المنبرالحر

العولمة إلى أين؟ / قصي الصافي

أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخراً تقريراً، كان بمثابة جرس إنذار لما آلت إليه الاوضاع الاقتصادية في عالمنا في ظل العولمة بنهجها الليبرالي الجديد. أشار التقرير إلى أنه في العقود الاخيرة قد شاع الاعتقاد أن العولمة هي الطريق الامثل للازدهار الاقتصادي ومضاعفة الثروات التي سيكون للجميع فيها نصيب، كما انها ستضع نهاية للفقر في العالم،بينما تشير الاحصاءات إلى تزايد نسبة الفقر بشكل كبير وتكدس الثروات لدى أقلية من أثرياء العالم وكبريات الشركات، وحذر التقرير من الاوضاع اللاإنسانية التي يعيشها العمال والفلاحون الاجراء_ خاصة المهاجرون والنساء_ وهم يعملون لساعات مضنية وطويلة و بأجور مخفضة جداً وسط ظروف صحية سيئه، وممّا يزيد أوضاعهم بؤساً أن معظم الحكومات تنزع في سياساتها إلى إضعاف أو تحريم تشكيل الجمعيات والنقابات العمالية ومصادرة حق الاضراب والتفاوض، علماً ان تلك الحكومات قد صادقت على معاهدة الامم المتحدة الخاصة بحماية حقوق العمال في الاضراب والتفاوض عبر جمعياتها المهنية. كما أشار التقرير إلى عدم الاكتراث بتدمير الطبيعة الأم والتصحر والاحتباس الحراري الذي يهدد كوكبنا لانعدام الضوابط الملزمة للشركات متعددة الجنسية، ويلقي التقرير اللوم في كل هذه التبعات على تغوّل تلك الشركات مذكّراً أن الواحدة منها تتمتع بثروة تفوق الدخل القومي للعديد من الدول ممّا يتيح لها تجاوز القوانين وانتهاك حقوق الانسان والاساءة لمبادىء الديمقراطية والتجاوز على السيادة الوطنية للبلدان التي تدير فيها أعمالها، وغالباً ما تغض تلك الحكومات بصرهارغبة في تشجيع الاستثمار.
ما لخصته في بسطة سريعة لم يكن تقريراً صادراً عن حزب يساري أو نقابة عمالية، بل عن الامم المتحدة، وهو يستند إلى معلومات بيانية دقيقة و موسّعة، وهنا تكمن مصداقية التقرير وموضوعيته وتجرّده من أية اسبقيات ايديولوجية.
تستغل الشركات العابرة للقارات نفوذها لوضع قواعد اللعبة باسم السوق الحرة عبر ممثليها ومندوبي حكوماتها لصياغة بنود المعاهدات العالمية للتجارة في مفاوضات سرية توّجه من خلالها بوصلة الاقتصاد العالمي باتجاه زيادة أرباحها وتسهيل وصولها إلى مصادر المواد الاولية والعمالة الرخيصة وأسواق المستهلكين، ولئلا يكون نقدنا عمومياً دون أسانيد دعونا نناقش عمل ما يسمى محاكم الاستثمار ISDS والتي تضمنتها جميع معاهدات التجارة الدولية وانعكاساتها السيئة على الايدي العاملة وصغار رجال الاعمال وآثارها على المستقبل البيئي لكوكبنا، وقبل ذلك أود الاشارة إلى ان النقد لا يستهدف العولمة بحد ذاتها بل نموذج العولمة الذي فشل في تحقيق التوازن بين مصالح الدول الفقيرة والغنية من جانب، وبين مصالح الفقراء والاغنياء من جانب آخر، نموذج الليبرالية الجديدة الذي تحمّس له توماس فريدمان والذي يضعنا - حسب تعبيره _ أمام خيارين أما سيارة اللكزس أو شجرة الزيتون، وتجدر الاشارة هنا الى أن كبير اقتصاديي البنك الدولي سابقاً والحائز على جائزة نوبل جوزيف ستكليت قد كرس سلسلة من كتبه لصياغة مشروع عولمة بديلة تؤمن لنا سيارة اللكزس وتحافظ على شجرة الزيتون أيضاً.
