المنبرالحر

العراق ورجل الدولة / خضر عواد الخزاعي

رجل الدولة هو الحاكم الذي يقود مسيرة أمة مكنت له الأقدار من خلال عدة ظروف معينة أن يكون هو رأس السلطة فيها وتختلف هذه الظروف من أمة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر ونفس الشيء ينطبق على العلاقة بين الدولة والحاكم من حيث الظروف المحددة لهذه العلاقة زمانياً ومكانياً .
والحاكم إصطلاحاً : من نُصّبَ للحُكْم بين الناس والجمع : حُكَّام
تقوم نظرية الحكم في الإسلام تقوم على مبدأ السلطة الدينية التي أساسها الطاعة كما في سورة النساء (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) سورة النساء الآية 59 .
حيث تتحول الطاعة إلى نوع من أنواع العبادة للخالق وبالتالي تتحول طاعة أولي الأمر أمتداد لطاعة الرسول التي هي جزئية من طاعة الله وعبادته فيتحول الحاكم حتى ولو كان جائراً وظلوماً إلى صنو رسول الله وكذلك الله عز وجل بينما يرى ألفيلسوف العربي أبن رشد ( 520 – 595 ) هجرية : بأن الطبقة الحاكمة والمناصب القيادية في الدولة يجب أن تكون من الفلاسفة والعلماء المتخصصين لأنها تملك المعرفة النظرية والخبرة العملية وأن دور الحاكم ينحصر في كيفية دفع الدولة إلى خيرها الأكبر وإبعادها عن الشر الأكبر.
في جانب آخر يرى الفيلسوف الألماني الأشتراكي كارل ماركس ( 1818 – 1883 ) : أن أول أشكال السلطة قديماً يعد أئتلافات ( ثيوقراطية - أرستقراطية ) تنصب نفسها ممثلة لله في الأرض فتفرض على الجماعات في بيئتها وخارج بيئتها الطاعة والسخرة بالقوة والدعاية وأن سور الصين العظيم واهرامات مصر وبرج بابل والمدن الآشورية ماكانت لتكون لولا العنف وأعمال السخرة فيما يرى الفيلسوف التجريبي الإنكليزي جون لوك ( 1632 – 1704 ) : أنّ الوظيفة العليا للدولة إنّما هي حماية الثروة والحريّة ونتيجة لذلك يصبح من واجب الشعب تغيير الحكومة القائمة أو تبديلها بأخرى فيما إذا لم تحفظ حقوقه وحريّته .
يبدو أن ما نشاهده اليوم في واقعنا العربي والعراقي من أشكال الحكم في العصر الحديث ما زال يراوح بين هذه الأنواع المتباينة من أنظمة الحكم باستثناء ما طرحه أبن رشد لأنه يبدو بعيداً عن الواقع العربي والإسلامي أما العلاقة بين الحاكم ( رئيس الدولة ) والمحكوم ( الشعوب ) في حال تطبيقها على واقعنا العربي والعراقي خصوصاً موضوع المقالة فإنها تتحدد من خلال عاملين مهمين هما :
أولاً شخصية الحاكم : وما تتضمه هذه الشخصية من مكونات كاريزمية قيادية وإنسانية تعتبر خلاصة ظروف مجتمعية وتاريخية بالإضافة لمجموعة من الخصائص العامة والخاصة التي أسهمت في بناء تلك الشخصية سواءاً كانت وراثية وبايلوجية تجعله قادراً على أن يقدم رؤية وبرنامج سياسي واضح يكون مؤهلاً ومقبولاً من العامة أو المجتمع الذي يحكمه فالشخصية الإنسانية وكما يصفها عالم النفس النمساوي فرويد مزيج من المتناقضات داخل النفس البشرية الواحدة من غرائز ومكبوتات ومشاعر ذاتية ورغبات أنانية ( ألهو ) يقابلها طبيعة الشخصية الإنسانية السوية التي تعمل على تلبية رغبات المجتمع بأعرافه وتقاليده وتحقيق الإنسجام معه ( ألأنا ) وبين هذا وذاك يكون الضمير الإنساني ( ألأنا الأعلى ) هو الضابط الأخلاقي لسلوك الفرد وهو ماتراكم من قيم مجتمعية مستمدة من الإسرة والمجتمع كل هذه المتناقضات تسهم في صناعة شخصية الحاكم وتجعل منه الشخص الذي سيعرف به خلال فترة حكمه عندما تتغلب سمة من سمات الشخصية على باقي السمات المكونة للشخصية فتجعل منه مثلاً حاكماً مصلحاً عادلاً كما أبرز لنا التاريخ الإنساني شخصية الإمام علي عليه السلام ( 23 ق.ه – 40 هجرية ) الذي جعل من الكوفة في العراق عاصمة له وعرف كواحداً من رجالات الدولة والحكم وقدم للبشرية نموذجاً فريداً في طريقة الحكم الذي أعتمد فيه على روح مشبعة بالثقة والإيمان بالعدل ومبدأ المساواة بين أفراد المجتمع الإسلامي خلال قيادته للأمة في واحدة من أصعب مراحل دولة الخلافة الراشدية وحتى قبل أن يصبح خليفة بما عرف عنه من عدالته وعفة روحه وفروسيته التي جعلت منه في مقدمة رجاله في ساعة الأخطار وتقديمه لأولاده وقت المحن والشدائد غير مبال بالموت وكان تعامله مع أعدائه ومعارضيه نموذجاً متقدماً في الديمقراطية وبأسلوب لم يسبقه فيه أحد من الخلفاء حين أجاب معارضيه في مسجد الكوفة وهم يشكلون عليه في قضية الحكم : لكم عليّ أن لا أمنعكم من دخول المسجد ولا أبدأكم بحرب ولا أقطع عنكم العطاء بهذه الروحية القيادية كان يتعامل الإمام علي مع أعدائه فكيف به مع مواليه الذين كان يؤثرهم على نفسه وهو الخليفة والإمام والحاكم الذي كانت تدين له معظم أقطار الأرض .
