المنبرالحر

الصحافة الشيوعية بين التحريض والتنوير / إبراهيم خلف

إن أية دراسة منصفة وموضوعية لدور الصحافة الشيوعية في عملية التغيير السياسي ينبغي أن لا تقيد نفسها في مرحلة معينة بل ان تتابع الصحافة الشيوعية منذ الجذور التي مهدت لوجود هذه الصحافة وظهور بواكيرها قبل تأسيس الحزب في 31 آذار 1934 اذ اسس أول صحيفة يسارية ماركسية حسين الرحال في 18 كانون الأول من عام 1924 ويتفق المؤرخون على ان الصحيفة تميزت بجرأة استثنائية وشجاعة في التعبير عن الرأي ليس فقط في القضايا السياسية (في وقت كان المندوب السامي البريطاني هو من يرسم وينفذ السياسة العراقية) بل تناولت الصحيفة أكثر القضايا الاجتماعية حساسية إلا وهي حرية المرأة غير إن صدورها اقتصر على ستة أعداد فقط حيث أغلقت عام 1925وبالرغم من هذا الإغلاق فقد عاودت الصدور في 13 أيار من عام 1927 بجهود الصحفي عوني بكر صدقي فصدرت منها ثلاثة أعداد.
دور الصحافة الشيوعية
لعبت الصحافة الشيوعية دورين أساسيين الدور الأول دور تحريضي تثويري تعبوي فيما كان الدور الآخر تنويري تثقيفي توعوي فالدور الأول لعبته صحافة الحزب السرية فيما لعبت الدور الثاني الصحافة العلنية او الصحافة السرية التي تحولت إلى صحافة علنية وما يحدد هذين الدورين شكل وموقف النظام السياسي الحاكم لكن الحزب وهو يمارس هذه الأدوار لم يقتصر على صحافته الخاصة بل وظف علاقاته بالصحافة الوطنية لنشر مواقفه وأفكاره .
صحافة الحزب السرية
كانت كفاح الشعب أول صحيفة سرية أصدرها الحزب في 31 تموز من عام 1935وكانت صحيفة الحزب المركزية مطبوعة بالرونيو أصدرها لأول مرة بـ 400 نسخة لكن صدورها كان أشبه بقذيفة تهز أركان النظام آنذاك فأجهزت حكومة الماسوني ياسين الهاشمي رئيس الوزراء آنذاك على الحزب فتوقفت كفاح الشعب عن الصدور . لكن خلايا الحزب السرية غير المكشوفة عملت على إعادة التنظيم في البصرة من قبل غالي زويد وفي بغداد من قبل عبد لله مسعود القريني ولما وجد الأخير إن الإمكانات المادية متوفرة فاصدر جريدة الشرارة كصحيفة حزبية ناطقة بلسان الحزب الشيوعي العراقي وذلك في كانون الأول من عام 1940 وصلت الإعداد الموزعة منها إلى 9000 نسخة في عام 1942 . ولكن الخطورة لم تنته عند السلطات الحاكمة فان الانشقاقات داخل الحزب كان تفعل فعلها في توقف صحافته او مصادرتها فبعد استيلاء المجموعة المنشقة عن الحزب على جريدة الشرارة اضطر الحزب الى إصدار جريدة القاعدة وذلك في كانون الثاني من عام 1943 من قبل داود الصائغ وحسين الشبيبي وزكي بسيم وعبد تمر.
جريدة العصبة :
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة دول المحور والضغوط الشعبية الداخلية حاول الحزب توظيف هذه الظروف من اجل الإصدار العلني لصحافته ، صدرت جريدة العصبة الناطقة بلسان عصبة مكافحة الصهيونية في السابع من نيسان عام 1946 وترأس تحريرها الشهيد محمد حسين أبو العيس لكن لم تزد أعدادها عن الثلاثة حيث توقفت عن الصدور بقرار من حكومة ارشد العمري .
