المنبرالحر

حقيقة الخلاف بين واشنطن والرياض متاعب الإمبريالية الأميركية مع أدواتها في المنطقة.. السعودية نموذجاً / إلياس نصرالله

تزداد في الآونة الأخيرة الأحاديث والتحليلات المتعلقة بطبيعة المرحلة التي تمر بها العلاقات السعودية الأميركية، وفي شكل خاص تلك التي تتحدث عن تخلي الولايات المتحدة عن السعودية والتي يوحي فيها أصحابها بقرب نهاية حكم آل سعود وما شابه ذلك من التوقعات. فالسبب الرئيس لهذه التحليلات والتوقعات هو الخلاف البادي للعيان بين إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما والحكومة السعودية والذي ظهر في شكل جلي في أكثر من مناسبة، منها خروج وزير الخارجية السعودي السابق سعود الفيصل غاضباً من لقاء مجموعة أصدقاء سورية الذي ترأسته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون في شباط/فبراير 2012 في تونس احتجاجاً على تلكؤ إدارة الرئيس أوباما في التدخل عسكرياً لإسقاط الحكم في سورية، ثم التهديد الأخير للأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي الحالي، بسحب الأرصدة السعودية من الولايات المتحدة في حال تم تمرير الكونغرس قانوناً يتيح مقاضاة السعوديين المتهمين بتمويل تنظيم "القاعدة" وهجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، ثم إعلان الحكومة السعودية في 25 نيسان/أبريل الماضي عن إطلاق الخطة الاقتصادية تحت عنوان "رؤية السعودية 2030" وإنشاء صندوق سيادي سعودي بقيمة ترليوني دولار، مما يعني أن السعودية حتى وإن لم تتمكن من سحب أرصدتها من الولايات المتحدة سوف تتوقف عن إيداع عوائد النفط في البنوك الأميركية في المستقبل، وبدلاً من ذلك ستودعها في الصندوق السيادي الجديد.
مما لا شك فيه أن العلاقة بين الرياض وواشنطن تمر بأزمة وعلى الأغلب ستكون عابرة، وهي ناتجة عن سوء فهم الجانب السعودي للدور المطلوب منه أن يلعبه ضمن الاستراتيجية الغربية والأميركية على الساحة الدولية وبالتحديد في الشرق الأوسط، فبعد الخدمات الجُلى والعديدة التي قدمها المسؤولون السعوديون للولايات المتحدة والدول الصناعية الغربية عامة، من الواضح أن الأمر اختلط على المسؤولين السعوديين، فظنوا أنفسهم أنهم شركاء في هذه الاستراتيجية وطمعوا في تحقيق بعض الرغبات الخاصة بهم، لكن سرعان ما وجدوا أنفسهم في صدام مباشر مع أصحاب هذه الاستراتيجية، وبالأساس الولايات المتحدة، فالسعودية ليست الأداة الوحيدة للسياسة الأميركية في المنطقة، فهناك عدد من الأدوات أبرزها تركيا التي على سبيل المثال تصطدم من حين لآخر مع المخططات الأميركية الرامية لتقسيم المنطقة خشية أن يُسفر هذا التقسيم عن نشوء دولة كردية قد تهدد سيطرة تركيا على المناطق الكردية لديها، وإسرائيل التي اختلط الأمر عليها وأساءت هي الأخرى فهم الدور المناط بها ضمن الاستراتيجية الغربية، فرئيس وزراء إسرائيل بنيامن نتنياهو ظل يعتقد أنه شريك للغرب في مخططاته وليس مجرد أداة فقط، فاستفاق أخيراً ليجد الغرب محتفلاً بتوقيع اتفاق مع إيران يسمح لها بمواصلة بناء برنامجها النووي الذي تعارضه إسرائيل بشدة.
