المنبرالحر

جدلية العلاقة بين المثقف والسياسي / صباح جاسم جبر

ان الساحة السياسية في ظل الدولة الاستبدادية تحاول باستمرار قهر واخضاع المثقف وتأطير الثقافة وفق عقيدتها السياسية والفكرية، وانتاج نوع من الفكر الواحد، والرؤية الواحدة، وتعمل على تعمية الجماهير والاستفادة من الجهل الشعبي. وهذا شكل من اشكال الاستبداد السياسي الذي طبع التاريخ العربي- الاسلامي منذ نشوء الدولة الوطنية في اعقاب الحرب الكونية الاولى 1914- 1918. وعلى مسار تاريخ المنطقة انتجت عقيدة القهر والارهاب والتخويف، ووقفت تاريخياً بالضد من أية ممارسة ثقافية اجتماعية واعية، وعمدت الى فرض القيود والممنوعات على المثقف، وأدى ذلك الى انتاج نوعين من المثقفين، مثقف انحاز الى السلطة السياسية وارتبط بها منظراً لسياستها ومبرراً لمشروعيتها في ممارسة العنف الاجتماعي والتنكيل السياسي وفي افقار الجماهير وتجهيلها. اما النوع الثاني الذي نحن بصدده فهو المثقف المدرك لقضايا شعبه – المثقف العضوي – بحسب المفكر الشيوعي غرامشي، والذي تم تحديد مكانته ووظيفته داخل سيرورة تاريخية.
ان المثقف العضوي بانتمائه الى تاريخه ومجتمعه وباستخدامه ادواته المعرفية النقدية قادر على تقويض سلطة السياسي السلطوي، كون الاخير يستهدف اخراج المثقف من دائرة النشاط الفكري والاجتماعي لكونه يشكل خطراً على السلطة السياسية، بمعنى ان الصراع التاريخي بين المثقف والسياسي تعبير عن المضمون الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري للصراع بين ارادتين، ارادة السياسي الذي يحاول تأبيد الراهن، وارادة المثقف في القضاء على الطغيان والقهر والتعسف.
في الدول الراسخة ديمقراطياً، يبدو ان العلاقة بين المثقف والسياسي قد تم حسمها بشكلها التاريخي المدني باعتبار انهما شريكان ومواطنان في ظل دولة مؤسسات حضارية، دولة قيم مدنية، وقد أدى ذلك الى ان تتحرر العلاقة بين المثقف والسياسي من علاقة التضاد والاختلاف الى علاقة تفاعل وحوار خلاق. في حين ان في الدول الاستبدادية تتموضع العلاقة بين المثقف والسياسي ضمن نطاق الصراع المجتمعي لكون السياسي يحاول الضغط على المثقف والزامه على التكيف مع مؤسسته السياسية من خلال فرض العقاب واستخدام العنف والقسر. ان النهج الفاشي للسياسي السلطوي يهدف باستمرار الى تأطير الثقافة بما يتلاءم ورؤيته العقائدية واهدافها، في محاولة منه لتلوين الثقافة والفكر والحياة بلون محدد وتصور واحد، بغية قمع الفكر المختلف ومحاولة ابعاد المثقف النقدي باستخدام اساليب القمع والاضطهاد، كتجربة البعث على مدى اربعة عقود. ان الصراع التاريخي في ظل انظمة استبدادية كهذه يظل قائماً بين السياسي الذي يستهدف ايقاف عجلة الزمن، وبين المثقف العضوي الذي يهدف الى انتاج بيئة اجتماعية سياسية ثقافية متنورة وبالتالي خلق مجتمع له هويته الحضارية المؤثرة في عملية التقدم الاجتماعي والتطور السياسي والازدهار الاقتصادي والتربوي باعتبار ان الثقافة هي الترسانة الاصيلة للوعي الاجتماعي، وانها ليست فقط تعبير عن الواقع الاجتماعي والسياسي فحسب، بل هي اداة فاعلة في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي بالكامل. في سبعينات القرن المنصرم استخدمت السلطة السياسية الاستبدادية الاجراءات الاستثنائية ضد القوى الوطنية واليسارية وفي طليعتهم شريحة المثقفين، مما ادى الى افراغ البلاد من المبدعين، واصبح الفن والادب اسير السلطة السياسية، وسيطرة المثقف التابع الذي كان يروج لفكرة الاستبداد واشاعة التخلف وابراز دور (القائد الملهم) وبنتيجة ذلك تراجع دور الادب وانحسر دور الفن وتوارى بعض المثقفين عن المشهد الثقافي، واصبحت مهمة الشعر هو التمجيد والمدح وتحول الى يافطات سياسية تتغنى بحب (القائد الضرورة) فانحطت الثقافة وتراجع دور الفكر والابداع عموماً.