المنبرالحر

تربية العلمانية ../ جاسم المطير

قرأتُ، بإمعان، مقالة الدكتور قاسم حسين صالح المنشورة بعنوان ( ورقة لمشروع مؤتمر عن امراض قوى التيار العلماني وسبل معالجتها ..) ثم حدّد توضيحا في بداية الورقة أنه يقصد بــ(التيار العلماني) قوى اليسار العراقي والقوى المدنية والشخصيات الداعية الى اقامة دولة مدنية حديثة ولا يعني ان هذه الامراض موجودة حصرا فيها او في جميع افرادها .
اقر اولا ان الدكتور قاسم حسين صالح صديقي منذ بداية السبعينات اعرفه كاتباً نشيطا له ماض صحفي طويل وماض فكري واسع وماض سياسي خبير، اضافة الى كونه عليما من علماء التحليل النفسي .
وجدته في المقالة المشار اليها آنفا محاولاً تحذير (العلمانيين العراقيين) من أخطار ظاهرتين من الظواهر السيكولوجية المرضية، الضارة بعقل الانسان حيث وجودهما يوقف تقدم الدولة الى امام.
بذات الوقت وجدتُ المقالة غير منتمية الى التاريخ السياسي في تنشئة الدول القديمة والحديثة بكل مكان من العالم.
اظن ان جوهر المقالة وعنوانها وُضع بمحتوى كتلة متحركة من اوصاف سيكولوجية ألقاها على عاتق صنف من اصناف المثقفين، اعني المثقفين العلمانيين ، باعتبارهم ثروة من الثروات الادارية في المجتمع . بينما نجد فرويد وكل علماء النفس وعلماء الاجتماع يجدون هذا الصنف من الوصف (النرجسية ، وتضخيم الأنا) ليس مرتكزا على نوع من البشر او على نوع من الساسة المثقفين وغير المثقفين او على اية جماعة تثقفت على افكار نيتشة او سبينوزا او كارل ماركس أو جان جاك روسو أو كامل الجادرجي أو يوسف سلمان يوسف او جون بول سارتر ، أو غيرهم الكثيرين .. كما ان هذا الصنف من الاصناف كان هماً من هموم الروائيين والمسرحيين العالميين في مقدمتهم وليم شكسبير الذي تولى في جميع اعماله معالجة الاحداث في مستوى الانسان وصفاته ، سواء كانت تبعاته في القصور الملكية او في الاسواق الشعبية.
في ظني ان وضع صفات (النرجسية وتضخيم الأنا) على الشخصية العلمانية لم يكن شيئا لطيفاً جداً وليس سيئا جداً، ليس شيئاً خاطئاً بالمطلق وليس شيئا صحيحا بالمطلق.
محتوى مقالة الدكتور قاسم حسين صالح هو شكل من التفاسير والانطباعات، يمكن ان يطلق على (كل) انسان، على الانسان العلماني، على الانسان الميتافيزيقي، على التاجر والمقاول، على الانسان التلقائي او الانسان التخطيطي، على استاذ الجامعة وعلى معلم المدرسة الابتدائية ،على فيلسوف او على قارئ من قراء الصحف، كما ان هذا التفسير قائم ومحتمل لدى الرجال والنساء بدون حد .
ان (تضخيم الأنا ) او (النرجسية) او (الغرور) كلها صفات وجدت لصيقة ببعض الناس (القادة خصوصاً) قبل ظهور العلمانية وبعدها. إنها صفات تظهر اينما حصل تغيير في الحياة الانسانية عند ظهور قائد ما او فيلسوف ما، عند انسان علماني فرد أو عند مجموعة من المستبدين او الفاشيين او النازيين. ان تحذير الدكتور قاسم حسين صالح هنا جاء من حرصه الشديد على التاريخ العراقي الحديث وعلى المناضلين العلمانيين المتوقع ان يلعبوا فيه دورا ..انه منطق عالم يحذر من احدى الحقائق او الوقائع المحتمل ظهورها.
العلمانية صفة من صفات فردية او صفة من صفات جماعة انسانية تريد وترغب تعمير صحراء دولة .الوجود الاول والرئيسي للعلمانية هو خارج الناس المتعصبين او المتطرفين وهي صفة خاضعة وتخضع للصيرورة الايجابية اكثر من صيرورتها السلبية.