وفي نهاية الأربعينات صدرت مجموعة من الصحف علنية ومنها صحيفة الأساس التي أصدرها شريف الشيخ لكنها أوقفت عن الصدور بعد صدور 90 عددا منها واصدر الحزب جريدة العصور وجريدة الهادي التي صدر عدد واحد منها في عام 1949 وهذا التذبذب في إصدار الصحف التي لم يطل عمرها يعود إلى مواقف السلطة الرجعية ولهذا عمد الحزب إلى استثمار الفرص التي تتاح إمامه لنشر سياسته بالاستعانة بالصحف الصديقة العلنية ومنها الصحف التي يديرها لطفي بكر صدقي وشاعر العرب الأكبر محمد الجواهري وكذلك مجلة (المثل العليا) في النجف لصاحبها ورئيس تحريرها كاظم الكشوان وكان للشيوعيين دورهم المشهود في إصدار الصحافة الخاصة بالسجون كسجن الكوت حيث يوجد الرفيق فهد وكذلك صحيفة السجين الثوري في سجن نقرة السلمان وذلك في عام 1953 فضلا عن الصحافة الحائطية التي يحررها الطلبة الشيوعيون التي تهدف الى رفع مستوى الوعي الثقافي والتنويري والتعليمي للطلبة .واصدر الحزب مجلة المجلة التي يرأس تحريرها الروائي الكبير ذو النون أيوب ومجلة الثقافية الجديدة التي صدرت عام 1953.
صحافة الخمسينات
• صحيفة القاعدة استمرت بالصدور حتي منتصف عام 1956 حيث التحمت من جديد راية الشغيلة بالحزب عندما تولى الشهيد سلام عادل سكرتارية اللجنة المركزية للحزب وخلال هذه الفترة كانت تصدر راية الشغيلة إلى جانب صحيفة نضال الشعب للتيار الذي يقوده عزيز شريف .
• صحيفة اتحاد الشعب صدرت في منتصف عام 1956جامعة لكل من راية الشغيلة والقاعدة ونضال الشعب إلا إن صدورها كان بصورة سرية وبصدورها تتشكل في حياة الحزب انعطافة توحيدية بارزة كان لها الدور الكبير في التعبئة والتحضير لثورة الرابع عشر من تموز .
صحافة الحزب بعد الثورة :
• جريدة اتحاد الشعب ترددت حكومة الثورة في البداية في السماح لاتحاد الشعب بالصدور العلني وطبعا كان يقف وراء هذا التردد الحركات القومية على اختلافها حزب البعث حركة القوميين العرب والحزب الإسلامي وبدلا من ذلك أجازت قيادة الثورة جريدة المبدأ لداود الصائغ وكان تبرير الحكومة لعدم السماح بإصدار اتحاد الشعب بالنظر للتشابه الكبير بينهما وبين المبدأ التي يصدرها داود الصائغ من حيث الأفكار والأهداف لكن الحزب شن حملة جماهيرية وإعلامية وسياسية واسعة للضغط على رئيس الحكومة من اجل صدورها العلني واستطاع الحزب في تلك الفترة من جمع 250 إلف توقيع في كافة إرجاء البلاد وعن الفقيد عامر عبد الله له الذكر الطيب قوله : ( إننا كنا فريقا من الحزب على موعد مع الرجل الأول ويقصد عبد الكريم قاسم وعلى طاولة فسيحة في مقره في وزارة الدفاع أفرغنا محتويات حقيبة كبيرة كانت تضم قوائم ربع مليون توقيع تطالب وتلح بإجازة اتحاد الشعب جريدة يومية سياسية كان مضمون العريضة التي اخترناها والقي الرجل بنظره على أكداس المذكرات المرصوفة على الطاولة وقال :طلب مشروع وعادل ويضيف الفقيد شكرناه وقدرنا موقفه وخرجنا لنعد أنفسنا لتجربة جديدة).
لقد صدر العدد الأول منها في 25 كانون الثاني عام 1959يتصدرها قرار الثورة باعتبار قادة الحزب فهد وحازم وصارم كشهداء للشعب والوطن وإلغاء قرار التجريم والحكم بالإعدام من قبل محكمة النعساني سيئة الصيت وكان يصدر عن الجريدة بعد شراء طابعة جديدة من تبرعات المواطنين 40 ألف نسخة في اليوم بعد ان كانت تصدر ب28 الف نسخة في الطابعة القديمة .
