المنبرالحر

لكي لا ننساه.. ذلك اليوم الاسود / د. خليل الجنابي

رغم مرور ٥٣ عام على يوم الإنقلاب المشؤوم في ٨ / شباط / ١٩٦٣ إلا أنني ما زلت أتذكره بتفاصيله، كنت وقتها في زيارة لبيت أقرباء لي في منطقة (الكسرة - بغداد) حيث كنت آنذاك نائب ضابط مركب أسنان وتابع لمستشفى بعقوبة العسكري في معسكر سعد. قضيت ليلة الخميس يوم 7 / شباط / 1963 مع بعض الأصدقاء كان من بينهم طبيب الأسنان الدكتور (هادي الجمالي) الذي كانت عيادته في الكاظمية وعدنا إلى بيوتنا في ساعة متأخرة من ليلة الخميس على الجمعة حيث لم نلحظ أية حركات مشبوهة وغريبة تدلل على وجود مؤامرة، وفي صباح يوم الجمعة 8 / شباط خرجت مبكراً للذهاب إلى شارع المتنبي لشراء بعض الكتب، كان ذلك في حوالي الساعة التاسعة، وحين وصولي إلى منطقة سيارات الإجرة شاهدت بعض السيارات تمر مسرعة وحركة غير طبيعية توحي بأن هناك شيئا ما يعكر صفو الوضع. توقف رجل مُسن بسيارته وقال لي (عمي وين رايح صار انقلاب)، رجوته أن ينقلني معه إلى منطقة باب المعظم وأنا غير مصدق بما يقوله، لكنه كان فاتح الراديو في سيارته وعندها تأكدت من صحة ما يقول، وصلنا إلى منطقة قريبة من كلية البنات حيث لم يعد ممكناً الوصول أقرب من ذلك لشدة الازدحام، تجمعت الحشود وأخذت تزداد وتطلق هتافات معادية للانقلابيين، عشرات الآلاف من العمال والفلاحين والطلبة والشباب والنساء والمثقفين حتى العسكريين وهم يهتفون لثورة تموز وقائدها البطل عبد الكريم قاسم.
في تمام الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة المصادف 8 / شباط / 1963 انطلقت جحافل الموت من مخابئها وأوكارها لتغتال حلم الجماهير الذي جاء مع صباحات 14 / تموز / 1958 ولتمثل بقادته وضباطه النجباء الذين وضعوا دماءهم على أكفهم منذ انبثاقها، ولتنكل بالقوى الوطنية وطلائعها المقدامة التي تصدت بكل شجاعة وعزيمة للانقلابيين.
لقد اختار قادة الانقلاب يوم الجمعة 14 رمضان وذلك لأنه يوم عطلة رسمية وعدم وجود عشرات الآلاف من العسكريين والمدنيين في مواقعهم الأساسية وهذا ما سهل لهم تحريك بعض القطعات التي كانت تحت سيطرتهم ومباغتة الجماهير وخداعها عندما رفعت صور الزعيم عبد الكريم قاسم على دباباتهم.
لقد كانت ساعة الصفر وكما أثبتتها الأحداث موضوعة من قِبل من ساعدهم في قطارهم الذي جاءوا به (جئنا بقطار أمريكي – علي صالح السعدي)، هو اغتيال القائد الشجاع الزعيم الطيار (جلال الأوقاتي) قائد القوة الجوية عندما ذهَبت إلى داره مجموعة اغتيال خاصة صبيحة يوم الانقلاب المشؤوم تتكون من رئيس الزمرة (غسان عبد القادر وبمعية ماهر الجعفري، أكرم أسود وحميد رجب الحمداني) وبعد مراقبة طويلة لبيته في منطقة الكرادة استطاعت أن تحدد حركاته ومواعيد خروجه ورجوعه إلى داره، وفي اليوم المشؤوم تم قتله عند خروجه من البيت مع طفله الصغير للتسوق، كان هذا قبل الساعة التاسعة صباحاً وعند ذلك تأمن لهم الطريق وأنجزوا أخطر وأهم مهمة حيث كان الشهيد الأوقاتي يشكل حجر عثرة كبيرة أمامهم لما عُرف عنه من حكمة عسكرية ودراية وتمكنه من قيادة كافة أنواع الطائرات الحربية، ولِما يتمتع به من شعبية بين أفراد القوة الجوية من الطيارين وضباط الصف والجنود، ولإخلاصه للزعيم عبد الكريم قاسم ولمبادئ ثورة تموز الخالدة، وكانت التقديرات من أوساط عديدة بما فيها الصديقة والعدوة تشير لو أن الأوقاتي بقيّ حياً لاستطاع أن يقلب موازين القوى لصالح جمهورية تموز. لقد تم رصد بيوت ضباط آخرين من قِبل زمر اغتيال أخرى كان من بينهم الشهداء (فاضل عباس المهداوي، ماجد محمد أمين، طه الشيخ، عبد الكريم الجدة، وصفي طاهر، سعيد مطر) وآخرون.