وظن البعض أن الرئيس أوباما جاء في 21 نيسان/أبريل لمقابلة قادة دول مجلس التعاون الخليجي زائد ملك المغرب محمد السادس والاعتذار لهم عن تفاهم إدارته مع الحكومة الإيرانية حول برنامجها النووي ومع روسيا حول مستقبل سورية، ليتضح أنه على العكس من ذلك جاء ليضع النقاط على الحروف أمام هؤلاء القادة وليلوي أذرعتهم ويذكرهم بأنهم أحجار شطرنج لا أكثر، رغبوا في ذلك أم أبوا، بدليل الطريقة التي تم بها استقبال أوباما وتوديعه في الرياض، حيث بدا الحرد الطفولي السعودي فيها واضحاً، واضطر أوباما إلى عقد مؤتمر صحافي منفرد في نهاية الزيارة من دون مشاركة سعودية، وهو أمر غير متبع في العلاقات الديبلوماسية بين الدول. فمن الرياض أعلن أوباما أمام وسائل الإعلام مجدداً تأييده للاتفاق الذي تم التوصل إليه مع إيران حول برنامجها النووي وأكد على ضرورة التوصل إلى حل سلمي للأزمة السورية وبالذات مع الرئيس بشار الأسد الذي تعمد أوباما ذكره بالإسم، وكلا الأمرين كانا السبب وراء الحرد السعودي، علاوة على الخلاف بين الطرفين حول ترتيبات الوضع الداخلي في ليبيا. وينبغي التوضيح هنا أن أوباما لم يتخذ هذا الموقف من سورية عن قناعة تامة بالحل السلمي، فإن رغب حكام السعودية وتركيا وحتى إسرائيل بالتدخل عسكرياً في سورية فهو مستعد أن يدعمهم ويؤيد خطاهم.

                                             التحول إلى أداة
فمنذ أن اتفق مؤسس المملكة العربية السعودية عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود عام 1945 مع الرئيس الأميركي السابق فرانكلين روزفيلت على أن تُسهل السعودية للأميركيين الحصول على النفط السعودي مقابل تقديم الولايات المتحدة لعبدالعزيز وأبنائه وأحفاده الحماية وضمان احتفاظهم بالحكم، ما زال هذا الاتفاق هو الذي يحدد العلاقة بين واشنطن والرياض. فعندما وافق الملك عبدالعزيز على هذا الاتفاق لم يشعر بتاتاً أنه تنازل عن استقلاليته وحرية بلاده وأنه أصبح أسيراً في يد قوة عظمى جديدة أشرس وأعتى بكثير من القوى العظمى التي عرفها أو عرفتها البشرية على مر العصور. فعلى مدى السبعين عاماً الماضية لم تحصل سوى محاولة سعودية واحدة لتعديل هذا الاتفاق، حين رغب الملك السعودي السابق فيصل بن عبدالعزيز الحصول على نوع من الاستقلالية في التحكم بثروة بلاده النفطية التي تحكمت فيها شركة أرامكو للنفط المملوكة في حينه بالكامل لشركات النفط الأميركية. لكن هذه المحاولة وئدت في المهد عندما قُتل الملك فيصل بن عبدالعزيز عام 1975 على يد ابن أخيه الأمير فيصل بن مساعد بن عبدالعزيز، لتعود الأمور بعد مقتل فيصل إلى ما هو أسوأ بكثير مما كانت عليه في عهد ملوك السعودية الأوائل عبدالعزيز وابنيه سعود وفيصل، فمنذ العام 1975 لم تعد السعودية مخزناً للنفط والثروة بالنسبة للولايات المتحدة فحسب، بل تحولت مثلها مثل إسرائيل إلى أداة في مخططات الغرب الاستراتيجية في الشرق الأوسط والعالم وما زالت إلى اليوم. فالولايات المتحدة أثبتت أنها ستحترم التعهد الذي قدمه روزفيلت للملك عبدالعزيز وسيظل آل سعود هم حكام السعودية طالما ظلت الولايات المتحدة مستفيدة من نفطهم وثرواتهم.