العلمانية الفرنسية في ايام حكم الجنرال شارل ديغول لم تخضع لقواعد وصيغ الصفات الشخصية للجنرال ديغول ومساعديه وهي صفات متقلبة نتيجة الانحراف النرجسي حيث وصلت (الأنا) الديغولية الى اعلى مراتبها، لكن هذا الجنرال منح وطنه الفرنسي هوية جديدة ،هي هوية الجمهورية الفرنسية الخامسة، ذات معان كمية ونوعية اسرعت بوسائل العمل لتخليص فرنسا من حالة انكماش واطلاقها نحو عصر التوسع الانساني المفعم بالحرية والديمقراطية على ضوء رؤى الطبقة البورجوازية الفرنسية .
كما يمكن القول ان نرجسية انجيلا ميركل لم تمنع تطور العلمانية الالمانية الى حدود عليا، كما لم تتوقف بريطانيا عن تطوير علمانية الدولة الى حدود مثلى رغم ان الملكة اليزابيث هي الراعية الاولى للكنيسة في هذا البلد.
النرجسية الستالينية تفوقت على الاخلاقية الاجتماعية الشيوعية، التي تربت اجيالها على التواضع المبني على ممارسة (النقد والنقد الذاتي) بمنطق استخلاص حقيقة التجارب السوفيتية في بناء دولة لم تستمر غير 70 عاما تقريباً.
بلغت نرجسية ستالين مرحلة عالية رغم ان شخصية ستالين كانت قد بلغت اعلى مراحل العلمانية. هذه النرجسية آذت الدولة العلمانية السوفييتية الى حد اقصى لان النرجسية الستالينية قد بلغت طريقتها اليومية المكررة في العمل السياسي اليومي والاستراتيجي.
قضية الحياة السياسية في العراق شهدت نموذج دولة صدام حسين، التي كانت نرجسيته تدأب على تحقيق احلامه الذاتية المترددة بين العلمانية ونقيضها الميتافيزيقي ،من خلال بناء دولة ليست ديمقراطية، بل بلغت اهدافها بالقوة العسكرية وبفعل القهر والاحتلال والحروب وتعذيب المواطنين بكل السبل. اما في الدولة الناشئة بعد عام 2003 فقد شهدنا وضوحا جديدا لأمراض ( تضخيم الذات) بتقنيات دينية ومذهبية وذهنية كانت عدتها الاساسية هي الادعاء بوكالة الله على الارض العراقية. مثلت هذه الوكالة اعلى ترخيص للتجول في غابات النرجسية .
غالبية الدول الغربية حققت بناء الدولة الديمقراطية على مستوى مؤسساتي شامل مهمته قيام دولة ذات وحدة شاملة وذات ابجدية مواطنية فاعلة وذات نظام انساني رغم ان هذه الدول بالذات ممثلة لروح الاستغلالية الرأسمالية غير أن علمانيتها في بناء القيم القانونية – المؤسساتية حدّت من اخطار النرجسية القيادية.
لا يوجد تحديد معين للعلماني لان العلمانية ليست ايديولوجيا او علما معينا بحدود.
العلمانية نظام تنسيقي، نظام ينسق بين (الآراء والممارسات) بصدد ما يحيط بإدارة الدولة، بصدد تشريع قوانين الدولة بعيدا عن الدين والايديولوجيا، بصدد قوانين ادارة مؤسساتها ادارة علمية وليست ادارة ايديولوجية ،كيما تتطور الدولة بانسجام الى حد كبير، بما يخدم ويتطابق مع مطالب وحاجات المواطنين.
العلمانية كما في الدول المستخدمة لها قوة ادارية قادرة على معرفة الواقع وتغييره كلما اشتدت الحاجة المؤسسية الى ذلك. العلمانية ليست وجهة نظر ايديولوجية في هذه المسالة او تلك، لكنها منهج اداري تنسيقي - تطبيقي كبير الاهمية في ادارة حقوق الناس وضمانها بحيادية بين الجماهير المتعددة الاجناس والاديان والايديولوجيا.
هذا المنهج يمكن ان تنتج عنه امراض من نوع خصوصية جداً. امراض العلمانيين ربما تنتج عن الصراع مع الذرة ،مع تقدم الكهرباء، مع تطوير الاجهزة الاوتوماتيكية ،مع اجهزة ارتياد الفضاء الكوني واستكشافاته.
العلماني والعلمانية ليسا مثالا من امثلة النرجسية وتضخيم الانا، لكن يمكن لنرجسية بعض العلمانيين ان ترتكب اخطاء تطبيقية في ادارة الدولة، في كل مكان ومؤسسات الدول العالمية.
ما اريد قوله هنا ان توظيف العلمانية يبقى الوسيلة الامثل والارقى للارتقاء بانتقالية وتجديد البلدان والدول والحكومات والمؤسسات.