بعد أن أتموا هذه المهمة أوعزوا إلى عناصرهم الأخرى بالتحرك وتمت السيطرة على المرسلات في أبي غريب ليذيعوا بيانهم الأول وعندما سيطروا على دار الإذاعة في الصالحية راحوا يبثون سمومهم ونشيدهم المعروف (الله أكبر) وهو نفس نشيد الدواعش من أحفادهم الجدد الذين يتغنون به فوق رؤوس الضحايا الأبرياء قتلاً وحرقاً والتهاما للأكباد. أناشيد كثيرة منها نشيد (جيش العروبة يا بطل) لأم كلثوم، (ولاحت رؤوس الحرب تلمع بين الروابي) وغيرها من الأناشيد التي كانت تبثها لهم الإذاعة المصرية حيث وقفت حكومة (عبد الناصر) بكل ثقلها إلى جانب الانقلابيين تمدهم بالسلاح والمعونات الأخرى.
انطلقت بعدها الطائرات من الحبانية من السربين السادس والسابع من قاعدة تموز، ومن القاعدة الجوية في كركوك طائرات الميغ 17 والهوكر هنتر التي قادها كل من الطيارين (المقدم الطيار منذر الونداوي والرائد الطيار محمد جاسم الجبوري والعقيد الطيار حردان عبد الغفار التكريتي وبإشراف العميد عارف عبد الرزاق). هاجموا وزارة الدفاع مُلقين الحمم فوقها وفوق رؤوس الجماهير المحتشدة في الساحة المقابلة للوزارة، وسقط الكثير من الشهداء وازداد سقوطهم مع كل طلعة جوية من قبل طائرات الانقلابيين.
كانت الجماهير المحتشدة تطالب بالسلاح وهي تهتف (ما كو مؤآمرة تصير عين الشعب مفتوحة) و (باسم العامل والفلاح يا زعيم انطينه سلاح) وهتافات أخرى لم تلق صدى لها.
في حوالي الساعة العاشرة والنصف صباحاً وصل موكب الزعيم عبد الكريم قاسم إلى وزارة الدفاع بسيارته الوحيدة مع أحد مرافقيه فقط، وكانت الجماهير تحاول رفع السيارة احتفاء به وهو يلوح لهم بالتحية ويطلب منهم أن يركنوا إلى الهدوء وأنه سيسحق المؤامرة.
لقد انتشرت في بعض الأماكن والشوارع في بغداد مجاميع من العصابات المسلحة وهي موشحة بإشارات خضراء تحمل الحروف (ح ق) وتعني (الحرس القومي) حاملة في أيديها غدارات (بور سعيد) وتشكلت هذه الفرق على غرار الفرق النازية التي تشكلت في ألمانيا أثناء صعود هتلر للسلطة (الأس إس والجستابو). لقد كانت من مهماتها اعتقال وخطف وقتل المناوئين لحركتهم الانقلابية، فداهمت البيوت واستباحت الحرمات وافتتحت المعتقلات والسجون في طول البلاد وعرضها، وكانت مزودة بقوائم خاصة للمناضلين وفي مقدمتهم الشيوعيين والقاسميين والوطنيين الآخرين من الأحزاب الأخرى كانت قد زودتهم بها المخابرات المركزية الأمريكية.
وهنا دخلت على الخط قوات من الدبابات إلى جانب المتآمرين حيث رفعت في بداية الأمر صور الزعيم عبد الكريم قاسم لخداع الجماهير ليفسحوا لها المجال عند مرورها في شوارع بغداد وصولاً إلى وزارة الدفاع، وعند وصولها إلى مبتغاها وجهت فوهاتها إلى صدور الجماهير العارية وأخذت تطلق نيرانها بكل حقد يميناً ويساراً، وسقط العشرات مضرجين بدمائهم الزكية، بعضهم بقي في الشارع والبعض الآخر تم نقله إلى بعض البيوت والمحلات القريبة بغية إسعافهم.
