المنبرالحر

8 شباط الأسود .. ذكريات وتأملات / رضي السمّاك *

في مثل هذه الأيام الباردة قبل نصف قرن وثلاثة أعوام ، وتحديداً في الثامن من شباط / فبراير من عام 1963 والمصادف لليوم الرابع عشر من شهر رمضان المبارك وقع أعنف الانقلابات العسكرية وحشيةً ودموية في تاريخنا العربي الحديث ألا هو الانقلاب الغادر الذي نفذه البعثيون الفاشست بالتحالف مع زمرة من القوميين على حكم الزعيم الوطني وقائد ثورة 14 تموز 1958عبد الكريم قاسم ، وقد راح ضحية هذا الانقلاب الغادر ما يقارب من عشرة آلاف شهيد جلهم من الشيوعيين وأنصارهم واليساريين المستقلين والديمقراطيين هم خيرة أبناء الشعب العراقي في مختلف المجالات السياسية والفكرية والثقافية والعلمية ، وكان من بينهم زعيم الثورة قاسم وزعيم الحزب الشيوعي العراقي الرفيق سلام عادل ( حسين أحمد الرضي ) ، وهو ثاني زعيم قيادي فذ لهذا الحزب يسقط شهيداً في مدة تقل عن 15 عاما بعد استشهاد الرفيق المؤسس فهد ( يوسف سلمان ) ورفيقيه : حازم ( زكي بسيم ) وصارم ( حسين الشبيبي ) شنقاً خلال العهد الملكي عام 1949 ، وقد جرى الإنقلاب بدعم من المخابرات المركزية الأميركية ال CIA وهو ما أعترف به لاحقاً بعض قادة "البعث " العراقي كما جاء في كتاب د. علي سعيد " عراق 8 شباط 1963 من حوار المفاهيم إلى حوار الدم ، مراجعات في ذاكرة طالب شبيب " ، وكتاب هاني الفكيكي " أوكار الهزيمة " .
ومن غبش ذاكرتي الطفولية المبكرة حيث كُنت حينها في السابعة من عمري خلال ذلك العام المشئوم أتذكر بأن أول من نقل الخبر على مسامعنا في إسرتنا الريفية البحرانية القريبة من العاصمة المنامة عمي الكبير ( عم الوالد ) وكان هو الذي جاء بالنبأ مسرعاً ووجهه مكفهراً غاضباً : وقع إنقلاب على " الزعيم " وسط ذهول الوالد والأعمام وأشقائي المتحلقين حول نار من سعف النخل اليابس للتدفئة في نهار ذلك اليوم الشتوي الرمضاني القارس . وعلى الرغم من إن حزبنا الشيوعي "جبهة التحرير الوطني البحرانية " حينذاك مازال فتياً ( تأسس 1955) إلا أني أتذكر جيداً بأن حكم الزعيم عبد الكريم قاسم كان يحظى حينذاك بشعبية في
الأوساط الاجتماعية لقرانا البحرانية ، وظل البسطاء من كبار السن يرفضون لسنوات طويلة تصديق ان الزعيم قاسم قد تُوفي مستشهداً ، وما زلت أتذكر أيضاً في ذلك الزمان كيف يتجمع في اُمسيات كُل يوم نفرُ من رجال القرية حول المذياع في مجلس المرحوم جدي الحاج أحمد السمّاك ليسمعون خطب الزعيم المبثوثة من إذاعة بغداد ونشرات أخبارها المتضمنة أنشطته اليومية والأغنيات التمجيدية به ، لاسيما ان الاناشيد والاغاني هي أكثر ما تظل محفوظة في ذاكرة الطفل الطرية في مثل هذه السن مقارنة بعدم إدراكه الكامل بكنه ما يدور حوله من أحداث سياسية جسام ، ومنها على سبيل المثال ما زلت أتذكر جيداً أغنية " مرحى ياقائدنا .. تسلم يارائدنا .. أنت الزعيم عبد الكريم " ، و " زعيمنا الغالي حقق لي أمالي " ، و " أنا العراق حطم الحق قيودي " لعلها للفنانة القديرة المحبوبة مائدة نزهت ، إن لم أكن مُخطئاً ، وغيرها من الأغاني الاخرى .
