المنبرالحر

ملاحظات حول قرار تخفيض رواتب الموظفين في اقليم كردستان / د. صباح قدوري

1ـ يمر اقليم كردستان العراق بازمة مالية خانقة. وهي ليست وليدة اليوم، بل هي نتيجة تراكم سياسات اقتصادية خاطئة وتفشي الفساد الاداري وهدر المال العام في المفاصل الادارية والحزبية، وسوء الادارات السابقة منذ تبني النظام الفيدرالي عام 1992 في الحكم حتى اليوم، والتي لم تكن قادرة على إعادة بناء البنية الوطنية السياسية التي تشكل روح الادارة القانونية والمؤسساتية، التي تساوي بين المواطنين وتجمع بينهم وتوحدهم في اطار واحد يتجاوز الولاءات الجزئية العقائدية والحزبية والعشائرية والمحسوبية، والتي انشغلت بالتنافس من أجل الهيمنة علي السلطة والمال والنفوذ.
2ـ تنوعت مصادر موارد الإقليم، منها: إقرار نسبة 17في المئة من الميزانية الاتحادية اعتبارا من عام 2004، بيع قسم من نفط الاقليم مباشرة في السنوات اللاحقة، مع تفشي الفساد فيه، والاستمرار في جباية الضرائب والرسوم الجمركية عند المعابرالحدودية للاقليم مع كل من تركيا وايران، واستلام مساعدات نقدية وعينية من الجهات المانحة. ما يثير الانتباه ان الموارد المذكورة، تنقصها الشفافية وتحديد أوجه انفاقها وإفصاح البيانات المتعلقة بذلك، وصعوبة الحصول على هذه البيانات من مصادرها المختصة. لقد تعاظمت ايرادات الاقليم بمليارات من الدولارات، استثمر قسم منها في مجال اعمار الاقليم، وشملت معظمها جانب البناء في اقامة مجمعات سكنية وعمارات عالية للفئات الغنية، وفيلات للمسؤولين الحزبيين والاداريين، وفنادق (4 ـ 5) نجوم، وإنشاء الحدائق والأبنية الحكومية المختلفة مع جزء قليل لبناء المجمعات السكنية للمواطنين، في الوقت الذي يشهد الاقليم أزمة سكن حقيقية، وبخاصة بالنسبة للفئات محدودة الدخل والفقيرة.
3ـ إن شح الموارد المالية اليوم في الإقليم وسوء ترشيد إنفاقها وعدم استخدام هذه الاموال الطائلة على مدى السنوات السابقة بشكل عقلاني وتوظيفها من اجل بناء بني تحتية يرتكز عليها النشاط الاقتصادي الانتاجي وتقديم الخدمات الانتاجية والعامة، أدى هذا كله الى تبديد قسم كبير منها في مشاريع فاشلة، وابتلع الفساد والامتيازات الباذحة نسبة كبيرة منها. هذا بالاضافة الي انخفاض اسعار النفط وبالتالي تقلص العوائد الناجمة عن ذلك، اضافة الى عدم استلام الاقليم حصته المحددة من الموازنة الاتحادية منذ بداية عام 2014. وبالمقابل هناك ركود اقتصادي ونقص في السيولة النقدية، وتفاقم مديونية حكومة اقليم كردستان لشركات النفط الاجنبية وللبنوك التجارية. كما ادت المواجهات العسكرية مع قطعان الدولة الاسلامية (داعش)، وما نجم عنها من تفاقم مسالة اللاجئين والنازحين في الاقليم، وزيادة نفقات هذه الحرب على الإقليم، الامر الذي تسبب في ازمة مالية شديدة، ومنها دفع رواتب كثير من منتسبي المؤسسات الادارية مرة كل اربعة اشهر.
