المنبرالحر

ليبرالية العراق بين حكومة الزعيم وحكومات الديمقراطيين/ خضر عواد الخزاعي

إذا كان هنالك من تأريخ يوثق الليبرالية كمنهج رسخ مفهوم حرية الأفراد والجماعات في العراق ومنح المرأة دفعاً معنوياً ومادياً لتأخذ دورها الحقيقي في الساحة العراقية فإنها حتماً ستكون في الفترة الممتدة بين الأعوام ( 1958 – 1963 ) عند قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 بقيادة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم فلقد شهدت هذه السنوات القليلة بروزا واضحا لمعالم الدولة المدنية العلمانية التي أرسى قواعدها الزعيم قاسم من خلال مجموعة تشريعات قانونية كان أهمها قانون الأحوال الشخصية بالرقم 188 لسنة 1959 الذي منح المرأة العراقية حقوقا مدنية تعتبر سابقة لزمانها بعقود بالإضافة لكونها كسرت الحاجز النفسي لسلطة الفقه الإسلامي الديني الذي كان يعتبر بالإضافة إلى ترسيخ مفهوم عروبة العراق ثنائية لا يمكن لحاكم أو مشرع القفز عليها أو تجاوزها بحكم التاريخ الديني والعشائري للعراق وما كان يمليه عليه تبعيته الجغرافية لحقبة جاوزت القرون من السنين لدولة الخلافة العثمانية وماكان قبلها من تراكم لإرث ديني كان يعتبر القاعدة التي تبنى عليها كل التشريعات التي تبنتها الدولة العراقية حتى بعد إنفصالها التام عن دولة الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الاولى ( 1914- 1918 ) ودخول بريطانيا العظمى كراعية للمصالح العراقية من خلال سلطة الإحتلال وما تلاها من إرتباط العراق مع بريطانيا بسلطة الإنتداب في نيسان 1920 الذي أقره مؤتمر ( سان ريمو ) فلقد ظلت القوانين المختصة بالأحوال الشخصية أسيرة التشريعات الدينية كما هو الحال في قانون ( حقوق العائلة ) الذي صدر في أواخر عهد الدولة العثمانية 1917 في عهد محمد رشاد ويتكون من 157 مادة والذي عرف على أنه قانون ( المناكحات والمفارقات ) أي أنه شرع لتقنين عملية الزواج والطلاق حصراً وكذلك القانون المدني العراقي بالرقم 40 لسنة 1951 فإن هذه القوانين ظلت قوانين قاصرة وضيقة في نظرتها للحقوق المدنية لكلا الجنسين الذكر والانثى حتى تشريع القانون 188 لسنة 1959 والذي يعتبر البداية الحقيقية للتشريع المدني بالعراق والذي أخذ بعين الاعتبار التركيز على منح دور أكبر للمرأة في العراق من خلال جملة مواد قانونية منها :
المادة الثامنة الخاصة بتوحيد سن الزواج والمادة الثالثة عشرة الخاصة بتقييد تعدد الزوجات والمادة الرابعة والسبعين الخاصة بمساواة الذكور والاناث بالإرث .
كل هذه القوانين عجلت بولادة دور جديد للمرأة العراقية في كل المجالات التي كانت محظورة عليها والخاصة بالرجال والذي تعزز بعد صدور قانون الجمعيات بالرقم 1 لسنة 1960 والذي أسس لما يقارب من 193 جمعية نسائية ورجالية مدنية كانت مهمتها رعاية الأسرة والأهتمام بالجانب التربوي والثقافي وتوفير فرص العمل للإناث وبنهاية حقبة الزعيم قاسم بعد إنقلاب شباط 1963 دخل العراق من جديد مرحلة عرفت بدمويتها وسوداويتها وضبابيتها بالنسبة للحقوق المدنية ومهدت الطريق لتأسيس أعتى نظام دكتاتوري شوفيني عنصري عرفه العراق الحديث استمر حتى سقوط النظام في 2003 وحرص هذا النظام من خلال إصداره مجموعة من القوانين التي ميزت العراقيين على أساس عنصري وديني وأثني وكان أسوأها القانون 666 لسنة 1980 والذي تم بموجبه ترحيل الالاف من أبناء الكورد الفيلية بعد إسقاط الجنسية العراقية عنهم على أساس إعتبارهم من أصول أجنبية لعدم حصولهم على الجنسية العراقية واتهموا بتبعيتهم لإيران .
وكانت حملات القتل والترويع والتهجير مستمرة ضد كل من يشك بعدم ولائه لحزب البعث ولقيادته الدكتاتورية من كوادر الأحزاب العريقة بالعراق والتي عرفت بتاريخها النضالي الطويل كالحزب الشيوعي وحزب الدعوة والمستقلون وكذلك الأقليات الدينية والعرقية كالشبك والإيزيدين والتركمان والأكراد في شمال العراق وبعد إسقاط نظام البعث في العام 2003 وبدأ مرحلة جديدة بالحياة السياسية بالعراق وهي النظام الإتحادي الديمقراطي أستبشر العراقيون خيراً بالنظام الجديد كونه سيعيد للعراقيين الكثير من الحريات التي فقدوها خلال العقود الماضية لكن المفاجأة كانت بصعود الاحزاب الدينية لسدة الحكم وتقاسمها السلطة فيما بينها بعد سيطرتها على الشارع العراقي من خلال أستخدام المؤثرات الدينية والشعائرية لكسب ود الجماهير وتحولت الدولة شيئاً فشيئاً إلى دولة ( فيدرالية – ديمقراطية ) الشكل تدار بواسطة قوى إسلامية لاتؤمن بغير سلطة الدين والشريعة وتعتبر التجربة العراقية في الحكم من التجارب النادرة كونها دستورياً دولة ديمقراطية مدنية الكل فيها متساوون بالحقوق والواجبات لكنها بالأصل تعتبر دولة دينية إسلامية لن يكون فيها تشريع أي قانون مخالف للشريعة الإسلامية ومنها إصدار المادة 41 التي أجازت إلغاء قانون الأحوال الشخصية المعدل لسنة 1959 وسن قانون جديد مازال محل خلاف كبير بين الفرقاء السياسيين .
إذا كان الزعيم عبدالكريم قاسم قد استطاع وبوقت قياسي لم يصل إلى 5 سنوات من تأسيس أول جمهورية ليبرالية بالعراق الحديث رغم عدم وجود أي مظهر من مظاهر الديمقراطية الحديثة كالإنتخابات التشريعية ومجلس النواب فإن القيادات السياسية والأحزاب التي قادت العراق خلال أكثر من 10 سنوات لم تقدم للعراق سوى المزيد من التناحر والفساد وفقدان للسيادة الوطنية وتعرض العراق لتهديد مباشر لمستقبله ووحدته الوطنية .