تحت مظلة العولمة الليبرالية تبرز التعارضات بين الشركات العابرة للقارات في سعيها لمضاعفة أرباحها وتوسيع إستثماراتها عبر الهيمنة على موارد الطبيعة والبشر من جانب، وبين الدول المضيفة ووظائفها في حماية مواردها الطبيعية وحماية حقوق مواطنيها من جانب آخر، وتحسم العولمة الليبرالية تلك التعارضات عبر محاكم الاستثمار وهي محاكم مؤقتة تعقدها الشركة
باستئجار ثلاثة محامين للحكم في قضية ترفع ضد الدولة المضيفة ، وليس للدولة حق مماثل، ولا تخضع المحكمة لقوانين الدولة بل تحكم حسب بنود المعاهدة التجارية والتي غالباً ما تكون صياغاتها منحازة للشركات وتعاني من غموض في مفرداتها تفتح أبواباً واسعة للتأويل. هناك ما لا يحصى من الامثلة لاستغلال الشركات تلك المحاكم في إبتزاز الدولة وانتهاك سيادتها والتهديد بمقاضاتها لايقاف ما لا يروق لها من اجراءات وقوانين تسنها الدولة المضيفة في مجال الصحة والتعليم والخدمات والحفاظ على البيئة. سنذكر بعضاً من بين 600 قضية رفعتها الشركات ضد الدول وخاصة النامية منها.
رفعت الشركة الكندية للتنقيب عن الذهب على حكومة السلفادور قضية مطالبة بمبلغ 300 مليون دولار لعدم اعطاءها الموافقة على مواصلة مشروعها على نهر الدرادو والذي ثبت أن انجازه سيسبب تلوثاً لمياه الشرب مع احتمال تسرب مادة السيانيد السامة إضافة إلى تدمير مساحات واسعة من الغابات.
أصدرت حكومات استراليا والاكوادور والنرويج والتوغو ونيكاراغوا وايرلندا قوانين للحد من التدخين وقد تعرضت جميعها إلى دعاوى قضائية من قبل شركة فيليب موريس للتبغ لأن المعاهدات التجارية تحرم أية اجراءات من شأنها تخفيض أرباح الشركة.
تعرضت مصر عام 2012 لدعوى قضائية من قبل شركة فيوليا الفرنسية لصدور قرار بزيادة الحد الادنى لأجور العمال في مصر.
أكبر تعويض وقدره 2 مليار دولار قد دفعه الشعب البولوني صاغراً لشركة يوريكو للتأمين لأن الحكومة البولونية رفضت خصخصة شركة التأمين الحكومية.
لاستكمال إجراءات انهاء العنصرية في جنوب افريقيا أصدرت الحكومة قراراً لاعادة الترخيص في استثمار المناجم - وكان من احتكارات البيض - ومنح 26% منها للمستثمرين السود ، فقامت مجموعة من الشركات الايطالية بمقاضاة الحكومة واستمرت المحكمة لسنوات تنازلت بعدها الحكومة مجبرة فخفضت النسبة إلى 5 %، وفي جنوب أفريقيا ايضاً كان للشركات الامريكية التي تحتكر تصنيع دواء الايدز موقفاً يندى له جبين الانسانية، فقد كانت تبيع الدواء بسعر 10 آلاف دولار وحين قررت الدولة استيراد أدوية بديلة بأسعار زهيدة نصبت المحاكم التي استمرت لسنوات انتهت خلالها حياة مئات الآلاف من الفقراء المرضى بالايدز.
الشركات العابرة للقارات التي تحكم عالمنا بشكل مباشر أو غير مباشر ماضية بالعالم الى الهاوية حيث البؤس وانعدام العدالة الاجتماعية والحروب والتصحر والجفاف وهي عوامل حاضنة للجريمة والارهاب، وهي لا تأبه بتدمير الطبيعة أو الاحتباس الحراري فأيّ كوكب سنسلمه للأجيال القادمة.