4ـ ولحل بعض معضلات هذه الازمة المالية ومنها بالتحديد مسالة رواتب ومخصصات ذوي الرواتب، اصدر مجلس وزراء إقليم كردستان بيانا، بتاريخ 3 شباط 2015، يوضح فيه اسلوب دفع الرواتب شهريا. على ان يكون قرار مجلس الوزراء بهذا الخصوص ساري التنفيذ بأثر رجعي، أي اعتبارا من 1 كانون الثاني2016. وينص القرار على اتباع نظام ادخار نسبي "عادل" ( لم يعلن عن النسبة) من المجموع الكلي للرواتب والمخصصات، باستثناء وزارة البيشمركة والقوات الامنية. اما رواتب الأشهر الباقية من العام الماضي، فتبقى كقروض لدى وزارة المالية وتقيد في حساب خاص، باسم ( مدخرات ذوي الرواتب في اقليم كوردستان) بشكل موقت الى اجل غير مسمى، وستعاد هذه الاموال. كما ستتاخر ايضا جميع مستقطعات القروض والمنح الحكومية من قبل ذوي الرواتب، اعتبارا من هذا التاريخ.
5ـ مما لاشك فيه ان هذا الاجراء سينعكس بشكل سلبي على الوضع الاقتصادي وحياة المواطنين في الإقليم، وخاصة أصحاب الدخول المحدودة ويشمل القرار ايضا شريحة كبيرة من الطبقة المتوسطة واصحاب الدخول المنخفضة، وتأثيرها على المستوى المعيشي للمواطنين. وسيؤدي هذا الاجراء الى اضعاف الاستهلاك ومن ثم سينعكس على الانتاج والتشغيل واستمرار الركود االاقتصادي، وتفاقم البطالة، وارتفاع التضخم. علما ان الادخار بشكل إجباري يتعارض مع مبادئ الحقوق الشخصية، اي حق التصرف بالمال الخاص، ومن دون احتساب اية فائدة على هذا المال!. أما مستحقات الرواتب للاشهرالسابقة فمعظمها رواتب الموظفين من اصحاب الدخول المحدودة والواطئة، وتمثل مصدر رزقهم الاساسي وتأمين حياتهم المعيشية من المأكل والمشرب وايجار السكن والادوية وغيرها من المتطلبات المعيشية والحياتية اليومية. هؤلاء ليس لهم دخل فائض حتى يستطيعوا إقراض الحكومة، فأولى للحكومة الالتجاء الى أصحاب رؤوس الاموال الطائلة من التجار والمقاولين واصحاب الشركات الكبار الذين يملكون مليارات الدولارات وأعدادهم بالعشرات والآلاف من أصحاب الملايين أيضا في الاقليم وخارجه. وهناك شركات تمتلكها بعض الاحزاب المتنفذة في الاقليم وهذه الشركات حسب بعض المصادر الإعلامية، تبلغ ثرواتها أكثر من 80 مليار دولار، وأعدادها في تزايد مستمر بسبب الفساد وانعدام الرقابة والمحاسبة والمساءلة والاستجواب. لذا كان الاجدر بحكومة الاقليم مطالبة هؤلاء باقراضها، وهم قادرون على ذلك. وتوجب على حكومة الاقليم تسوية هذه المستحقات باسرع وقت ممكن، ودفعها الى المستحقين قبل تنفيذ القرارالمذكور انفا.
يبدو ان حكومة الاقليم بهذا الاجراء تحاول إبعاد نفسها عن تحمل المسؤولية المباشرة على ما آل اليه الوضع الاقتصادي والمالي، وتحميل المواطنين (وهم في اغلبيتهم من الفئات محدودة الدخل والفقيرة) الجزء الاكبر من اعباء الازمة.
6ـ ان ما وصل اليه الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الاقليم، هو نتاج سياسات فاشلة وادارات غير كفوءة ينخرها الفساد، وتوجهات اقتصادية ريعية استهلاكية على حساب النشاط الإنتاجي الزراعي والصناعي والخدمات ـ الانتاجية. هذا اضافة الى اعتماد مفرط على استيراد السلع الاجنبية واغراق الاسواق المحلية بها على حساب تطوير وتنمية الانتاج الوطني. والاهم من ذلك كله هو انعدام وجود رؤية شفافة واستراتيجية واضحة في عملية التنمية الوطنية الشاملة ذات ابعاد اقتصادية واجتماعية مستدامة.