فحتى عام 1975 اهتمت الحكومات الأميركية بأن تبقى الأوضاع الداخلية للسعودية على حالها، وساهمت في حجب السعوديين عن عجلة التحول العالمي السريعة نحو الديمقراطية، وذلك لكي يظل آل سعود قادرين على ضبط الأمور والسيطرة على الوضع لمواصلة السماح للأميركيين بالاستفادة من النفط والثروات العديدة للجزيرة العربية من غاز طبيعي وذهب ونحاس ويورانيوم وغيرها. ووفقاً لنصائح أميركية لآل سعود جرت تصفية النشاط السياسي الحزبي بأشكاله كافة في السعودية بما فيها حركة نجد الفتاة الإصلاحية، ومُنعت التنظيمات النقابية وأعدم أو سجن وعذب أو نفي كل من كانت له علاقة بأي نشاط سياسي أو تسول له نفسه بذلك، لتصبح السعودية بلداً خالياً من الأحزاب والنقابات المهنية أو حتى المنظمات غير الحكومية وهذا الحال ما زال قائماً إلى اليوم، فالتنظيمات والأحزاب هي جزء وشرط أساسي من البنى التحتية للتغيير الديمقراطي في أي بلد، حتى في النظم الديكتاتورية. وفي ما عدا دخول السعودية مباشرة في حرب اليمن عام 1962 أعفي آل سعود من مواجهة خطر الحركة القومية العربية الذي هددهم من البلدان العربية المجاورة، ورفع الملك فيصل في ستينات القرن الماضي راية الإسلام وما زالت مرفوعة إلى اليوم مقابل راية القومية العربية التي رفعت في القاهرة ودمشق وبغداد وكان لها صدى في الجزائر واليمن وليبيا، لكن الأميركيين تكفلوا بالتصدي لخطر المد القومي العربي بأنفسهم مستخدمين أداتهم إسرائيل التي عبثت بدول الجوار العربية واحتلت أراضيها في حرب حزيران/يونيو 1967.
مع ذلك ظل الملك فيصل الذي استولى على الحكم وأصبح ملكاً على السعودية عام 1964 مُصراً على فرض السيادة السعودية على النفط السعودي على نحو أغضب الأميركيين. ففي عام 1960 كان فيصل وراء موافقة السعودية في عهد شقيقه الملك سعود بن عبدالعزيز على الانضمام إلى منظمة الدول المنتجة والمصدرة للنفط (أوبك)، رغم عدم رضى الإدارة الأميركية عن هذه الخطوة. وحال نشوب حرب تشرين/أكتوبر عام 1973 انتهز فيصل الفرصة فاستخدم نفوذه لزيادة أسعار النفط الخام بحوالي 17 بالمائة، وأوقف تصدير النفط إلى الولايات المتحدة احتجاجاً على وقوفها إلى جانب إسرائيل وتسليحها لها خلال تلك الحرب، واستحوذ على 25 بالمائة من أسهم شركة أرامكو التي سيطرت على صناعة النفط والغاز الطبيعي في السعودية، وما لبث أن زاد فيصل في عام 1974 حصة الحكومة السعودية في أسهم أرامكو إلى 60 بالمائة، مما قرع ناقوس الخطر لدى الدوائر الرسمية الأميركية التي أدركت أن الملك فيصل مصمم على انتزاع استقلال بلاده من القبضة الأميركية. ومع أن الحكومة السعودية استحوذت لاحقاً في عقد الثمانينات من القرن الماضي على أسهم شركة أرامكو كافة وحولت اسمها إلى شركة الزيت العربية السعودية واحتفظت معه باسم أرامكو، إلا أن هذه الخطوة السيادية ظاهرياً اقترنت بممارسات جديدة للحكومة السعودية، ظهرت في شكل واضح خلال فترة حكم الملك فهد بن عبدالعزيز، جعلتها أداة طيعة أكثر في يد الإدارات الأميركية التي استخدمت هذه الأداة بنجاعة تامة في تنفيذ مخططات جهنمية ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل على مد الكرة الأرضية.
