد من السيطرة على فينيقيا وصور والسامرة على سواحل البحر المتوسط وأستطاعوا في عهد الملك سرجون الثاني من أسر اليهود وسبيهم من موطنهم اورسليم في عام 701 قبل الميلاد وكان الدولة الآشورية معروفة بقوتها العسكرية وبالأضافة إلى ذلك فأن لها إنجازات معمارية في صناعة التماثيل والنحت ولاسيما تماثيل الثيران المجنحة التي كانت تقام أمام القصور الملكية .
ينتهي التاريخ القديم لبلاد آشور في سنة 612 ق.م كما يذكر البروفيسور سيمو باربولا / عالم الآشوريات / جامعة هلسنكي في بحثه المعنون (الاشوريون بعد سقوط بلاد اشور) ففي هذه السنة وبعد حرب أهلية مطولة استطاع البابليون والميديون المخضعون سابقا لبلاد أشور أن يقهروا ويدمروا نينوى عاصمة الإمبراطورية الآشورية في العهد الآشوري الحديث، وتلاشت المدينة العظيمة في لهيب من النيران ولم تستعد منزلتها السابقة أبدا. بعد ذلك بثلاث سنوات قام نفس المتمردون ثانية بتدمير العاصمة الآشورية الغربية "حرُان" ساحقين بذلك آخر خندق للمقاومة لملك بلاد آشور الأخير أشور اوبَلُيط الثاني. هذا الحادث ختم مصير الإمبراطورية الآشورية، وهنا ينتهي عادة عهد الآشوريين في الكتب التاريخية.
في العام 637 هجرية شهدت الموصل الفتح الأسلامي حيث فتحها المسلمون القادمون من شبه الجزيرة العربية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بقيادة التابعي العربي المسلم ربعي بن الأفكل وكانت حينئذ تحت أحتلال وسيطرة الساسانيين ولقبها العرب بالموصل لأنها كانت توصل بين الشام وخورستان يعني بلاد الشمس بالكردية التي فتحها العرب المسلمين من بعد وكما حملت الغزوات التاريخية القديمة للموصل الكثير من سلبيات الغزو فان الفاتحين العرب أيظاً أضافوا بعض مما يثقل كاهل سكان الموصل ويذكر أن الفاتحين العرب كانوا يمنحون اهل البلاد الأختيار بين الأسلام أو دفع الجزية أو السيف وقد حدثت أحداثا هنا وهناك بعد الفتح منها مثلا مقتل رهبان دير قيدار أو دير الابيض في جبل ماردين وقد أصدر الحجاج في عهد الخليفة عبد الملك سنة697م أمرا يقضي باستعمال اللغة العربية في دوائر الدولة وحصر الوظائف العامة بالمسلمين ألأمر الذي حمل العديد من المسيحيين على أعتناق الاسلام وهذا قد أخل بنسبة الديانات فاصبحت الغالبية للاسلام بعد ان كانت للمسيحين في تلك البلاد .
في 26 شعبان 660 هـ / 16 يوليو 1262 دخل المغول مدينة الموصل بعد الأتفاق الذي عقده ملكها الملك الصالح إسماعيل فاستباحوها وعملوا فيها السيف وقتلوا معظم أهاليها وهدموا أكثر من نصفها وقتل الصالح إسماعيل وكذلك ابنه البالغ من العمر ثلاثة اعوام .
وفي سنة 796 هجرية أستولى تيمورلنك عليها وأكمل تدميرها إلى أن ظهرت دولة الخروف الأبيض ودولة الخروف الأسود سنة 810 هـ التي انقرضت بظهور الشاه إسماعيل الصفوي وسيطرة الصفوين على العراق .

في العام 1534 سيطر العثمانيون بقيادة السلطان سليمان القانوني وولى عليها حاكماً يدعى محمد باشا بكلربكي ومن بعده حديد سليمان المحمدي وتولى بعده عدة ولاة حتى سنة 1730حيث تولاها أحد أبناءها وهو حسين باشا بن إسماعيل باشا الجليلي ثم تعرضت المدينة إلى الغزو الفارسي بقيادة نادر شاه سنة 1730 – 1733 م .
