المنبرالحر

رسالة الى الشعبِ العراقيّ، إنتبهوا ... القِطار قادم ! / ياس خضير الشمخاوي

(2-2)
حتما الطريق الى النجومية ليس سهلا معبدا مفروشا بالورد، كما إنّه ليس حِكرا على المسرح الانجليزي والفرنسي ولن يتوقف عند دائرة الفنون الألمانية أو الإيطالية والروسية.
وربما نجد في بعض الأعمال والفرق المسرحية حديثة العهد مشروعا نجوميا يضعنا على عتبة الشهرة العالمية لو توفرت له أسباب الدعاية والنجاح.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر، منْ يلتقِ مسرحية (إنتبهوا القطار قادم) للمبدع الكاتب والمخرج الدكتور موفق ساوا، سوف يشعر بالتفاؤل والأمل بمستقبل المسرح العراقي والفكر العراقي الجديد.
أذ أننا نستطيع أن نلمس التجديد والأصالة والإمتزاج الفني والجمالي بنماذج من المسرح العالمي وأعلام المسرح العراقي من خلال تفحص النص والأداء والحركة والإخراج والسينوغرافيا.
فلسفة الصورة ومحاكاتها لوجدانية المتلقي في اسلوب الدكتور صلاح القصب بلمسات الدكتور موفق ساوا تبدو واضحة الشكل على الركح.
كما بإمكانك أن تجد المتلقي جزءا من المسرح متنقلا بين مذهب ايرفين بسكاتور في معالجة المشاكل السياسية وواقعية بريخت في الكوميديا النقدية.
ولعل الناقد والمتابع يستطيع قراءة ذلك بسهولة من خلال الأفكار المطروحة للمؤلف.
إمكانية الكاتب في تغريب الأحداث والمعاناة المعاصرة التي مر بها الشعب العراقي أثبتت قدرته على ترجمة المسرح البريختي ومزجه بنكهة شرقية ولغة عراقية يتذوقها المتلقيّ العربي، والتي تفهّمها الجمهور وأنسجم معها بشكل جيد من خلال العرض.
وتلك المخاوف من عدم التواصل يبدو أنها كانت تراود بعض المشاهدين والنقاد العرب غير العراقيين قبل العرض، وقد نوّه عنها الشاعر والأديب اللبناني ( شربل بعيني ).
لكنه بعد أن حضر العرض على مسرح الباورهاوس في مدينة سيدني، أعجب بالنص وبلغتهِ السلسة والقريبة جدا من ذائقة الجمهور العربي والعراقي.
الأمر الذي جعل المتلقيّ متماهيا متفاعلا مع أجواء المسرحية لدرجة إختفاء الجدار الرابع تماما بينه وبين المسرح في وقت مبكر من بدء العرض.
وذلك قطعا يُثبت كفاءة فرقة التمثيل في تقمّص الشخصيات ودِقة تدريبهم وخبرتهم الواعدة قياسا بعمرهم وتاريخهم الفنيّ.
كذلك عكست لنا من جانب آخر مدى دراية ودراسة الكاتب والمخرج المستفيضة لسيكولوجية المتلقي والغوص في مكنوناته وانطباعاته الذاتية والجمعية في ترجمة الواقع وكيفية التعاطي معه سواء عن طريق مشاهد المأساة أو الملهاة في العرض المسرحي.
في مكان يصعب حل كل الشفرات والرموز وإزالة الحواجز بين المسرح والمشاهد، استطاع كادر فرقة ساوا بكل جدارة أن يتسللوا بهدوء الى وجدان وقلب ووعي الجمهور ليناقشوا معه الحل أو مجموعة الحلول المنطقية والعقلانية للخروج من مأزقٍ ما ينتاب الشعب والوطن.
وبطريقة ما تركوا له التساؤل وحرية الإختيار والإرادة والمساهمة الجماهيرية بكل أطيافها في أصلاح الخلل وطرد الديدان (قوى الشر والظلام) التي تنخر بجسد القطار (الأمّة).
