المنبرالحر

عالم الملموس / قيس قاسم العجرش

في ثمانينيات القرن الماضي، أنجزت شركة فرنسية مشروعاً لحساب إحدى دوائر الدولة العراقية التي على علاقة بمصالح المواطنين. وكررته في عدد كبير من الدوائر الرسمية.
المشروع حمل اسم " الخزن والتوثيق الآلي"، وهو ببساطة آلة ضخمة مثبتة في غرفة كبيرة يطلّ عليها الموظفون عبر فتحات تشبه أبواب المصاعد في البنايات.
وتكون أمام الموظف المختص لوحة (أيضاً تشبه لوحة أرقام الطوابق في المصاعد)، يُدخل إليها رقم الإضبارة فتدور الآلة الضخمة عبر سلاسل صعوداً ونزولاً فتصعد معها صفوف مرتبة من الأضابير لتقف عند النهاية مقابل الموظف المعني فيمد يده ويأخذ الإضبارة المعنية .. يعني أنها تختزل الوقت، فبدلاً من البحث يدوياً في المجارير والخزائن فإنها تقدم الأوراق بصورة آلية.
في تلك اللحظة كانت التقنية الفرنسية قد دخلت فعلأً عصر التوثيق الالكتروني ولم يعد ضرورياً خزن الورقة نفسها. لكن الشركة صممت الآلة للعراقيين وفقاً لطلبهم آنذاك.. لم تبذل الكثير من الجهد ولم تحاول إقناع المسؤولين العراقيين بأن المستقبل القريب سيشهد موت الأوراق واقتصار العمل على الوثائق الإلكترونية .
لقد طلب العراقيون آلة تخزن الأوراق والأضابير وبإمكانها تقديم المخزون نفسه حين الطلب، وكان لهم ما أرادوا.
الكوميديا طبعاً لم تفارق الموضوع، فقد اكتشفت الدائرة المعنية أن الأوراق القابلة للخزن في الصفوف المتحركة للآلة الضخمة وجب أن تكون من حجم واحد وبنسق واحد ومثقوبة بطريقة محددة. فاضطر العاملون عليها الى استنساخ الوثائق كي تترتب في الآلة الجديدة، والى تخصيص قاعة أخرى فيها دواليب ومجارير تقليدية لحفظ النسخ الاصلية.
اصبحت الآن بين جنبات الدائرة نسختان من كل إضبارة!
ولأن الإستنساخ آنذاك كان بطريقته البدائية، فقد كان المُدراء في تلك الدائرة عادة ما يطلبون النسخة الأصلية من كتب المعاملات التي تصل الى أيديهم، للتأكد من تطابقها مع نسخ الآلة.
ولأن القصة تتعلق برواتب شريحة إجتماعية كبرى، فقد اصبح لدى هذه الدائرة عمل ضخم من الحفظ الوثائقي، والأسوأ إنه يتكرر مرتين لكل ورقة !
التفاصيل هذه سمعتها من أستاذ جامعي في التسعينيات، أراد أن يقنعنا كطلاب، بأن المستقبل هو للعمل الألكتروني، وان هذا المستقبل سيواجه "ممانعة مفاهيمية" أساسها عدم الثقة في الأنظمة الألكترونية، ورغبة المدراء والمسؤولين في أن يقرروا بأنفسهم مصير كل طلب وورقة ومعاملة.. هؤلاء يرفضون أن يمنحوا صلاحياتهم لنظام الكتروني، ويتمسكون بحقهم في التهميش على كل ورقة، فالقلم الأحمر أو الأخضر هو مصدر الأوامر والقوة، وليس النظام.
معذورون ..لأنهم جزء من عالم لا يثق بنفسه و يرغب بتجسيد كل شيء.