هذا حيز بسيط من تاريخ طويل يمتد لآلاف السنين أقتطفناه ونحن على أعتاب غزو جديد لا يستهدف الموصل وحدها بل يستهدف كل العراق .
الموصل في تركيبتها السكانية تعتبر خليط أثني وقومي متعدد الديانات والقوميات ففيها العربي والكوردي والتركماني والأرمني والمسلم والمسيحي والصابئي والأيزيدي مثلما فيها السني والشيعي العربي والكوردي والتركماني وهذا الخليط الذي لازم العصور التي مرت بها نينوى على فترات عصورها التاريخية وكانت التجذابات الدولية والصراعات بين القوى الامبراطورية والعالمية تنعكس سلباً على واقع المدينة حسب غلبة طرف على حساب طرف آخر وفي العهد البعثي وبالخصوص في عهد الطاغية صدام لم تسلم بعض مكونات الموصل من عمليات الأقصاء والتهجير والملاحقة كما حدث لمكون الشبك وهم من العشائر الكردية التي نزحت في أواخر القرن السابع عشر من أيران في اتجاه العراق وأستقرت في الموصل في أكثر من 35 قرية أهمها الشيخان وتلكيف والحمدانية ولقد تعرضوا خلال حكم الطاغية ﺇلى عمليات تهجير في الاعوام 1975 و1988 و1989 لأنهم قاوموا عمليات التعريب التي حاولت سلطة البعث فرضها على القومية الكوردية حتى أنهم أعتبروا في أحصائية 1977 من العرب هذا المكون كانت له الحصة الأكبر من عمليات القتل والأبادة بعد سقوط النظام وخلال فترة الفوضى التي تلت سقوط النظام عام 2003 والتي برزت فيها التنظيمات الجهادية والتكفيرية التي فرضت سلطتها لتملء الفراغ الذي خلفه سقوط النظام وكانت عمليات القتل والتهجير على أسس طائفية وشوفينية لهذه الطائفة وبلغ عدد القتلى من الشبك 1188 قتيلا منذ عام 2003 في داخل مدينة الموصل فقط فيما وصل عدد العوائل التي هاجرت من مدينة الموصل الى 5000 عائلة حتى العام 2012 .
المكون الآخر في الموصل هم التركمان الذين يقطنون في مدينة تلعفر شمال غرب نينوى وعدد سكانهم يبلغ أكثر من 400 الف مواطن وفيها مزيج من الشيعة والسنة وبقيت من المناطق الساخنة طوال فترة ما بعد سقوط النظام بسبب التناحر الكوردي والعربي لفرض سطوته في الموصل وتعرضت تلعفر أيظاً هجمات مسلحة كانت أشدها في 2007 والتي راح ضحيتها المئات من الابرياء وتدمير مئات من المنازل كانت الغالبية فيها من حصة الطائفة الشيعية ولم يسلم الايزيدية مما تعرض له اقرانهم من سكان الموصل من عمليات قتل وتهجير وهم مكون رئيسي من مكونات المدينة ويبلغ تعدادهم اكثر من 70000 الف مواطن ينتشرون في قضاء الشيخان وسنجار والقوش وهم عرقياص ينتمون ﺇلى القومية الكوردية ولهم ديانتهم التوحيدية الخاصة بهم وكغيرهم كانوا على الدوام هدف الجماعات التكفيرية .