فالولايات المتحدة استخدمت السعودية أداة في مكافحة الشيوعية والحركات اليسارية والقومية الأخرى في الشرق الأوسط وحول العالم، وبرز دور هذه الأداة في شكل واضح في أفغانستان، حيث جيّشت السعودية كل الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي للمشاركة في الحملة الأميركية لمحاربة الجيش السوفياتي وإخراجه من أفغانستان. وساهمت السعودية في تمويل الحملات الانتخابية للأحزاب اليمينية في أماكن مختلفة من العالم من أجل مساعدتها على الوصول إلى الحكم، خاصة في أوروبا وغيرها، ودعمت في شكل واضح الحملات الانتخابية للحزب الجمهوري الأميركي، كما دعمت أنظمة الحكم الفاسدة التي اعتبرتها السعودية صديقة لها في العالمين العربي والإسلامي، وزعزعت أنظمة الحكم غير الصديقة، وهي أدوار لم توكل من جانب الولايات المتحدة لأي حكومة أو دولة في العالم لغير السعودية، الأمر الذي دفع بآل سعود إلى الغرور والشعور بوجود أهمية خاصة لهم، وجعلهم يطمحون إلى تمرير بنود خاصة بهم إضافة إلى البنود المطلوب منهم أميركياً تنفيذها، مثلما هو حاصل في السنوات الخمس الأخيرة في سورية والعراق واليمن، الأمر الذي أدى إلى الصدام الظاهر للعيان حالياً بين إدارة أوباما وحكام السعودية.
فمنذ سقوط نظام حكم الشاه محمد رضا بهلوي في إيران عام 1979، رأى آل سعود أن الثورة الإسلامية في إيران تشكل خطراً عليهم ومن شأنها أن تحفز الشعب السعودي على الانتفاض ضدهم وإسقاط حكمهم أسوة بالشعب الإيراني، وتوقع آل سعود أن يهب الأميركيون لإسقاط الثورة الإسلامية وإعادة الشاه إلى الحكم دفاعاً عنهم، لكن إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر لم تكن راغبة في ذلك، بل أنها فشلت في تنفيذ عملية عسكرية لتحرير الرهائن الذين تم احتجازهم في السفارة الأميركية في طهران عام 1979. فجرب آل سعود إنهاء الجمهورية الإسلامية بوسائلهم الخاصة، فحرضوا الرئيس العراقي صدام حسين على خوض حرب ضروس ضد إيران عام 1980 ومولوه لتستمر هذه الحرب لثماني سنوات متواصلة، وتعمد آل سعود استفزاز إيران خلال تلك الحرب بالاعتداء على الحجاج الإيرانيين عام 1987 وقتلوا منهم حوالي 600 حاج في محاولة لجر إيران إلى شن اعتداء على السعودية فتضطر الولايات المتحدة إلى التدخل عسكريا في إيران دفاعاً عن السعودية، لكن إيران لم تنجر وراء الاستفزازات السعودية وخرجت من الحرب مع العراق أقوى مما كانت عليه. فيما انقلب صدام على مموليه وداعميه فغزا الكويت عام 1990 وشكل خطراً على السعودية ذاتها، فوجدت إدارة الرئيس بوش الأب زعيم الحزب الجمهوري الأميركي فرصة في تشكيل تحالف دولي من أجل تحرير الكويت، الأمر الذي أنعش آمال آل سعود باحتمال موافقة الأميركيين على مواصلة المعركة لإسقاط نظام حكم صدام حسين، وربما ضرب إيران وإسقاط الجمهورية الإسلامية.
