المنبرالحر

احتجاز نشطاء حركة الاحتجاج يشكل خرقا لقواعد الدستور واللوائح الدولية / د. فلاح إسماعيل حاجم

في خضم الحراك الجماهيري المتزايد لاصلاح العملية السياسية تتواتر انباء مقلقة عن خروقات فاضحة ترتكبها الجهات الأمنية التي ينبغي أن تكون هي من يشكل السياج لحماية المتظاهرين، الأمر الذي يعتبر انتهاكا للدستور العراقي الساري، وخصوصا لفصوله الأكثر اهمية وقدسية، الا وهو الفصل الثاني الخاص بالحقوق والحريات الاساسية. حيث نصت المادة 19 ( حادي عشر- أ )على حظر الحجز، فيما ذهبت الفقرة (حادي عشر - ب ) من نفس المادة الى تحريم "الحبس او التوقيف في غير الاماكن المخصصة لذلك وفق قوانين السجون المشمولة بالرعاية الصحية والاجتماعية والخاضعة لسلطات الدولة ".
وسواء مورست تلك الانتهاكات بحق ابرياء ام تم اعتمادها اسلوبا لانتزاع اعترافات من متهمين بارتكاب جرائم وممارسة اعمال ارهابية، وسواء اقتصرت تلك الممارسات على سلب الحرية (الحجز) او استخدمت فيها ادوات التعذيب الجسدي، فانها تشكل خرقا لواحد من المبادي المثبتة في جميع الدساتير على الاطلاق وفي الكثير من اللوائح والمواثيق الدولية المعنية بالدفاع عن الحقوق والحريات الاساسية للمواطنين. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان تناول هذه القضية ينبغي ان يكون على قدر كبير من الدقة وان ينطلق من معطيات موّثقة، ذلك ان اطلاق الاحكام التي لا تستند الى ادلة ثبوتية سيصب في خدمة القوى التي ما انفكت تحاول تجنيد مثل هذه القضايا لاغراض ذاتية ضيقة. بالاضافة الى ذلك فان استخدام هذه القضية كاحدى ادوات اللعبة السياسية الجارية في العراق الآن سيجعل الطعن في مصداقية اساليب محاربة تلك الانتهاكات امرا واردا. وفي جميع الاحوال فأن صحة تلك المعلومات يجعل من الخشية على مستقبل حقوق الانسان في بلادنا امرا مشروعا، ذلك ان الجهة المتهمة بارتكاب تلك الانتهاكات لا تشكل الذراع التنفيذي للاكثرية البرلمانية فحسب، بل وتعتبر الاقرب الى الاغلبية الحاسمة في اللجنة التي صاغت المبادي الاساسية في دستور بلدنا الدائم ايضا. من هنا تأتي ضرورة البحث في موضوعة الضمانات القانونية (الدستورية) والتي تؤلف الى جانب الضمانات الاجتماعية – السياسية (بما في ذلك اسلوب الرقابة الشعبية)، والقضائية والبرلمانية، حزمة الضمانات الاكثر فعالية في الدفاع عن حقوق الانسان وحرياته الاساسية.
ان جزءا مهما من الضمانات القانونية تؤلفه الاجراءات الخاصة. اي مجموعة الوسائل التي ينبغي استخدامها لتفعيل حريات الافراد وحقوقهم المادية. على انه لابد من الاشارة بهذا الخصوص الى ان ثمة انطباعا سلبيا يتركه مصطلح الاجراءات الخاصة لدى مواطني الدول الشمولية والبوليسية، ذلك لأن كلمة الاجراءات (الجنائية منها او المدنية) عادة ما ترتبط في مخيلة المواطن في تلك الدوّل باساليب الاكراه والتعذيب وانتهاك الكرامة، في الوقت الذي تستخدم فيه تلك الاجراءات في دولة الحق والمؤسسات كأدوات مشروعة في النضال ضد انتهاك حقوق الافراد وحرياتهم الشخصية، بغض النظر عن مصدر تلك الانتهاكات. فضمان حرمة الاشخاص، على سبيل المثال، تتم من خلال منظومة اجراءات وجدت تطبيقاتها العملية في الكثير من البلدان الاوربية. وربما كانت المملكة المتحدة السباقة في اعطاء اجراءات التوقيف والحبس اطارا قانونيا محددا. فنظام الاجراءات الذي دخل التأريخ بقانون صدر عام 1679، حيث يعنون ذلك الامر الى الجهة التنفيذية المسئولة عن احضار الموقوف او المحتجز احترازيا الى المحكمة والابلاغ عن وقت واسباب التوقيف. وقد منح النظام المذكور الموقوفين والاشخاص الذين لم يتم اخلاء سبيلهم بكفالة امكانية اللجوء الى القضاء للبدء بالاجراءات اللازمة، فيما يلزم القانون اجهزة القضاء الطلب الى المؤسسات التي تحتجز الموقوفين احضارهم للمحكمة خلال 24 ساعة للتأكد من سلامة الاجراءات ومشروعية التوقيف او الاحتجاز. وقد اكد التشريع المذكور على منع توقيف من اخلي سبيلهم مرة ثانية ولذات الاسباب. وقد منحت الكثير من التشريعات الحق للموقوفين والمحتجزين بشكل تعسفي باقامة الدعوى ضد المسؤولين عن الحبس والتوقيف الغير قانوني والمطالبة بالتعويض عن الضرر المادي والمعني الذي لحق بهم. على انه لابد من الاشارة هنا الى ان اعتماد نظام الاجراءات المذكور والهادف لحماية الحقوق الفردية لا يعني اغفال الامن العام. فالتشريع البريطاني نظر في امكانية ايقاف العمل بقواعد الامر القضائي مارة الذكر، بشكل كلي او جزئي، في ظروف الاضطرابات وخصوصا السياسية منها ولمدة عام كامل، الا ان ذلك لا يعني اعفاء اجهزة الدولة من المسئولية عند قيام الاخيرة باعتقالات تعسفية.