لقد أصدر قادة الانقلاب (المجلس الوطني لقيادة الثورة) بياناته المتعددة حتى وصلوا إلى بيانهم المشؤوم (13) الذي جاء فيه (نظراً لقيام الشيوعيين وشركاء عبد الكريم قاسم بمحاولات بائسة لإحداث البلبلة بين صفوف الشعب وعدم الانصياع للأوامر والتعليمات الرسمية فقد تقرر تخويل القطعات العسكرية وقوات الشرطة والحرس القومي بإبادة كل من يتصدى للإخلال بالأمن، والإرشاد عن الشيوعيين والمطالبة بإبادتهم والقضاء عليهم).
يوم دام لم يشهد العراق له مثيلا من قَبْل، تشكلت فرق لم تكن منظمة بالشكل المطلوب لقيادة عملية المقاومة، ليس لديها من سلاح يؤهلها للمواجهة، فاستعمال العصي والحجارة وبعض المسدسات الشخصية والبنادق التي حصلوا عليها من السيطرة على بعض مراكز الشرطة لم تجد نفعاً مع الطائرات والدبابات والرشاشات التي كانت تملكها قوى الردة. لقد كانت معركة شرسة بين الجماهير العزلاء التي وقفت ببسالة بصدورها العارية وليس لديها غير حب الوطن والدفاع عنه وبين جحافل همجية عسكرية ومدنية مدججة بمختلف أنواع الأسلحة. لقد تم توزيع بيانين من الحزب الشيوعي العراقي في الساعات الأولى من الانقلاب وكانت تدعو الجماهير إلى رفع السلاح بوجه الانقلابيين وإلى تشكيل لجان للدفاع عن الثورة في كل معسكر وكل محلة ومؤسسة (إلى السلاح للدفاع عن استقلالنا الوطني ومكاسب 14 تموز) ودعت إلى (سحق كل محاولة في أي ثكنة، وأن الشعب بقيادة القوى الديمقراطية سيلحق العار بهذه المؤامرة السافلة... فإلى الأمام، إلى الشوارع). لقد قاومت الكثير من المناطق في بغداد ومدن أُخرى وبقيت صامدة اليوم الأول والثاني وحتى الثالث وكانت عصيّة على دخول الانقلابيين إليها، فانتفضت مناطق منها (الكاظمية، الثورة، الشاكرية، الفضل، باب الشيخ وعكد الأكراد) وغيرها والتي أبدت بسالة منقطعة النظير في التصدي للفاشست الجدد.
وعلى أصوات الانفجارات والقصف سجل الزعيم عبد الكريم قاسم خطاباً موجهاً إلى الشعب والقوات المسلحة على شريط وأرسله إلى دار الإذاعة مع الرائد (سعيد الدوري)، حيث سلم الشريط إلى قادة الانقلاب الذين كانوا قد احتلوا دار الإذاعة، ولذلك لم يتسنَ إذاعة الخطاب، والذي دعا فيه إلى مقاومة الانقلاب والدفاع عن ثورة 14 تموز ومكاسبها الوطنية.:
لقد تم الانكسار الكبير والتراجع عند الإعلان عن مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار يوم 9 / شباط بعد الظهر وذلك عندما بث التلفزيون العراقي صوراً لإعدامهم. وكما أُعلن كان قد تشكلت محكمة عسكرية سريعة برئاسة العقيد (عبد الغني الراوي) وتم إصدار الحكم القره قوشي ضدهم بالإعدام رمياً بالرصاص ونفذه كل من المجرمين (عبد الغني الراوي ومنعم حميد والرائد عبد الحق والملازم فارس نعمة المحياوي الذي أطلق الرصاص شخصياً على الزعيم عبد الكريم قاسم) في قسم الموسيقى في استوديوهات التلفزيون الذي اختاروه مكاناً لإعدامهم.