لكن هذه الآمال أنكفأت عندما فشل بوش في الحصول على أغلبية في الانتخابات الرئاسية وفاز بيل كلينتون عن الحزب الديمقراطي، فانتهج سياسة عدم إرسال جنود أميركيين للتدخل عسكرياً في الصراعات الدولية. وعندما وصل جورج بوش الإبن إلى الحكم عام 2000 انتعشت آمال آل سعود مجدداً، خاصة وأنهم تيقنوا بأن بوش الإبن سينتهج سياسة خارجية مغامرة أكثر من سياسات من سبقوه من الرؤساء الأميركيين، فتناغم آل سعود مع سياسة بوش الإبن المتهورة وتعاونوا معه في الحملة لإسقاط حكم صدام حسين عام 2003 وحضوه على مواصلة حملته لإسقاط نظامي الحكم في سورية وإيران. لكن بوش لم يستجب لهذه الرغبة السعودية بسبب فشل الحزب الجمهوري في الاحتفاظ بالسلطة، ففاز مرشح الحزب الديمقراطي باراك أوباما عام 2008 رافعاً راية سحب القوات العسكرية الأميركية من أفغانستان والعراق، وهو ما تم بالفعل، وعدم إرسال قوات أميركية للتدخل عسكرياً في أي نزاع في العالم، الأمر الذي لم يعجب آل سعود. ومع أن إدارة أوباما وافقت على مشاركة الطائرات الحربية الأميركية في الغارات على ليبيا وإسقاط الرئيس الليبي معمر القذافي ومقتله لاحقاً، إلا أن أوباما عاد وأكد أكثر من مرة أن إرسال الطائرات الأميركية إلى ليبيا كان خاطئاً، مما يعني أنه ما زال مصراً على عدم التدخل عسكرياً في النزاعات الخارجية.
لذلك رأى آل سعود في الثورات العربية أو ما يُسمى بالربيع العربي فرصة للإطاحة بأنظمة الحكم غير الصديقة في الشرق الأوسط، بعدما خسروا في فترة وجيزة حليفين لهما، زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر، فرغم رفض السعودية للديمقراطية وانقلابها على حزب الإخوان المسلمين في مصر لأنه وافق على المشاركة في الانتخابات التي تشكل خطراً عليها، رمت السعودية بثقلها خلف التحرك الشعبي الذي خرج في سورية مطالباً بالديمقراطية ونجحت في حرفه عن مسار النضال السلمي إلى رفع السلاح في وجه الدولة. ولم يعد سراً أن السعودية مولت الأنشطة المسلحة والإرهابية ضد الجيش والشعب في سورية، وساهمت إدارة الرئيس أوباما في دعم التحرك السوري على أمل التخلص من حكم الرئيس السوري بشار الأسد، الذي لا يقل كره الإدارة الأميركية له عن كره آل سعود له. لكن مع الوقت تبين أن هذا التحرك غير قادر على إسقاط الحكم في سورية وأن الجيش السوري مدعوماً من شعبه قوة لا يستهان بها، فعاد السعوديون إلى نغمة التدخل العسكري الخارجي وليس في ذهنهم سوى التدخل الأميركي، فجرت فبركة اتهام الرئيس الأسد باستخدام الأسلحة الكيماوية لجر الأميركيين إلى التدخل. فرفضت إدارة أوباما ذلك وما زالت، وهو السبب الرئيس للخلاف بين الطرفين، بل يُعتقد أن أحد أسباب شن السعودية الحرب على اليمن كان لتلافي مطالبة الأميركيين لها بإرسال جيشها للقتال في سورية، إذا كانت تريد تدخلاً عسكرياً لإسقاط حكم الأسد. فإدارة الرئيس أوباما لا تكن مودة للرئيس الأسد، وتدعم الحركات التي تعمل على إسقاطه وهي مستعدة لمواصلة دعم أي تحرك جدي في هذا الاتجاه، لكنها لن تأتي بجيشها لإسقاط الأسد.