وتلك فلسفة تجريبية حديثة متعددة الدلالات والإيحاءات، يندر وجودها في أعمالنا الأدبية ونصوصنا المسرحية التي غالبا ما تميل الى التكرار والإملاءات وتقديم الحلول الجاهزة المعلبة ذات الطابع التسلطي الحتمي في معالجة الظواهر.
الى حد ما تلاشت دوغمائية النص وفرض الوصاية العقلية على الجمهور، في حين تصاعدت رغبة وإصرار الكاتب في أيجاد حلول وطنية مشتركة تتفق وقيمنا وأرثنا الثقافي والحضاري في رفض الواقع المرير.
المسرح المقدس، هو الذي يحترم عقل المتلقي ويربأ بنفسه عن تحجيم قدرة الآخر على التفكير، أنما يدعوه بكل تواضع ليدعْ سباته جانبا ويفكر معه سويا لإنتخاب حل يستمد قدسيّته من أفكار متحررة نابعة عن قوة وإرادة الجماهير.
وتلك هي الأساليب الواعية والنظريات الحديثة التي تتناغم مع روح العصر في خلق مجتمع حي قادر على حل مشاكله بالإرادة والتفاهم والإنسجام وحرية السلوك لا بالإكراه والعنف كما تعودنا عليه في مدارسنا الكلاسيكية القديمة وخطاباتنا المتوترة.
المنجز العراقي الذي قدّمته فرقة ساوا كان رسالة هادفة لعموم الشعب العراقي كي ينقذوا مسيرة قطارهم من التيه في عرض الصحراء.
وقد تضمن العرض دعوة خاصة أيضا إلى شعب نينوى العريق للوقوف بوجه عصابات داعش المجرمة التي جلبت معها التطرّف والتشظي السياسي والتناحر الطائفي والعِرقيّ بُعيْد إحتلالهم الغاشم للمدينة.
تلك المدينة العريقة والغنيّة بإنتاجها للكفاءات والوطنيين والعقول الجبّارة أمثال المبدع يوسف الصائغ والعالم الأثري بهنام أبو الصوف والقاص الراحل زهير رسام وغيرهم من رجال الدين والفلاسفة والمفكرين، لا شك أنها قادرة على أن تقود أبناءها نحو شواطئ الأمان وبرّ السلام.
لذلك أعطى كاتب المسرحية رمزية قيادة القطار إلى أحد رموزها الوطنيين، الشهيد الخالد ( فهد )، يوسف سلمان يوسف، كونه إبن الحدباء البار الذي آثر حياة الشعب وخلود القيم على حياته ودمائه الطاهرة.
ولقوة ما يتمتع به الكاتب من فراسة وأمل وعلميّة في قراءة المستقبل، كان يستشرف من خلال نصه تحرير مدينة الموصل وخلاصها من سطوة داعش وأجندتها العميلة منذ لحظة وقوعها في الأسر.
لا تخلو مقاربتنا النقدية من جوانب مهملة عديدة لم تُثر حول المسرح العراقي بشكل عام وعن تلك المسرحية كنموذج بشكل خاص، بعضها كان عفويا وبعضها لعدم إحاطتنا بهذا العلم الذي نتركه لأصحابهِ،
أنما وجدنا أنفسنا كأحد المتلقين والمعنيين بالخطاب المسرحي والرسالة الفنية التي يقدمها أساتذتنا وفنانينا المبدعين لنا ولشعبهم.
ولا ريب أن رأي الجمهور يهمهم حتى لو كانوا من البسطاء، لأن نتاجاتهم الفنية والفكرية حتما هي من أجلنا.
أذن لابد أن يسمعونا ويصغوا الى آمالنا وطموحاتنا الوطنية كي يعملوا جاهدين بإستمرار لتحقيق أحلامنا في بلوغ أعلى مراتب الرقيّ والإرتقاء الأدبي والفني والبناء الأجتماعي.
بوسعهم عولمة المسرح والآداب العراقية، وإنّا لمتأكدون على قدرتهم من ذلك، طالما القطار قادم، قادم بكل معانيه...
بالخير والمحبة والتآخي والسلام وطرد الديدان... قادم بالنور والشمس وخنق الظلام وسحق العصابات والنفوس المريضة التي دمّرت العراق بأرجاسِها وآتون أحقادِها.