لقد احتلت صحيفة اتحاد الشعب مكانة مميزة ورائدة في تاريخ الصحافة العراقية والصحافة الشيوعية العراقية لم تبلغها اية صحيفة سواء من حيث المستوى المهني وثقافة ومهارة المحررين ونوعية المواد التي تنشر وكان طاقم التحرير فريدا من نوعه ويضم شخصيات بارزة في مختلف الميادين وحسب الفقيد عامر عبدالله، فقد انبثقت من بين افراد الاسرة كوكبة موهوبة مبدعة منهم الشهيد عبد الجبار وهبي ابو سعيد الذي يكتب من قلبه ينتقي موضوعاته بعناية فائقة يتحسس بدقة الفنان نبض الشعور الشعبي وكذلك عبد الرحيم شريف كاتبا موهوبا واسع المعرفة منظما في كل شيء والشهيد عدنان البراك كان يشق طريقه كالسهم الى مصاف اكثر كتاب الصحافة قدرة وموهبة وصراحة أبو كاطع ورشدي العامل وغائب طعمة فرمان ومجيد الراضي وعبد الله حبة ويضاف الى كل هؤلاء أعمدة الجريدة البارزين سلام عادل ومحمد حسين ابو العيس وجمال الحيدري ونافع يونس وزكي خيري وبهاء الدين نوري .
وفي أب عام 1961 أغلقت الجريدة بعد تعثر العملية السياسية وتراجع قادتها وخلال هذه الفترة سعى الحزب إلى إحياء امتياز سابق لجريدة باسم صوت الشعب التي سبق وان أجيزت للشهيد محمد حسين أبو العيس الا إن الحكومة لم توافق على إصدارها فاضطر الحزب عندئذ إلى معاودة نشاطه الصحفي السري فاصدر صحيفته السرية طريق الشعب في أواخر عام 1961 فانتقل كل ما بقي من تراث اتحاد الشعب إلى طريق الشعب واستمرت تصدر سرا حتى عام 1973 لتبدأ مرحلة جديدة من الإصدار العلني بعد إعلان ميثاق العمل الوطني (ميثاق الجبهة الوطنية) لكنها ظلت تتعرض إلى المضايقات واعتقال محرري الجريدة وتوجيه الإنذارات المتكررة لسبب او لأخر حتى توقفت الجريدة عن الصدور العلني في الثاني من أيار 1979 بعد ذلك صدرت الجريدة في بيروت تارة وفي دمشق تارة أخرى وبعد التغيير في عام 2003 عادت الى الصدور العلني بنهجها المعهود في الظروف الجديدة تشق طريقها بالرغم من الصعوبات المادية التي تواجهها وبالرغم من مئات الصحف التي تصدر في العراق لكنها بين كل هذه الصحف والمصاعب لم ينطفئ بريقها .
الخلاصة والاستنتاجات
1. رغم كل الصعاب التي واجهت إصدار صحافة الحزب سواء السرية منها او العلنية فان التجارب والخبرات التي تراكمت على امتداد الفترة الطويلة أدت إلى إيجاد المئات من ابرز الصحفيين اللامعين الذي يشكلون مدرسة في عالم الصحافة والإعلام منتشرين في الكثير من الصحافة الوطنية والعربية والأجنبية .
2. أنتجت الصحافة الشيوعية نهجا فكريا تنويريا فاعلا أضاف الكثير الى الثقافة والمعرفة وعبرت بابلغ تعبير عن حاجات الوطن في التربية الوطنية الحقة، وأنشأت جيلا من المثقفين والأدباء ونقلت الإبداع العراقي إلى مستوى اعلي في أغناء التراث العراقي .
3. الصحافة الشيوعية كانت منحازة بشكل كامل إلى جانب الكادحين ومصالحهم وحملت قضيتهم ليس على المستوى الوطني وإنما نقلت همومهم إلى مختلف دول العالم واستقطبت الكثير من القوى إلى جانب قضاياهم العادلة وتحمل الصحفيون الشيوعيون مختلف أنواع القهر والاضطهاد في دفاعهم عن قضايا الكادحين .
4. وقفت الصحافة الشيوعية مع قضايا الشبيبة والطلبة من اجل العلم والعمل واستوعبت مواهبهم وإبداعاتهم كما وقفت مع قضية المرأة العراقية في مساواتها مع الرجل في العلم والعمل ومحاربة القوانين المجحفة بحق المرأة التي تحط من قدرها .
5. الصحافة الشيوعية السرية والعلنية منها كانت المحرض ضد القوانين الجائرة وكانت أداة فاعلة للتنوير ومقاومة الجهل والامية والعدمية وأفكار التكفير وثقافة الكراهية والدعوة إلى تشريع القوانين المدنية وحق الجميع في التمتع بخيرات المجتمع من دون تمييز .