                                                   أموال النفط
أدى حظر النفط الذي فرضه الملك فيصل وزيادة حصة السعودية في شركة أرامكو إلى نشوء ظاهرة جديدة أرعبت الدول الغربية كثيراً، وهي ظاهرة أموال النفط التي ازدادت ضخامة مع ارتفاع أسعار النفط. فوفقاً للوثائق السرية للحكومة البريطانية منذ عام 1974 والمفرج عنها لاحقاً للجمهور في أرشيف الدولة البريطاني في لندن، شعرت الحكومتان البريطانية والأميركية ومثلهما حكومات الدول الصناعية الغربية الأخرى بأن مبالغ هائلة من المال ستعود إلى خزائن حكومات الدول المنتجة والمصدرة للنفط، خاصة الحكومة السعودية التي ظلت حتى عام 2011 تسيطر على أكبر مخزون نفطي في العالم، وما زالت تحتل المرتبة الثانية بعد فنزويلا. وكما هو مثبت في الوثائق البريطانية بدأ العمل في الغرب على وضع خطط لمنع عائدات النفط من دخول خزائن الدول النفطية العربية في شكل خاص، ومنع توظيفها واستثمارها في هذه الدول ولا حتى في دول العالم العربي، وإرغام هذه الدول على إيداع ما تتلقاه من أموال النفط في الدول الغربية.
بالطبع لم يكن من السهل إقناع الملك فيصل بهذه العملية، لكنه قُتل بقدرة قادر عام 1975 وتبين لاحقاً أن الحكومات الغربية حصلت على مبتغاها، بحيث أخذت أموال النفط تتكدس في البنوك الغربية ويجري توظيفها وإلى اليوم في شراء سندات حكومية غربية أو شراء أسهم في الشركات الكبيرة مثل شركات صناعة السيارات أو في شراء العقارات في أوروبا والولايات المتحدة، ولم تكتف الدول الغربية في ذلك، بل راحت تتنافس فيما بينها على إقناع دول الخليج العربية والسعودية في شكل خاص بشراء كميات هائلة من الأسلحة، حيث سجلت بريطانيا في عام 1985 أعلى رقم قياسي في بيع الأسلحة بعقدها مع السعودية أضخم صفقة بيع أسلحة في التاريخ عرفت باسم "اليمامة" زادت قيمتها عن 40 مليار جنيه إسترليني بمفاهيم ذلك الوقت، حيث تبين أن الدول الغربية استخدمت دفع رشاوى للمسؤولين السعوديين لقاء موافقتهم على تمرير صفقات السلاح هذه وما زال مسلسل صفقات الأسلحة مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا مستمراً. وبرزت خلال السنوات الثلاثين الأخيرة ظاهرة شراء واستحواذ صناديق وأفراد من دول الخليج على مشاريع تجارية متنوعة في الغرب كالمتاجر الفاخرة وغير الفاخرة ونوادي فرق كرة القدم الشهيرة وغيرها، وتدخل كلها ضمن عملية إرغام دول الخليج على توظيف أموالها في الغرب. فأموال النفط أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المصالح الغربية في الشرق الأوسط.
قلائل هم الذين يعلمون الحجم الحقيقي لأموال النفط العربي لدول الخليج المودعة أو المستثمرة في الغرب، والقسم الأكبر منها تابع للسعودية، فهذه الأموال أصبحت عامل استقرار أساسي في اقتصاد الدول الغربية، خاصة الاقتصاد الأميركي، فالأمير محمد بن سلمان الذي أطلق تهديده بسحب أرصدة بلاده من البنوك الأميركية قبيل زيارة أوباما إلى الرياض كان يعلم بأهمية هذه الأرصدة بالنسبة للاقتصاد الأميركي، رغم أن البعض شكك في دقة معرفته بحجم هذه الأرصدة عندما قال أنها تبلغ حوالي 750 مليار دولار. فأي تحريك أو نقل لهذه الأرصدة في ظروف الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتحدة حالياً معناه حدوث انهيار تام لاقتصادها.
