المنبرالحر

داعش .. أزمة الفكر الإنساني / سلام حربه

إن أزمة "داعش" في العالم ليست دينية في أساسها ولا صراعاً بين المذاهب الإسلامية او بين الديانات المختلفة بل أزمة فكر متخلف تعصف بكل المجتمعات ليس في عالمنا المتراجع وحسب، بل في العالم المتمدن ، داعش ظاهرة فكرية موجودة في الاسلام كما في المسيحية او اليهودية وحتى في الديانات الوضعية وهي من مديات التطرف الجديد..ورب سائل يسأل ، لماذا هذا الجنوح الى التعصب والانغماس بلغة العنف ،ولِم لمْ يظهر هذا التشدد الحاد الذي يلبس رداء الدين في مطلع القرن العشرين ولا في منتصفه او في ستينياته وسبعينياته ..؟ ان الاجابة عن هذا السؤال تقول " ان ظهور التشدد في زمننا هذا لا ينفي ان هناك موجات تطرف لدى بعض الحركات الدينية او السياسية والتي ظهرت في بعض مناطق العالم عبر كل العصور ولكنها سرعان ما انطفأت لانها لم تجد الواقع الذي يمكن ان تعتاش عليه ويديم تهتكها واستهتارها فكان مصيرها في النهاية الاندثار والموت" ..لقد كان القرن العشرين بحق قرنا للصراع الفكري بين الايديولوجيات الماركسية والقومية والمفاهيم الفكرية الحداثوية المتمردة على الاصول الفلسفية والارث المعرفي الانساني وبعد ذلك مع التيارات الدينية والتي بدأت ظهورها بشكل خجول بعد خمسينيات القرن الماضي وكانت جزءا من الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.
لقد كان الفكر المادي التنويري منهج تبصر ودليلا لسلوك اجتماعي منضبط في هذه المنطقة من العالم ، وكان الفرد المتعلم يتصف بالعقلانية والتوازن لان لديه قدرة الاجابة على الاسئلة الكونية والمتغيرات السريعة التي يفرزها الواقع والحياة باستمرار.. لقد امتازت المنظومة المادية بمنطقها الواقعي وجدلها المميز في تعاملها مع المتغير الحركي والتسليم بالشك واقرار النسبية وهما يشكلان العمود الفقري لديالكتيكها، وهذا ما ادى الى تحرر عقل الانسان ومخيلته من كل ما يمت الى الوهم والخرافة واللا معقولية بصلة ،فكانت هناك قفزات في العلوم والفنون والآداب وترسخت في المجتمعات الهويات الوطنية والعلمية والثقافية ، وحتى الدين كان يشكل ظاهرة روحية ونفسية ومتمماً خلقياً عظيماً يرتقي بالإنسان، وكان بالإمكان ان يلعب دورا مهما في البناء الاجتماعي وعنصرا ايجابياً لتماسك الأفراد والأوطان.. لقد مرت المجتمعات الإسلامية في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي بافضل مراحل التطور وكان التحضر في كافة الميادين وفي اعلى المستويات، حتى ان العراقيين ما زالوا يتذكرون تلك المرحلة التاريخية بحسرة لانها كانت تشكل قفزة نوعية في حياتهم والكثير من العلماء والأدباء والفنانين والمثقفين، الذين يرتقون المراتب العليا في الخلق والإبداع والرصانة الفكرية والشخصية، إن الموجودين في واجهة الحياة اليوم هم من نتاج وصياغة تلك السنين الحافلة بالصراع الفكري الايديولوجي وسيادة العقل كمطلق وحيد والنظرة العلمانية في التعامل مع الظواهر والخطوب.. كان الفكر الديني محصورا في المدارس والجوامع الدينية ويتحين الفرص للظهور وسحب البساط من تحت اقدام القوى الديمقراطية وهذا ما حصل من خلال اطلاق الفتاوى الجائرة من قبل بعض رجال الدين ضد المفهوم المادي واتهامه بالكفر والإلحاد من اجل تأليب الرأي العام وتقويض بناء الوطن كي يكون نهبا للقوى الظلامية وفلول الاستعمار عبر العبث به وإعادته الى حظيرة الانحطاط والتخلف.. لقد كان انهيار الاتحاد السوفيتي وقبله تخلي العديد من البلدان الاشتراكية عن نهجها الاقتصادي وتراجع الفكر الماركسي عن صدارته كنمط تفكير في الكثير من بلدان العالم ساعة الصفر كي يبرز الفكر الديني السلفي من قمقمه وكهوفه وحاول بشتى السبل سواء بالترهيب او الترغيب ان يكون بديلا عن النهج المادي واشتراطاته المنطقية..مشكلة الفكر الديني انه فكر مثالي لم يتعامل بشكل مباشر مع الواقع كمصدر للفكر بل يؤمن ان الفكرة هي من تصوغ الواقع .. كما ان هذا الفكر لا يمتلك شواهد وتجارب حياتية عن امكانياته لبناء المجتمعات في العصر الحديث وجلّ مرجعيته هي أفكار القرون الوسطى أو ما يسمى العصر الوسيط في زمن العباسيين والذي كان يمثل ازدهارا ونموا للفكر الاسلامي وتلاقح هذا الفكر مع العلوم الانسانية من خلال الترجمات وانفتاح السلطات في تلك المرحلة على كل التراث المعرفي العالمي ..لقد استل الاسلام السياسي مرجعيته من تلك الفترة التاريخية واعتمد على مناهج وفقه المذاهب الاسلامية التي ظهرت في تلك الحقبة ، لكن ما غاب عنه ان ما يصلح لتلك الفترة لا يصلح لهذا الزمن الجديد ،عصر الثورة العلمية التكنولوجية والتطور المتباين للشعوب..ان نمط التفكير اليقيني والثابت المعرفي المقدس هو من ابقى هذه الاحزاب والتنظيمات السياسية التي لم تجترح من الواقع قوانين عمل لها ، بل بقيت معتمدة على هذا التحجر وما قاله س وص من الشيوخ والفقهاء في دراسة الواقع ومحاولة التعامل معه..من يراقب بلدان العالم الاسلامي سيجد ان نبرة التطرف في ازدياد وهي ردة فعل عما يحصل في العالم من تغير ملموس في واقع المجتمعات نتيجة السباق العلمي والمعرفي الحثيث واستنباط القوانين الاقتصادية التي تنسجم مع قوى الانتاج الهائلة وترسيخ ملامح نظام سياسي متطور برؤى انسانية ومفاهيم اجتماعية ،في المقابل تظهر هنا وهناك بدع تأويلية وفتاوى تقف حائلا امام اي تطور في مجتمعاتها..ان داعش اليوم تعتبر الاكثر تطرفا عما سبقتها من تيارات ومنظمات اسلامية ظهرت في نهايات القرن الماضي كحركات المجاهدين وتنظيم القاعدة في افغانستان والعالم الاسلامي لان واقعها يتقاطع مع العلم ويهادن الجهل والامية. هناك ازمة فكر حقيقية تعانيها المجتمعات ليس في عالمنا الاسلامي بل حتى في العالم الرأسمالي. ان غياب هذا المنطق المادي والتضييق عليه سيؤدي الى تراجع حاد في حياة المجتمعات الاسلامية ،وستخرج من ازمة لتدخل في ازمة اكبر ومن داعش الى ما هو اكثر عفونة من داعش والخاسر في هذه الحالة هي البلدان والانسان فيها ،هذا الكائن الضحية لهذا اليقين المجنون والانغلاق الاعمى..