في العصر الحديث تبرز لنا شخصية الزعيم عبدالكريم قاسم ( 1914 – 1963 ) كواحد من الرجال الذي بقيت سيرتهم مطبوعة بأذهان العراقيين لما قدمه لهذا الشعب من منجزات في زمن قياسي بلغ 4 سنوات و6 أشهر و15 يوم فقط حيث كانت فترة حكمه القصيرة بمثابة البداية الحقيقية لتأسيس أول جمهورية عراقية مدنية من خلال مجموعة من الإنجازات التاريخية منها القضاء على الإقطاع وإصدار قانون 80 الذي حدد بموجبه الإستكشافات المستقبلية لشركة نفط العراق البريطانية وإصدار قانون الاحوال الشخصية بالرقم 188 لسنة 1959والذي يعتبر واحداً من القوانين المدنية المتقدمة في الشرق الاوسط لما منحه من حقوق للمرأة العراقية وبناء السدود والمبازل وشق الأنهار كمشروع دربندخان ودوكان والثرثار وبناء المستشفيات والمدارس في كل محافظات العراق وتأسيس جامعة بغداد والمستنصرية لقد تميزت شخصية الزعيم قاسم بأنها جمعت بين العصامية والنزاهة والقدرة في القيادة وتحقيق المكاسب الوطنية للعراق بالإضافة لكونه مؤسس النظام الجمهوري بالعراق بعد ثورة 14 تموز 1958 وبعد أكثر من نصف قرن على رحيل الزعيم عبدالكريم قاسم مازالت منجزاته في مجال الزراعة والصناعة والإقتصاد والتعليم والرياضة والبنى التحتية والقضاء على الفقر تحظى باحترام وتقدير العراقيين وكانت قيادته مرحلة إنتقالية أسست لنظام جمهوري ودولة مدنية كانت في فترة ما من الدول المتقدمة في المحيط العربي والشرق الأوسط .
ثانياً طبيعة المجتمع : ومدى ما يملكه من مؤهلات وقيم تاريخية تجعله قادراً على التفاعل مع منظومات الحكم التي تتعاقب على تبوء السلطة أو رفضها والأتيان بسلطة جديدة ملائمة لتوجهاته الفكرية والعقائدية ولقد كان العراق على مختلف صفحات تاريخه حاضنة خصبة للكثير من العقائد والأفكار والفلسفات والنظريات المهمة التي أسهمت في إثراء الدين الإسلامي وأخرجته من حيزه الضيق الذي وضعه به من توالوا على شؤون الحكم من خلفاء وملوك وولاة وسلاطين وأباطرة وانتجت فلسفات ومعتقدات كالأشعرية والحنفية والحنبلية والجعفرية والإسماعيلية والزيدية والنصيرية بالإضافة إلى أرث عميق في تنوع حضاري وديني وثقافي أبتكره انسان أرض الرافدين في بادية نشوء الحضارات على أرضه ولقد كان هذا التنوع الفكري والديني والعقائدي من مورثات أجيال متعاقبة من العراقيين منحت العراق ميزة متفردة بين الأمم والشعوب الأخرى وهي أن شعبه ظل دائماً صعب الإنقياد لمؤسسات الحكم بكل أشكالها التي تعاقبت على حكم العراق وكانت علاقته على الدوام مع الحكام يشوبها الكثير من التوجس وعدم الثقة وفي كتاب ( البيان والتبين ) الجزء الثاني للجاحظ هناك إشارة لهذه الجزئية المهمة حيث يقول : أن العلة في عصيان أهل العراق على الامراء هي أنهم اهل نظر وفطنة ثاقبة ومع النظر والفطنة يكون والتنقيب البحث ومع التنقيب والبحث يكون الطعن القدح والترجيح بين الرجال والتميز بين الرؤساء وأظهار عيوب الامراء ... ومازال العراق موصوفاً بقلة الطاعة وبالشقاق على اولي الرئاسة .