من دون مناقشة قدرة أو عدم قدرة الأمير السعودي محمد على سحب أرصدة بلاده من الولايات المتحدة، ينبغي التوقف عند أسباب هذا التهديد الذي كشف عن وجود خلافات عميقة بين الحكومة السعودية وإدارة الرئيس أوباما. ليس سراً أن آل سعود اكتشفوا منذ بداية علاقتهم مع الأميركيين أن إدارات الحزب الجمهوري أفضل لهم من إدارات الحزب الديمقراطي، لسبب بسيط هو أن الحزب الجمهوري تاريخياً مدعوم من شركات النفط وأصحاب صناعات الأسلحة والصناعات الثقيلة عامة في الولايات المتحدة وهي الجهات التي لها علاقات تجارية كبيرة مباشرة مع السعودية وآل سعود. أما الحزب الديمقراطي فهو مدعوم من البنوك وشركات التأمين والاتصالات والإعلام وأصحاب صناعات الأغذية والألبسة والأدوية وغيرها من الصناعات الخفيفة والشركات العقارية التي لا توجد لها علاقة كبيرة ومباشرة مع السعودية وآل سعود. وبرزت علاقة السعودية الوثيقة بالولايات المتحدة في فترة حكم الرئيسين الأميركيين الجمهوريين رونالد ريغان وجورج بوش الأب، التي بلغت حداً وُصف فيه سفير السعودية في واشنطن الأمير بندر بن سلطان بأنه "إبن بيت" لدى الرئيس جورج بوش الأب. وتحدثت تقارير عديدة عن تقديم الأمراء السعوديين الدعم المالي لمرشحي الحزب الجمهوري ومساعدتهم على الفوز في الانتخابات الرئاسية.
فعندما وصل أوباما إلى البيت الأبيض في عام 2008 كان يعلم تماماً بارتباطات آل سعود بالحزب الجمهوري المنافس لحزبه وبمخططات الجمهوريين الاستراتيجية في الشرق الأوسط. وينبغي الإشارة هنا إلى أنه لا خلاف بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والحفاظ على المصالح الأميركية في العالم، فالخلاف فقط في التكتيكات التي يتبعها كل حزب. فالحزب الديمقراطي هو الذي وضع في عهد الرئيس جيمي كارتر خطة لإخراج السوفيات من أفغانستان من دون إرسال الجيش الأميركي والتورط في حرب شبيهة بحرب فيتنام، وإدارة الرئيس كارتر هي التي قامت بتشكيل حركة "المجاهدين" واستخدمت السعودية أداة أساسية في تشكيلها، وعندما جاء الرئيس الأميركي الجمهوري ريغان إلى الحكم واصل العمل على تنفيذ الخطة ذاتها، كما أن الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون هو الذي بدأ الحرب على أفغانستان بحجة محاربة تنظيم "القاعدة" قبل هجمات 9/11 من دون إنزال قوات على الأرض، ونفذ سلسلة غارات على معاقل "القاعدة" في تورا بورا، ثم جاء جورج بوش الإبن من بعده وأكمل الحملة وبدأ الحرب عام 2001 بإرسال عشرات آلاف الجنود الأميركيين وجنود من الحلف الأطلسي إلى أفغانستان. كذلك الحال بالنسبة لمخطط السيطرة الأميركية على العراق، إذ لا يوجد فرق بين الجمهوريين والديمقراطيين في تحقيق هذا الهدف، والفرق الوحيد هو أن الجمهوريين مستعدون للمغامرة وإرسال الجيش الأميركي لتنفيذ هذا المخطط بالقوة خدمة لأصحاب صناعات الأسلحة الأميركيين الذين يدعمون الحزب الجمهوري، فيما يرفض الحزب الديمقراطي، منذ درس حرب فيتنام، المغامرات العسكرية الخارجية للجيش الأميركي ويفضل استخدام ما يسمى بـ"القوة الناعمة"، فكان أول عمل قام به أوباما بعد وصوله إلى الحكم هو الإعلان عن سحب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق وأبقى فيهما أعداداً قليلة نسبياً من الجنود، وها هو يؤكد المرة تلو الأخرى أنه لن يرسل قوات أميركية إلى سورية سوى بضع مئات من الجنود والضباط، بل أعتبر أن مشاركة الطائرات الأميركية في إسقاط حكم الرئيس الليبي معمر القذافي كانت خطأ فادحاً. وفي المقابلة الصحافية الشهيرة مع مجلة "أتلانتك" هاجم أوباما حلفاءه في أوروبا وفي السعودية، وحتى ضمنا إسرائيل، فقال أنهم يركبون على ظهر الولايات المتحدة ويريدونها أن تحارب عنهم.
