المنبرالحر

ريف في البحرين .. هل كان مُصلحا أم مُستعمِراً ؟ / رضي السمّاك *

ثمة جدل يتجدد بين الفينة والاخرى في أوساط النخب السياسية والمثقفة العربية حول حقيقة الادوار التاريخية الذي لعبته بعض الشخصيات الاوروبية الممثلة للسلطات الاستعمارية في البلدان العربية التي وقعت تحت سيطرتها قبل نيل استقلالاتها الناجزة فالبعض يتوهم بأنهم حققوا إصلاحات إدارية وعلمية مُبهرة ، بغض النظر عما إذا جاء هذا التوهم تحت تأثير تدني وعيهم السياسي أو تحت تأثير الانبهار المُفرط بالغرب الحضاري أو و لمركب النقص الذي يعتريهم من جراء الفجوة الحضارية الهائلة بين العالم العربي وبين الغرب ، في حين تقرأ الغالبية الساحقة من النخبة أدوار تلك الشخصيات الغربية قراءة ممعنة متفحصة في سياق الادوار التي يلعبونها والمتساوقة مع مصالح الهيمنة الإستعمارية . ولعل المستشار الإنجليزي تشارلز بلجريف رجل بريطانيا القوي في البحرين الذي استقدمته سلطاتها ( الإسرة الخليفية الحاكمة ) كمستشار سياسي لها من لندن هو أحد من تلك الشخصيات التي دار الجدل حولها في هذا الشأن بين المؤرخين والسياسيين البحرانيين في هذا الشأن ، فالمنبهرون بإصلاحاته المزعومة وقعوا أسرى مرض الافتتان بها طوال فترة وجوده في البلاد على مدى ثلاثة عقود ونيّف ( 1926- 1957) والتي كان خلالها بمثابة الحاكم الفعلي والمتصرف الأول في تقرير مختلف السياسات العامة للبلاد ، ولم تتناقض هذه السياسات قط مع الإسرة الحاكمة ولا مع السلطات الإستعمارية . فلقد كان لبلجريف اليد الطولى في إدارة البلاد في مختلف المجالات بعيداً عن مصالح وحق تقرير مصير شعبها ، ومن ذلك على سيجبيل المثال لا الحصر المجال التعليمي ، فمنذ السنوات الاولى لإستقدامه في العشرينيات وجّه المؤسسات التعليمية والمدارس الوليدة بما يتماشى مع عقليته الإستعمارية ومصالح حكومة بلاده ، وحارب المدرسين العرب ذوي الاتجاهات الوطنية القومية الذين تمت الاستعانة بهم للتدريس في البحرين في بدايات انشاء التعليم النظامي ، ومنهم على سبيل المثال المدرسون السوريون الذين لجأوا الى العراق فراراً من بطش السلطات الاستعمارية الفرنسية في بلادهم خلال العشرينيات ، أمثال عثمان الحوراني ومحمد الفراتي وعمر يحي والذين رشحهم معاون مدير المعارف في العراق حينذاك ساطع الحصري لمندوب البحرين الذي جاء للعراق لهذه الغاية وتم قبولهم ، ووصلت ذروة تصادم إثنين منهم ( الحوراني ويحي ) مع بلجريف في أوائل عام 1930 فقرر إبعادهما من البلاد فوراً على اول باخرة تحط مرساها قرب سواحل البحرين مهما تكن وجهتها ، وهكذا جرى ترحيلهما في الخامس من فبراير / شباط من عام 1930 في رحلة ذهاب وإياب طويلة شاقة على ظهر سفينة كانت متجهة الى بومباي ومنها عادا على سفينة اخرى مرت بقناة السويس ونزلا منها ليعودا ادراجهما إلى موطنهما سوريا عبر بيروت.
أكثر من ذلك فقد كان بلجريف هو الذي يعتمد ويوقع على شهادات مدارس البحرين الحكومية ، بل ويا للمهزلة ، حتى شهادات إتمام ختم القرآن الكريم لا تُعتمد إلا ( انظرسكينة القحطاني ، من وحي الأيام ، ص 25 ) فكأنما المستشار بلجريف بات موسوعة علمية في كل المجالات وملم حتى بعلوم الشريعة والقرآن أكثر من مشايخ البلد !