والحال لا يوجد شعب من شعوب منطقتنا ، وأقصد تحديداً هناالعراق والجزيرة العربية والخليج ، تأثر بنضالات الشعب العراقي وحركته الوطنية وعلى رأسها الحزب الشيوعي كما تأثر شعبنا البحراني ، يكفي للدلالة على ذلك إن إسمي الشهيدين " فهد " و" سلام " اُطلق على أسماء العشرات إن لم أقل المئات من أبناء الشيوعيين البحرينيين وأنصارهم ، تيمناً بهذين القائدين الفذين ، كما كانت اُغنيات "فرقة الطريق " والفنانين كوكب حمزة وجعفر حسن وشوقية العطّار هي اكثر الأغاني الثورية والوطنية إلهاماً وحماساً للشيوعيين والوطنيين البحرانيين وأنصارهم للهجتها المحبذة إلى قلوبهم والقريبة جداً من لهجتهم وكانوا يرددونها في مناسباتهم الحزبية والوطنية في سياراتهم زمن أشرطة الكاسيت .
ولا أبالغ إذا ما قلت بأن خسارة أستشهادهما كانت من أعظم الخسارات التي لحقت بالحركة الشيوعية برمتها في منطقتنا العربية باعتبارهما أكثر قائدين بين قادةهذه الحركة حظيا بالتفاف حولهما بالإجماع تقريباً في صفوف حزبيهما حتى في أشد اللحظات التي تعرض فيها حزبهما لتحديات داخلية في وحدته لكنها لم تصل على أي حال لمخاطر كالتي التي مر بها بعدئذ ، ومع ذلك فمازال هذا الحزب يشكل القاعدة الصلبة لمواصلة النضال الوطني والطبقي اليوم في ظروفٍ سياسية واجتماعية أشد تعقيداً ومازال وزنه بالرغم من مد الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني ملموساً وحاضراً بقوة في مختلف الساحات السياسية والإعلامية والثقافية والفنية والاجتماعية .
والحال لم تكن ثورة 14 تموز مجرد إنقلاب عسكري ، فبالرغم من كل أخطائها ونواقصها الديمقراطية وطغيان حكم الفرد عليها فقد كانت تتمتع بشعبية جارفة ، وبدون تبرير تلك الأخطاء القاتلة التي أدت إلى وأدها رغم عمرها القصير الذي لم يتجاوز خمس سنوات ( 1958 - 1963 ) إلا أنه ينبغي أن نضعها في سياق خصائص المرحلة التي جاءت فيها كحركة تحرر وطني لشعب لم يتحرر بالكامل من أغلال الاستعمار ولم يتخلص من كامل تركته الثقيلة في التخلف والاُمية والجهل السياسي وغلبة المشاعر الوطنية لديه على وعيه الديمقراطي، ولعل انشغال القوى الوطنية وعلى الأخص الحزب الشيوعي بإنجاز المهام الوطنية الآنية الملحة هي التي فرضت أولويتها على المهام الديمقراطية . وليس أدل على هذه الشعبية الجارفة التي كانت تتمتع بها ثورة 14 تموز محاولة البعث العبثية للترويج لانقلابهم ترويجاً ديموغوجياً أشبه بالشركات التجارية الوليدة التي تستعير ماركات بضائع ناجحة لشركات أسبق منها بغية تسويق بضائعها وذلك باعتماد التاريخ الهجري "14 رمضان " لإسقاطه على "ثورتهم الانقلابية " المزعومة المضادة " ثورة 14 رمضان " ، لما لهذا الرقم في الذاكرة السياسية الشعبية من موقع مُحبذ لارتباطه بثورة 14 تموز تماماً كما فعلوا خلال سني حكمهم الانقلابي الثاني ( 1968- 2003 ) بتسمية التحالف الدولي بقيادة أميركا لطردهم من الكويت ب " العدوان الثلاثيني " لتشبيهه بالعدوان " الثلاثي " الذي واجهته مصر خلال حكم الرئيس الوطني المصري جمال عبد الناصر والذي حظي حينذاك على جماهيري عارم معه في كل الأقطار العربية خلال ذاك العدوان وكان من أسباب ارتفاع رصيد شعبيته في بلده وفي هذه البلدان العربية مجتمعةً.
* كاتب بحراني