بعد هذه المجزرة تفرق الآلاف، وراحت جحافل الانقلابيين بطشاً وتقتيلاً في كافة القوى الوطنية الخيرة وفي مقدمتهم قادة وكوادر وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي العراقي، القائمة طويلة وأسماء لامعة في كل المجالات المهنية من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعة ومدرسين ومعلمين وطلاب وكتاب وأدباء وشعراء ومثقفين وتجار، نساء ورجالاً، عمالاً وفلاحين ولم يسلم منهم حتى الأطفال.
لقد افتتحوا مراكز اعتقال في طول البلاد وعرضها، في النوادي والمدارس والسينمات ومراكز الشرطة قاطبة وزجوا عشرات ومئات الآلاف فيها وعاملوهم بكل قسوة وشراسة وهمجية واستعملوا الطرق النازية في تعذيبهم وتقطيع أوصالهم، ولم يراعوا أية حرمة أو قدسية لشهر رمضان الذي طالما صدعوا رؤوسنا وهم يحملون رايات الدين كذباً وبهتاناً.
وفي يوم 10 / شباط تمكنت من الوصول إلى مستشفى بعقوبة العسكري - معسكر سعد في بعقوبة، وجدت الجو مكهرباً والوجوم باد على أهالي المدينة حيث تم قتل الرئيس الأول (عبد الكريم حسن العلي) واعتقال مجموعة من الضباط وضباط الصف والجنود الذين تصدوا للانقلاب وفي مقدمتهم (الملازم صلاح محمد جميل والملازم عبد المجيد محمد جان مع 23 من ضباط الصف والجنود وإرسالهم مخفورين إلى بغداد ليوضعوا في سجن رقم (1) وإصدار الحكم عليهم بالإعدام رمياً بالرصاص في 11 آذار 1963.
عند التحاقي بالمستشفى لم أجد آمر المستشفى الرئيس الطبيب (شاكر محمود الجنابي)، الطبيب الإنساني المعروف، وعلمت فيما بعد أنه استطاع الخروج من العراق بمساعدة بعض الأصدقاء حيث كان مطلوباً من قِبل عصابات البعث، ولو قُدر لهم معرفة مكانه لفتكوا به كباقي الوطنيين الآخرين.
تم اعتقالي في يوم 12 / 8 / 1963 على أثر ورود برقية موقعة باسم (العقيد عبد الغني الراوي)، وتبين لي فيما بعد أن الذي كان خلف هذه البرقية هو النائب الضابط مركب أسنان (كمال الراوي) وهو أحد طلاب دورتي ويعمل في مستشفى الحبانية العسكري، ولكونه من أقرباء العقيد عبد الغني الراوي – أحد قادة الانقلاب - أخذ يرسل برقيات موقعة باسمه لاعتقال العديد من العسكريين والمدنيين الذين يعرفهم ويعرف ميولهم السياسية.
كان نصيبي في معتقل معسكر سعد الذي افتتحوه حديثاً وزجوا فيه المئات من ضباط الصف والجنود، وبقينا زهاء خمسة أشهر لاقينا فيها شتى أنواع التعذيب، ضيق في المكان، رداءة في الطعام والخدمات الصحية، وكانوا يتسلون يومياً بمجاميع من عندنا في غرف خاصة موجودة فيها كل أنواع أدوات التعذيب، أيام كالحة سوداء لم نشعر فيها بالأمان. أُصيب الكثير منا بالعديد من الأمراض والتي لازمتنا سنوات طويلة.
بعدها شُكلت محكمة عسكرية دائمية في معسكر سعد وأصدرت أحكاماً جائرة على المئات منا، كان نصيبي منها (سنة وستة أشهر) مع زيادة (ستة أشهر) أخرى جاءتنا من الحاكم العسكري العام (رشيد مصلح) إلى كل العسكريين على أثر قيام انتفاضة 3 / تموز / 1963التي قادها الشهيد البطل (حسن سريع) في معسكر الرشيد.
تم بعدها توزيعنا على السجون في مختلف مدن العراق، كان نصيبي (سجن الحلة المركزي) الذي كان يغص بآلاف السجناء ومن كافة الشرائح الاجتماعية ومن كافة الأديان والقوميات، كل الفسيفساء العراقي الجميل، وفي السجن ازددنا لحمة وتآلفاً ووعياً لاختلاطنا بكوادر سياسية ووطنية مثقفة، وكانت هذه السجون بحق مدارس للوعي الوطني والمعرفي والسياسي، كانت تُنظم فيها حلقات دراسية في شتى العلوم والمعارف، في الاقتصاد والتأريخ والسياسة والفنون واللغات والعلوم العسكرية وغيرها.
