المنبرالحر

النسيان ذاكرة التاريخ المتهرئة!؟ / ئاشتي

تنهض صباحا وأنت تنفض عن عينيك نعاس الليل، لعل نهارك يأتي بشمس تحمل بعض خيوط أحلام طفولتك البائسة في مدينتك الجنوبية تلك، حيث أجمل تلك الأحلام هو الطيران مع العصافير المرتجفة الأجنحة وهي تقف على سعف نخلة بيتكم الطيني الجدران، تستعيد بكل فرح تلك الأيام رغم الجفاف الذي يغلفها، جفاف من معدن الفقر والحرمان والبؤس، تتذكر كل تلك الأيام بكل حزنها المغلف برائحة العوز الدائم، وكأنك تستعيد مشهد تجمع النسوة حين يملآن الصفائح من صنبور الماء الوحيد في شارعكم الترابي، تستعرض تفاصيل تلك الحكايات التي تغفو معك ليلا وأنت تستمع قبل أن يغزو النوم عينيك إلى تلك القصص الجميلة عن بنات السلطان، أين السلطان؟ وأين بناته؟ وهل تنظر أحداهن إلى قدميك الحافيتين؟ الأسئلة حينذاك تستفز رأسك الصغير بكل مكوناته، وتدور في عالم من ضباب دون أن تصل إلى مبتغاك، وكأن أمواج البحر المتلاطمة احتوت كل كيانك الصغير، وابتعدت عنك مراكب النجاة وسفن التجار التائهة مثلك في عرض البحر، فلا ينفع لا التلويح بذراعيك طلبا للنجاة ولا الصراخ الذي لا يسمعه غيرك وأنت تغط في نومك السابح في الأحلام، وليس أمامك غير النسيان، ولكن نسيان ماذا؟ هل تستطيع أن تنسى يوم الحشر ?لإلهي يوم احتشدت آلاف البشر في مضيق صغير وهي تبحث عن منفذ للخلاص من الطوق الذي فرضته عليها قوات النظام الدكتاتوري، هل حقا النسيان ذاكرة التاريخ المتهرئة؟ لا أشك في ذلك.
تنهض صباحا وأنت تنفض عن عينيك نعاس الليل، ولكن الذاكرة لا تستطيع أن تنفض عن مكوناتها أحداث الأمس القريب، حين بدأت هجرة القرى نحو المصير المجهول، ليس هناك من موقف دولي وليس هناك من إدانة لكل الجرائم التي تم ارتكابها، من استخدام الأسلحة الكيمياوية إلى تهجير جميع القرى، كان ذلك قبل ستة وعشرين عاما حين كان الرأي العام العالمي واضعا عصابة من مصالح على عينيه، والموقف العربي أصابه الرمد المزمن (رغم انه مصاب به منذ ولادته)، كان ذلك عندما بدأت الأنفال الثالثة التي قام بها النظام البائد عام 1988، وها هي تكرر نفسها بأشد حالاتها، ولكن الفرق الآن هو أن العالم رفع العصابة عن عينيه، وبعض الرأي العام العربي تداوى من الرمد. لهذا فإن النسيان يبدو ذاكرة التاريخ المتهرئة.
تنهض صباحا وتحاول أن تستعيد كل تلك المأساة التي عشتها، وليس لك غير الشاعر الهندي الأحمر (أمبرتو أكابال) وهو يوضح لك ما هو النسيان:
«أحيانا
أسير القهقرى
تلك طريقتي في التذكر،
لو كنت أمشي للأمام فقط،
لاستطعت أن أقول لك،
ما هو النسيان»