في نهاية العام 2012 شهد العراق موجة اعتصامات في بعض مدنه السنية كانت بدليتها في الرمادي ثم انتقلت ﺇلى سامراء والموصل للمطالبة ببعض المطالب التي بدت مشروعة أول الأمر لكنها مع مرور الأيام ودخول السياسين كعامل موجه لهذه الاعتصامات بغير وجهتها وخدمة لاغراض حزبية ضيقة وكذلك دخول رجال الدين على الخط تحولت ﺇلى نوع من المماطلة والتسويف والمطالبات التي تمس جوهر الدستور لتتحول شيئاً فشيئاً ﺇلى شعارات طائفية وأقصائية وصلت حد رفع شعارات مطالبة بأستقلال المحافظات السنية وتشكيل الأقليم السني، كل هذه التطورات كانت تدفع بالأمور ﺇلى التازيم وأضعاف المنظومات الامنية والعسكرية بعد أستهدافها أكثر من مرة واعتبارها منظومة طائفية تعود لطائفة ومكون واحد هو الشيعي وكانت هناك العديد من المطالبات المستمرة بسحب الجيش من المحافظة وبعد أكثر من عام انتهت صفحة الاعتصامات بطريقة سلمية لكنها لم تستثمر بطريقة ﺇيجابية فلقد بقيت الأطراف المتنازعة متمسكة بوجهات نظرها ولم تكن هناك من تنازلات حقيقية وزادت حدة التوتر في الملف الامني في عموم العراق وكانت الجماعات التكفيرية بعد ظهور داعش قد تحولت ﺇلى قوة فاعلة على الأرض وحققت الكثير من الضربات القوية في عمليات تفجير وهجمات أنتحارية راح ضحيتها الالاف من المواطنين لكن الخطط والقوى الأمنية ظلت تراوح مكانها وكانت البؤر تشتعل هنا وهناك خصوصاً بعد أنلاع المواجهات الساخنة في الفلوجة وثم في سامراء ، كل هذا كان تمهيداً لعمل أكبر ربما كان خافياً عن قيادات الدولة العسكرية والسياسية حتى حدثت الصدمة بأجتياح المجاميع المسلحة الارهابية والتكفيرية محافظة الموصل ومن ثم أسقاطها خلال ساعات لتنطلق بعد ذلك هذه الجماعات نحو المناطق القريبة ذات البيئة المشابهة للموصل من حيث الجغرافية والقومية والمذهب .
السؤال هنا من يتحمل مسؤولية ماحدث ؟
من السهولة كيل الاتهامات وتوجيهها ومن السهولة أيضا تبرير ماحدث لكن لايمكن تبرير أحتلال مدينة بحجم محافظة نينوى فهي ليست مدينة صغيرة أو قرية حدودية يمكن معالجة ماحدث فيها بسهولة فهي ثاني أكبر مدن العراق ولها خصوصيتها الرمزية كونها من المدن التاريخية العريقة لذلك فمسؤولية ماحدث يطال الجميع بما فيهم شعب الموصل الذين أرتضوا ان تدنس أرضهم عصابات وشراذم أجتمعت من أكثر من مكان وهدفها واضح ومعروف وهو تدمير العراق بأكمله وأقامة أمارة أسلامية على أنقاضه فهل يرضى أهل الموصل بتنوعهم القومي والديني والمذهبي قيام مثل هذه الامارة التي ستفرض دينها وشروطها بحد السيف ؟ واذا أرتضت طائفة منهم هذا الشيء فهل تسكت الاطراف الاخرى عنه ؟
ويجب أن يكون للدولة متمثلة بقوتها العسكرية وطبقتها السياسية شاءت أم أبت حلاً عسكرياً سريعاً قبل أن تتفاقم الازمة ويصبح من الاستحالة تطويقها وحلها عسكرياً فلقد أثبتت التجارب أن هذه الجماعات التي تمثلها داعش ليس لها صديق فهي عدوة الكل سنة وشيعة واكراد وتركمان ولغتها الوحيدة هي القوة والسلاح .
أن الخطر القادم سيكون غير كل الاخطار التي واجهها العراق خلال أكثر من عشر سنوات وبمستوى حجم هذا الخطر يجب أن يكون الرد وسريعاً وعلى قيادة القوات المسلحة أن يكون لها دور واضح في عمليات تحرير العراق من القوى البربرية وتغيير خططها الأمنية وقيادتها العسكرية ليكون ردها فاعلاً وحضورها أكثر فاعلية وهيبة .