إن ما يميز سجن الحلة المركزي هو التعاطف الشديد مع السجناء السياسيين من قِبل أهلها الكرام، ومما زاد في تعاونهم معنا هو وجود العديد من أبناء المدينة النجباء معنا في السجن، وكانت مواقفهم مشرفة مع أهالينا أيضاً خلال الزيارات الشهرية، حيث تم إيواء بعض العوائل وإيصالهم إلى السجن وتسفيرهم إلى مدنهم التي جاءوا منها.
ومن خلال هذه الصورة المؤلمة لما حدث وضياع المكتسبات الوطنية التي حققتها ثورة 14 تموز الخالدة التي أنجزتها خلال عمرها القصير علينا الإشارة بأن الزعيم عبد الكريم قاسم الذي اتصف بالنبل والنزاهة والشهامة وحبه للفقراء من أبناء شعبه، إلا أنه مع الأسف أفسح المجال واسعاً للعناصر المتآمرة ووضعهم في مراكز حساسة وأبعد العناصر المخلصة وجمد حركتهم، وتفرد بالحكم وأصبح الأوحد في اتخاذ القرارات، فعطل الحياة الحزبية والديمقراطية، ولم يتم في عهده إجراء أية انتخابات برلمانية، حيث بقي معتمداً على العسكر الذين ليس لديهم علم بأمور بناء الدولة المدنية، وأخيراً وليس آخراً هو تقوقعه في وزارة الدفاع للتصدي للمتآمرين وتوجيه الأوامر التي لم يستجب لها من كل القطعات العسكرية المرابطة في بغداد والمدن القريبة منها.
اليوم وبعد مرور أكثر من نصف قرن على هذه المأساة تقفز أمامنا صورة بيانية واضحة لما جرى ويجرى الآن من تداعي في أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وانعدام الخدمات المختلفة من كهرباء وماء وصحة وتعليم وبطالة وفقر ومرض، إلى جانب الوضع الأمني السيئ واحتلال داعش بعض مدننا وأراضينا العزيزة، ونهج المحاصصة الطائفية الأثنية كل هذا يجعلنا أمام مسؤولية كبرى تحتم علينا تمتين الوحدة الوطنية من أجل انتشال الوطن من الهوة التي انحدر إليها. العراق يعيش الآن أسوأ أيامه وفي وضع صعب جداً، إنه يستصرخ الضمائر الحية من أبناء جيشنا الباسل والشرطة الوطنية وقوى الأمن الداخلي والحشد الشعبي وقوات العشائر والبيشمركة، يستصرخهم جميعاً، لأنه يقارعوا الأعداء من كل حدب وصوب في معركة البقاء، فإما الحياة وإما الموت.
لقد وعت الجماهير خطورة الوضع، وتأكدت بأن سكوتها لم يعد مجدياً، فهي الآن أمام خيارين، الأول هو الخنوع والرضوخ وضياع العراق، والثاني هو التحرك الجماهيري والتظاهر والاحتجاج في كل ساحات التحرير في أطراف الوطن والمطالبة بكشف ملفات الفساد المالي والإداري وإحالتها إلي القضاء واسترجاع الأموال المنهوبة من خزينة الدولة التي وصلت إلى حد الإفلاس. كما وعت الجماهير أيضاً بأن المحاصصة الطائفية الأثنية هي أُس البلاء في أزمة النظام السياسي الحالي (وسبب فشله الذريع في بناء الدولة وإدارتها وعدم توفير أبسط متطلبات العيش الكريم للمواطنين).
وفي المؤتمر الأول لحركة الاحتجاج الذي عقد في بغداد يوم الجمعة ٢٩ / ١ / ٢٠١٦ أكد المؤتمرون بأنه لا خيار لهم غير الاحتجاج والتظاهر ولا يوجد أمامهم خيار غير الاستمرار وأنهم مستمرون وبوحدتهم سينتصرون.
سيبقى يوم 8 / شباط / 1963 يوماً أسود في تأريخ العراق المعاصر، تتذكره الأجيال بالألم والمرارة جيلاً بعد جيل.