ان اهمية وفعالية اسلوب النظام البريطاني في الاجراءات جعل منه نموذجا ما يزال معتمدا في انظمة الاجراءات القضائية. حيث وجد تجلياته في الكثير من الدساتير والتشريعات الخاصة بالدفاع عن الحقوق والحريات الاساسية. فقد نص الفصل التاسع من المادة الاولى للدستور الامريكي على حق الموقوفين والمحتجزين الطلب الى الاجهزة القضائية التحقيق في صحة الاجراءات ومشروعية التوقيف او الاحتجاز. لكن خصوصية النظام الامريكي للاجراءات تكمن في امكانية المتهم الطعن بمشروعية تلك الاجراءات في جميع مراحلها، حتى بعد صدور قرار التجريم من قبل المحكمة المعنية. الا ان هذه الميزة لا تعدو كونها قاعدة نظرية، ذلك ان تجربة الولايات المتحدة في الاجراءات تشير الى ندرة القضايا التي تم البت بها لصالح المتضرر الامريكي. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فكما في السياسة، تبدو واضحة معالم الكيل بمكيالين في نظام الاجراءات الامريكي، وهذا ما يمكن تلمسه في الانتهاكات التي لم تعد خافية في ممارسات الاجهزة المختصة الامريكية، وخصوصا تجاه مواطني الدول الاخرى، المحتلة منها على وجه الخصوص.
ولم يقتصر انتشار نظام هابيّس كوربوس على الدوّل الانجلوامريكية وانما شهد القرن التاسع عشر انتشارا واسعا لقواعده في دول القارة الاوربية. ففي النمسا،على سبيل المثال، صدر قانون الدفاع عن الحرية الشخصية متضمنا المبادئ الاساسية لانظمة الاجراءات المدنية والجنائية، فيما نصت المادة السادسة من تعديل القانون المذكور في العام 1987 على "حق الموقوف الطلب بعرضه على قاضي التحقيق او اية جهة مستقلة اخرى لتحديد مشروعية توقيفه واتخاذ قرار فوري باخلاء سبيله في حالة عدم توفر الاسباب الموجبة لذلك التوقيف". ولم يخل القانون الاساسي للدول الاوربية الاخرى مثل المانيا وايطاليا واسبانيا….الخ من قواعد نظام الاجراءات المذكور.
لقد احدث صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العام 1948 قفزة نوعية في مجال الدفاع عن حقوق الفرد وحرياته الاساسية، وخصوصا فيما يتعلق منها بحفظ ادمية الانسان وكرامته. فقد حرمت المادة التاسعة من الاعلان المذكور "القبض على اي انسان او حجزه او نفيه تعسفا". فيما نصت مادته الخامسة على عدم تعريض "اي انسان للتعذيب ولا للعقوبات او المعاملات القاسية أو الوحشية او الحط من كرامته". وقد اصبحت المواد المذكورة مصدرا اساسيا للاتفاقيات الدولية والاقليمية الخاصة بالدفاع عن حقوق الانسان. فيما افردت دساتير الجيل الثاني (دساتير مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية) فصولا خاصة بالدفاع عن حقوق الفرد و حرياته الاساسية، واعتبرت ديباجة تلك الدساتير الانسان قيمة عليا. وكان من ضمن المبادئ الاساسية لاغلبية الدساتير تلك التي تحرم سلب حرية الفرد بشكل كيفي ومنها، على سبيل المثال: "لمتهم برئ حتى تثبت ادانته ولا عقوبة الأ بقانون…الخ". على انه لابد من الاشارة هنا الى ان تضمين القانون الاساسي للدولة هذه المبادئ لا يعني التزام تلك الدوّل بمضامينها، فتجربة الدول الشمولية تبيّن ان لأجهزة القمع في تلك الدوّل قوانينها وانظمتها الخاصة، وقد تجلى ذلك بابشع صوره ابان فترة الحكم الصدامي المقبور، حيث الاقبية السرية كانت واحدة من العلامات المميزة لذلك النظام. اما قواعد الدستور في تلك البلدان فلا تعدو ان تكون اعلانا دعائيا لنزيين صورة النظام امام المنظمات الانسانية الدولية. بالاضافة الى ذلك فأن انظمة القمع لا تتورع عن اللجوء الى تعاليم الدين الحنيف وموروثه المتنوع للامعان في التجاوز على حقوق الافراد وحرياتهم. فلم يكن تشكيل شرطة (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر)، التي لا تستند الى اي اساس قانوني، سوى تجل واضح لهذه الحقيقة. من هنا تكون الدعوّة لاعتماد العلمانية كواحد من المبادئ الاساسية للدولة مبررة وملحة، ذلك ان فصل الدين عن الدولة واعتبار تعاليمه السمحاء مصدرا تربويا تنويريا، سيكون له بالغ الاهمية في الحفاظ على قدسية التعاليم الدينية من جهة، وحماية المواطن-الفرد من استخدام الدين لأنتهاك حقوقه وحرياتهم الاساسية من جهة اخرى.
انني ارى ان محاربة الارهاب والجريمة المنظمة لا يمكن ان يكون مبررا لانتهاك حقوق المواطنين والتجاوز على كرامتهم، ذلك ان حفظ تلك الكرامة والدفاع عن تلك الحقوق ستكون بحد ذاتها سلاحا فعالا بوجه الجريمة والارهاب.