وفقط حينما أدركت السلطات الإستعمارية في البحرين خلال الانتفاضة الشعبية التي اندلعت أواسط خمسينيات القرن الماضي ( 1954- 1956 ) أنها استنفدت غرضه منه وبات يشكل عبئاً عليها وبخاصة لفشل سياساته في إخماد تلك الهبة الوطنية سواء بالعصا أو الجزرة سريعاً حينها أوصت واستخدمت نفوذها لانهاء عقد الحكومة الخليفية التي لا حول لها ولاقوة معه وهكذا كان عام 1957 .
ولعل هذا الجدل حول دور بلجريف في البحرين يُذكّرنا بجدل مشابه دار في مصر أواخر القرن العشرين بمناسبة مرور قرنين على الحملة الفرنسية على مصر ( 1798- 1805 ) حيث احتفت بعض الأوساط السياسية والتاريخية بهذه المناسبة باعتبارها عيداً علمياً حضارياً لما لهذه الحملة ، حسب وهمهم ، من أفضال على مصر في نهضتها وتحديثها على يد المحتل الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت وتحقيقه "انجازات " كإنشاء المطبعة والتنظيمات والدواوين الادارية الحديثة التي أقامها على غرار فرنسا ، وانشاء المعهد العلمي المصري ، وفك حروف حجر رشيد الهيروغليفية ، وتدارس إمكانية شق القناة ، وأحوال الزراعة وسُبل تطويرها ، وموسوعة وصف مصر ، وغير ذلك من " الانجازات " غير المعهودة على المصريين . وهنا أيضاً فإن الغالبية العظمى من المفكرين والمؤرخين المصريين سخروا من هذا الاحتفال وحذّروا من تصوير الحملة الفرنسية خارج سياق أهدافها ومآربها الاستعمارية التوسعية أياً تكن مراميها من تلك "الانجازات " الشكلية الطارئة وإن فتّحت عيون المصريين بلا ريب على مابلغه على حجم الفجوة بينهم وبين الفرنسيين والاوربيين عامةً لما بلغه هؤلاء من تطور علمي هائل .
والحال فقد فات المنبهرون ببلجريف ان إصلاحاته المزعومة جرت مثلها وإن بدرجات متفاوتة إصلاحات في كل البلدان العربية التي وقعت تحت نير الاستعمار الكولونيالي ومنها العراق ومصر وفلسطين وسائر الببقاع العربية المستعمَرة تقريباً ، بيد انها إصلاحات شكلية اقتضتها بالدرجة الاولى حاجة المستعمَر نفسه لإحداث أشكال من التحديث والتنظيم الإداري في مجتمعات منكوبة بالتخلف المديد ، وبالتالي لا يمكن تسهيل عملية سيطرته وإقامته على البلاد والعباد إلا بتلك "الإصلاحات " وفي حدود مرسومة بعناية ، فالمستعمرون لم يأتوا من أقاصي الدُنيا ويغامروا بأرواحهم وأموالهم من أجل سواد عيون هذه الشعوب والنهوض بها لإلحاقها بركبهم الحضاري ، وإلا فأين هي النُظم الديمقراطية الحقيقية التي استحدثوها في هذه البلاد ؟ ولماذا لم يجد بلجريف ، على سبيل المثال لا الحصر ، عيباً في استغلال نفوذه لتعيين زوجته الليدي بلجريف مديرة لتعليم البنات لما يقرب من 20 عاماً وهوالقادم من بلد ديمقراطي ؟ بل لم يكن اسلوب تعاطيه المتعجرف مع مطالب الانتفاضة الشعبية السلمية المعتدلة خلال اواسط الخمسينيات أو اتباع سياسة العصا والجزرة في أحسن الاحوال افتراضاً إلا دلالة على دوره المرسوم له سلفاً كمستعمِر لا كمصلح حقيقي .
* كاتب بحراني