ولا داعي إلى الدخول في تحليلات سياسية وأكاديمية من أجل إثبات حقيقة أن السعودية أداة في يد الإمبريالية الأميركية، ويكفي الاستشهاد بما قاله الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق، في مقابلة أجرتها معه صحيفة "الفايننشيال تايمز" الشهر الماضي حيث كشف أن دول الخليج وعلى رأسها السعودية تتحكم بأسعار النفط وفقاً لأوامر أميركية وغربية، واعترف لأول مرة بأن قطر تدخلت في الأزمة السورية بناء على أوامر أميركية، إذ قال بالحرف الواحد "سأقول شيئاً ربما أقوله للمرة الأولى: عندما بدأنا ننخرط في سورية (حوالي العام 2012) كان لدينا ضوءاً أخضر بأن قطر ستقود، لأن السعودية لم ترغب في حينه أن تقود. بعد ذلك حصل تغيير في السياسة ولم تخبرنا السعودية أنها تريدنا في المقعد الخلفي". فالمهم في هذا التصريح هو الحديث عن الضوء الأخضر الذي تلقته قطر لتقود عملية التدخل في الأزمة السورية بالوكالة، والذي يشكل دليلاً دامغاً على أن كلاً من قطر والسعودية مجرد أدوات بيد الولايات المتحدة والغرب. واشتهر الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني بتعبيره عما يجول في خاطره، ففي اجتماع لمجلس وزراء الخارجية العرب لبحث الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في عام 2012 خاطب زملاءه الوزراء قائلاً "أغلبنا نعاج".
يمكن على ضوء ما تقدم أن نتفحص ما يقال عن تخلي الولايات المتحدة عن السعودية أو بالأصح عن آلِ سعود، فتلك مقولات متسرعة لا تأخذ بالحسبان المصالح الإميركية الكثيرة في السعودية، فالتخلي عن آلِ سعود قد يعني التخلي عن هذه المصالح وهو أمر غير وارد وغير منطقي. أن تكون إدارة أوباما أو غيره من الرؤساء الأميركيين على خلاف مع آلِ سعود لا يعني أن هذه الإدارة لم تعد بحاجة إليهم أداة في تنفيذ مخططاتها التي لا نهاية لها، كما أن اكتشاف النفط الصخري في الولايات المتحدة لا يعني أن شركات النفط الأميركية لم تعد طامعة بالنفط السعودي.
من ناحية أخرى تدرك الإدارات الأميركية المتعاقبة وجود صراعات محتدمة وشرسة داخل عائلة آل سعود ذات طابع عائلي وشخصي أساسها النفوذ داخل العائلة والتنافس على المناصب والمخصصات المالية أو الحصص، خاصة بعد انخفاض أسعار النفط، فاستحداث الملك السابق عبدالله بن عبد العزيز لمنصب ولي ولي العهد في عام 2014 هو دليل واضح على هذه الصراعات، التي ربما أصبحت الأمل الوحيد في الوقت الراهن لأي تغيير داخل السعودية، إذ لا وجود لتكتلات سياسية حزبية أو غير حزبية قد تشكل في المستقبل قاعدة لأي تغيير في نظام الحكم. ففي السعودية عدد من الليبراليين أو دعاة الإصلاح الذين لم يسلموا من قبضة السلطة وزج بهم في السجون، لكنهم غير منظمين ولا يشكلون قوة يمكن الاعتماد عليها في أي تغيير ممكن في المستقبل.