وإذا كانت هذه الميزة قد جعلت من الشخصية العراقية صعبة الإنقياد والتوافق والإنسجام مع الحكام ومؤسسات الدولة فإن هذه السمة أيظاً جعلته من الشخصيات المبدعة والمبتكرة لكل أسباب التمدن وبناء الدولة منذ عصوره الأولى خلال عصر الحضارات الذي بدأ في الألف الرابع قبل الميلاد وأنتهى في القرن السادس قبل الميلاد مع سقوط آخر سلالة بابلية حكمت العراق وما قدمته هذه الشخصية من معارف وعلوم وآداب ومبتكرات في مجالات الكتابة وأساليب الري والزراعة والمعمار الهندسي في بناء المدن والمعابد والأبراج والقصور وما تركته من شواهد على ذلك مثل بوابة عشتار والثور المجنح والجنائن المعلقة وبرج بابل ومسلة حمورابي وملحمة جلجامش لكن هذه الشخصية العراقية المتميزة وبسبب تعرضها وخلال حقب تاريخية متأخرة إلى كم هائل من الغزوات الخارجية وأجبارها وبقوة السيف على أن تغير الكثير من معتقداتها ووسائل عيشها قد تحولت وبمرور الزمن إلى شخصية متلقية ومستلبة تحولت شيئاً إلى أن تكون شخصية سلبية تنظر إلى الحاكم بريبة وفقد الحس الوطني للعراقيين الكثير من توهجه وثوريته وأصبح شخصية مستهلكة بعد ان كانت شخصية مبدعة ومنتجة وهذا ما يلاحظ في فترات الإنحطاط السياسي والديني والسلطوي في الفترة التي تلت الغزو المغولي للعراق 1258 ميلادي وما تلاه خلال فترة الخلافة العثمانية التي بدأت في العام 1534 ميلادي وأستمرت لأربعة قرون عرفت فيما بعد ( بالفترة المظلمة ) بتاريخ العراق بسبب حالات التراجع والإنحطاط التي أصابت كل مرافق الدولة العراقية وكذلك خلال فترة حكم البعث في السنوات الممتدة بين ( 1963- 2003 ) والتي شهدت أعتى سلطة دكتاتورية شوفينية وخصواً خلال عهد الطاغية المقبور صدام.
في الوقت الراهن وبسبب ما يمر به العراق من ظروف معقدة بعد التغيير الذي حصل بسقوط نظام البعث في عام 2003 وما نتج عنه من إنفلات أمني وعدم وجود أي مشروع نهضوي يقود العراق مما هو فيه لدى النخب السياسية الممسكة بزمام الأمور بالعراق يبدو العراقي في غاية الحيرة تتنازعه الولاءات والأنتماءات الطائفية والقومية والحزبية وهو أقرب ما يكون إلى وصف العلامة الإجتماعي والمؤرخ علي الوردي حين وصفه ب ( المتحير ) أو الشخصية الحائرة لكنها تختلف في سبب حيرتها التي تعتبر من وجهة نظر علي الوردي حيرة بين البداوة والتمدن إذ هي اليوم حيرة بين تقاطعات شتى يحملها له مصيره المجهول بين طبقة سياسية فاسدة كانت تنج على الدوام خلال السنوات الماضية حكومات ضعيفة سيئة وفاسدة وبين تهديدات خطيرة تهدد وجوده ومستقبله مدعومة من قوى عالمية وأقليمية هدفها إسقاط التجربة الديمقراطية وكل كيان العراق وتحويله إلى إقطاعيات طائفية وقومية متناحرة ويبدو أن العلاقة التي ربطت الحاكم ورجل الدولة بالعراق بشعبه خلال عصور أزدهاره الأولى والتي كانت مبنية على الولاء المطلق والثقة التامة بأن من يقوده بمصاف الإله الذي يمنحه الحياة وكل أسباب العيش والكرامة قد تحولت اليوم إلى علاقة متوترة مبنية على اليأس والإحباط بان من يقودونه اليوم ثلة من المنتفعين الذين لاهم لهم غير جني المكتسبات والثروات والإمتيازات التي تحققها لهم مؤسسة السلطة مع وجود بارقة تكاد تكون ضئيلة من أمل بأن يٌبعث من أرض العراق أرض الحضارات والأنبياء والأوصياء والفكر والمدنية رجلاً منقذاً بكل مواصفات رجل الدولة الذي يأخذ على عاتقه إعادة الحياة في ربوع هذه الأرض الممزقة التي تتقاذفها الحروب والنيران وسفك الدماء لكن ذلك لن يحدث من غير أن يأخذ الإنسان العراقي دوره الحقيقي والإيجابي في رسم مستقبل بلده والتلاقح الجدي بينه وبين رجل الدولة الذي عليه أن يختاره هو ويؤمن به .