املي ان تبنى ورقة عمل الدكتور قاسم حسين صالح على اساس تطور وتطوير الفكر الاداري العلمي أي ( العلمانية) في بناء الدولة العراقية الحديثة. من الضروري والمهم ان تكون ورقة العمل اكثر مرونة في رفض حدّة الموقف عند هذا العلماني او ذاك، في هذه اللحظة التاريخية او تلك . الاساس هو تحديد اساليب رفض امراض العلمانية الناتجة عن ركود اداري او عن انحراف اداري او عن روتين اداري لأن صفة العلماني تظهر فقط عندما يكون ذهنه ثاقبا وعقله مبدعا ومسعاه متقدا، بذلك فقط يكون قادرا على فهم واستخدام عناصر التقدم العلمي والتكنيكي في بناء الدولة.
رجل العلمانية قادر على استخدام الطريق الصائب في البحث العلمي سواء كان مصابا بالنرجسية او لم يكن. اعظم مبدعي الاشياء العلمانية العظيمة كان منهم من هو اكثر الناس نرجسية. كما كان الكثير منهم ابعد الناس عن النرجسية.
العلماني انسان بالغ الخصال العلمية في البسالة بالعمل والاجتهاد في اكتشاف الجديد وفي تحمل مجابهة صعاب العمل ومشاكل الادارة. انه انسان يملك ناصية الكفاح ضد وقوف الدولة عند نقطة معينة هي بنظره ليست النقطة الاخيرة.
الرياضيات علمانية لذا فان العلماني يستند الى المعادلات،
الكيمياء علمانية لذا فان العلماني يستفيد من التفاعلات،
الادارة علمانية لذا فان العلماني مولعا بنجاحاتها.
من يشتغل بمثل هذه الصفات تقل عنده احتمالات الاصابة بالنرجسية او بمرض تضخم الذات.
العلمانية تفتح السبل كاملة امام عبقرية الانسان لا نرجسيته.. العلمانية وليدة تقدم الانسان وعلميته في عصر التقدم والديمقراطية وهي نتيجة طبيعية من نتائج التطور التاريخي في القرن العشرين.
الانسان ،كل انسان ، يمكن ان يصاب بالنرجسية لكن اقلهم احتمالا هو انسان العلم والعلمانية لأنه على خلاف الناس البارزين الاخرين (القادة السياسيين والعسكريين خصوصا ) من الذين تثيرهم اهواء وغرائز النرجسية باعتبارها اعلى اشكال الذاتية المتضخمة.
وجدتُ مقالة الدكتور قاسم حسين مساهمة ذات شهامة جريئة حين قدم ضوءً ، بصراحة متناهية، عن احدى القضايا المهمة في علم النفس الاجتماعي، الى احدى قضايا الامراض النفسية، التي تعدو امام القوى اليسارية ، الى قضية من قضايا الصراع الداخلي بين الانسان المناضل ونفسه، بين كفاح الانسان وغرائزه.
مقالة الدكتور قاسم حسين صالح اتصفت بفضيلة من فضائل علم النفس هي تنبيه قوى اليسار العراقي الى ادراك المعايير الخالية من امراض النرجسية المعطلة لآليات بناء الدولة المدنية الحديثة.. انها مقالة قيمة تحث الناس المناضلين على التفكير بالمستقبل بأرقى معاني الحرية والتنظيم مؤكدا ان لا مجتمع بدون حرية ولا دولة من دون تنظيم .
يبقى توظيف العلمانية في الانتقال بالبلدان والدول والحكومات والمؤسسات الى مستقبل افضل ضرورة قصوى باعتبارها نوعا من التصور العلمي لمستقبل الانسان ومصيره في المجتمعات الحديثة.
القيادي العلماني يعرف طريقه في العمل الاداري – الاجتماعي - الابداعي بوضوح اكثر مما يعرفه اللاعلماني . وتيرة العلمانية في كل مرافق ومؤسسات الدولة تراقبه ، تراقب مسؤولياته وممارساته منذ لحظة تنصيبه فيهما وتقيله وقت الضرورة .
العلمانية جسد متعدد الاعضاء، كل عضو يراقب الاخر ليمنع اصابته بالأمراض السيكولوجية الذاتية الخطيرة او الامراض الجماعية ، الحزبية والطائفية والقبلية الخطيرة ايضاً. التي حذر الدكتور قاسم حسين صالح من اثارها حيث تبقي الدولة جسدا بدون اعضاء متجانسة متساندة ميكانيكيا او اموميا .
ــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 14 – 5 – 201