ان مواجهة هذه التحديات تتطلب من الادارة الحالية الانطلاق من تشخيص الوضع الراهن؛ وخاصة في المسار الاقتصادي والمالي القائم كما هو، وتحديد الاهداف التي ينبغي تحقيقها، ومن ثم اقتراح السياسات والآليات التي من شأنها تحقيق الاهداف المرسومة. ويمكن اجمال ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ( من دون تفاصيل)، وكالاتي:
• حل ازمة الرئاسة والبرلمان.
• ايجاد مناخ ملائم لتحسين العلاقات بين الاحزاب السياسية والمشاركة منها في ادارة الحكم.
• حل جميع الاشكاليات مع الحكومة الاتحادية، على اسس الحوار الديمقراطي والشفافية.
• الشفافية التامة في ملف النفط والغاز والإنفاق الحكومي.
• تخفيف التضخم الكبير في عدد الموظفين الذي بلغ قوامه أكثر من مليون شخص، ولا حاجة الى عدد كبير منهم، ويعتبر ذلك ضمن البطالة المقنعة أيضا. والتأكيد على معايير الكفاءة والنزاهة والإخلاص في تعيين موظفي الحكومة.
• القيام بجملة من الإصلاحات السياسية والتغييرات البنيوية في اقتصاد الاقليم.
• تفعيل دور الحكومة في توفير الخدمات الاساسية للمواطنين، الصحة والتعليم والكهرباء...الخ.
• اتخاذ اجراءات حاسمة وفعلية لمعالجة ظاهرة الفساد الاداري والمالي المتفاقم في الاقليم.
• التصرف بالموارد المالية بشكل عقلاني وبشفافية عالية تصب في خدمة التنمية الحقيقية.
• تحفيز القطاع الخاص للمشاركة الفعلية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
• معالجة ظاهرة البطالة المتفاقمة، وتقليل الفوارق الطبقية، من خلال توسيع حجم الطبقة الوسطى، وتقليل حجم الفئات الفقيرة، وممن هم تحت خط الفقر.
• اصلاح النظام المالي والتشريعات المالية ، وخاصة اعادة تنظيم نظام الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وتشريع قوانين خاصة لها بما يحقق العدالة الاجتماعية، ويحد من الفساد المالي والاداري في هذه المجالات.
• تفعيل دور هيأتي الرقابة المالية والنزاهة واحترام استقلالهما في اداء مهامهما، ودراسة تقاريرهما بجدية في برلمان الاقليم واقرارها.
• ضرورة تنويع مصادر الدخل، وعدم الاعتماد فقط على النفط والغاز في المدى المنظور.
ختاما، يتطلع المواطن الكردستاني بفارغ الصبر الى الأحزاب الكردستانية المنخرطة في العملية السياسة والحكم في الإقليم، لاتخاذ مبادرة عاجلة لتبني رؤية استراتيجة واضحة وشفافة، لإجراء الإصلاحات والتغييرات المهمة والجذرية في نهجها السياسي والاقتصادي وهيكلتها الإدارية، تستند على مفاهيم العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وممارسة الديمقراطية الحقيقية، وعدم اختزالها فقط بالإنتخابات، واحترام كرامة وحقوق المواطن. ومن الضروري التركيز على تطوير الفيدرالية وترسيخ أسس مستقبلها ومؤسساتها وقوانينها، بعيدا عن التدخلات الحزبية الضيقة في شؤونها، والتسلط علي مراكز القرارات في أدائها، وتفعيل دور الجماهير للمشاركة في عملية صنع القرارات المصيرية، وانتهاج سياسة بناءة تخدم عملية التنمية الوطنية المستدامة. وبعكس ذلك فان المواطن متواصل وعازم على مطالبة وتحقيق حقوقه العادلة حتى النهاية.