المنبرالحر

الأمام الحسين "ع" وأنا / زكي رضا

كانت الصحراء حارقة كعادتها بعد أن توسطت الشمس كبد السماء وأنا لاأدري من الذي دفعني لخوض تلك الرمال الحارقة وحيدا، ليس معي الّا زوّادة صغيرة وزمزمية لم يتبق فيها الا قليل من الماء. كان الماء هو الشيء الوحيد الذي أراه في كل خطوة أخطوها في تلك الرمال الواسعة كمحيط بلا نهاية، ولأنني لم أفقد سيطرتي على عقلي بعد لوجود ما يكفيني منه لساعة أو ساعتين من السير، فإنني كنت أعرف يقينا أنّ الماء الذي أراه ليس سوى سرابا.
في سكون كسكون الصحراء التي كنت أغذّ السير فيها وفي قيضها الذي سيرسم نهاية مفجعة لحياتي حين نفاذ آخر قطرات الماء التي معي، كان صوت الإنسان أو أي حيوان أليف أو أية شجرة أو نخلة هو الأمل الوحيد للهروب من الموت. ولكن من أين تأتي هذه المعجزة وأنا أتيه في أرض لم أمر بها من قبل ولا هناك أمل لأرى فيها من دفعته الأقدار لخوض رمالها في تلك الساعات مثلي.
لم يكن جلدي لذاتي وتعنيفها ساعتها سيساعد في خلاصي ممّا أنا فيه خصوصا وأنّ الماء الذي بتّ أراه يبتعد عنّي كلما إقتربت منه أصبح حقيقة، وبتّ وأنا أسير مترنحّا أنظر الى النسور وهي تحوم في الفضاء القريب منّي لأستشّف من طيرانها قرب أجلي. وبعد فترة من السير حلّقت النسور بعيدا وبات السراب أسودا على غير العادة وبدأت ملامحه تتضح كلمّا إقتربت منه، حتّى بتّ رغم التعب والإجهاد والعطش أرى تلك الملامح على شكل إبل وجياد وخيام وكأنها معسكر للبدو فزحفت الحياة الى جسدي المنهك، وبدأت السير نحو تلك الخيام.
لم أكن بحاجة الى تعليل وجودي في تلك الصحراء وفي ذلك الوقت كون الرجال في ذلك المعسكر "البدوي" كانوا طيبين جدا وتحدثّوا الي بأدب جم لم أكن أتوقعه وأنا أراهم متسلحين بالسيوف والرماح، وما أن إلتقطت أنفاسي قليلا حتّى كاد أن يغمى عليّ بعد أن عرفت أن تلك الخيام لم تكن الا معسكر الإمام الحسين "ع"!!!
عشرات آلاف الإبل كانت تغطي تلك الصحراء كأنها الكمأ بداية الربيع وكان الحادي يتهيأ والقافلة للمسير شمالا، ما جعلني أسأل الرجل متعحبا عن وجهة القافلة وهذا العدد الكبير من الإبل وحمولتها خصوصا وأن الإبل التي كانت مع الامام في مسيره الى كربلاء لم تتجاوز العشرات. فما كان منه الا ان يربت على كتفي قائلا، أنّ وجهة القافلة هي بغداد وأثقال الإبل هي الكرامة الإنسانية والثورة على الظلم، ليضيف بإبتسامة فيها الف الف معنى من أن مستقر القافلة سيكون تحت نصب الحرية في ساحة التحرير!!
هناك كما قال سيقف الإمام ليترجم وصيته (إنما خرجت لإصلاح الامر في أمّة جدي) ثورة ضد طغيان المتاجرين بإسمه، هناك سيقف بين العشرات من طالبي الإصلاح تاركا الملايين المسحوقة والمسروقة والتي لا تعرف معنى الثورة في سباتها تسير الى حيث جسده بعد أن ضيّعت أفكاره . تحت تلك الجدارية وكما قال لي محدثّي فأنّ الميليشياويين ومعهم فتوى عمائمهم سيقتلون (عبد الله الصغير) من جديد برصاصة من (حرملة) آخر. هناك سيحيط المتظاهرون المطالبين بالإصلاح بالإمام ليذودوا عنه وعياله بعد أن باعه شيعته من جديد الى يزيد الخضراء مقابل المال السحت.
تحت نصب الحرية وبين يدي الحسين"ع" سيقف العلمانيون المطالبين بالإصلاح كما هو صارخين بوجه أبناء أمية بالخضراء (أننا معك في طلبك الإصلاح وسنموت معك وسنفوز فوزا عظيما)، أهناك فوز أكبر من الإستشهاد في سبيل الناس والوطن؟ هناك بين يدي الحسين سيهتف العلمانيون قائلين (ما أهل كوفة نيستيم إمام تنها بماند .... ما ميرويم به خضرا إمام زنده بماند) (*) . نعم فنحن المتظاهرين تحت نصب الحرية لسنا كشيعة الحسين في الكوفة والعراق حينها واليوم لنتركه وحيدا يبكي مشروعه الإصلاحي الذي إستشهد من أجله، بل سنذهب للدفاع عنه من خلال مطالبتنا بالإصلاح ليحيا هو بمشروع إصلاحه.
من قتل الحسين قتل مشروعه الإصلاحي ومن يتظاهر اليوم يحمل ذلك المشروع، فكم هم مع قتلة الحسين من شيعته وكم هم مع مشروعه الإصلاحي.. ساحات التظاهر هي التي تحدد من هم شيعة الحسين ومن هم شيعة الدينار؟
لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد، هكذا كانت صرخة الحسين في يوم عاشوراء، أمّا شيعته السائرون الى حيث قبره فقط تاركين أفكاره فقد أعطوا أيديهم مرات عدة لليوم للصوص والقتلة إعطاء الذليل بإنتخابهم، ويفرّون من تظاهرات الإصلاح التي نادى بها الحسين فرار العبيد.
لله در أباك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "ع" وهو يصف شيعة العراق بعد أن ملؤوا قلبه قيحا حينما قال (وأعظكم بالموعظةِ البالغة فتتفرقون عنها، وأحضكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين أيادي سبا ترجعون إلى مجالسكم، وتتخادعون عن مواعظكم ... أيها القوم الشاهدة أبدانهم، الغائبةُ عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلى بهم أُمراؤهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه .. يا أهل الكوفة، منيتُ منكم بثلاث وأثنين ! صمٌ ذَوو أسماع، وبكمٌ ذَوو كلام، وعميٌ ذَوو أبصار. لا أحرار صدقٍ عند اللقاء، ولا إخوان ثقةٍ عند البلاء ! تَرِبت أيديكم ! يا أشباه الإبل غاب عنها رُعاتها ! كُلما جُمِعت من جانبٍ تفرقت من آخر...).
قوموا بجهاد أهل البغي بالخضراء لترضوا إمامكم إن كنتم حقّا من شيعته، إنهم يسرقون ويرتشون ويفسدون ويقتلون ويخونون وأنتم اليهم سمّاعون وتهتفون (علي وياك علي)، من قال لكم أنّ الإمام علي مع الباطل والفساد والرشوة والخيانة.
جاء في القرآن "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"، لقد قتلت عمائم العراق وأحزابه الإسلامية هذه الآية، فذهبت عهدهم الأسود أموالنا كما يذهب الزبد ومكث الموت والدمار في أرضنا.
(*) شعار كان يهتف به الإيرانيون أثناء الحرب العراقية الإيرانية وترجمته (نحن لسنا كأهل الكوفة لنترك الإمام - الحسين - وحيدا .... نحن نذهب الى جبهات الحرب ليبقى الإمام - الخميني - حيّا).