المنبرالحر

المهاجرون في مجتمع متعدد الثقافات / عدنان حسين أحمد

ينهمك الدكتور عبد الحسين الطائي منذ مدة طويلة بموضوع "المهاجرين في مجتمع متعدد الثقافات"، وربما ينصّب اهتمامه أكثر على أوساط الجالية العراقية بلندن على وجه التحديد حيث يتوزع بحثه الميداني على ثلاثة محاور رئيسة وهي "الهجرة، والتعددية الثقافية، ونتائج الدراسة الميدانية حول الجالية العراقية". يتطرق الباحث في المحور الأول عن الهجرة الدولية التي تقع في مختلف أرجاء العالم. فحتى الأوروبيون يهاجرون إلى أميركا وأستراليا وكندا وغيرها من بلدان العالم، لكن الباحث يركّز على هجرة مواطني دول الكومنوولث البالغة "51" دولة التي كانت خاضعة لسيطرة الاستعمار البريطاني حيث كان يُطلق على مواطنيها المهاجرين بـ "الملوّنين" على الرغم من أن بعضهم من ذوي البشرة البيضاء.
ثمة أسباب رئيسة للهجرة أبرزها اقتصادية وأمنية وسياسية واجتماعية تتعلق بلّم الشمل، هذا إضافة عوامل الإغراء الكثيرة التي تدفع بالمهاجرين صوب البلدان المتقدمة والمرفهة اقتصادياً، ناهيك عن عوامل الجذب الأخرى كالخدمات العامة التي تقدمها الدول الأوروبية لمواطنيها، بينما يفتقر إليها المهاجرون في دولهم الطاردة. لا شك في أن بعض البلدان الأوروبية مثل إنكلترا وفرنسا وألمانيا قد ازداد طلبها للأيدي العاملة من مختلف الجنسيات بعد الحرب العالمية الثانية تحديداً فاستقدم الألمان عمالاً أتراك، فيما استقبلت هولندا أعداداً كبيرة من العمال المغاربة، واستقطبت إنكلتراً قوى عاملة من مختلف دول الكومنوولث وغيرها من بلدان العالم الثالث.
لا شك في أن حركة الهجرة وعدد المهاجرين إلى إنكلترا يختلف من وقت لآخر، فعلى وفق المكتب الوطني للإحصاء بلغ معدل عدد المهاجرين الذين دخلوا بريطانيا للفترة 1998-2003 نحو "150,000" مهاجر في السنة. فيما ارتفع هذا العدد إلى "244,000" مهاجر سنة 2004 ويعود سبب هذه الزيادة المفرطة إلى تدفق المهاجرين من أوروبا الشرقية وبالذات بولندا. كما بلغ عدد المهاجرين "191,000" سنة 2006، وزاد هذا العدد ليصبح "237,000" مهاجر سنة 2007. وفي عام 2011 شكّل مواطنو الدول حديثة الانضمام للاتحاد الأوروبي نسبة 13% من المهاجرين الذين يدخلون المملكة المتحدة. ثم بدأت الهجرة بالانخفاض بسبب التشدّد في الاجراءات القانونية، والأزمة الاقتصادية العالمية، وانخفاض الجنيه الإسترليني بنسبة 30%.
حدّد الطائي حجم الجاليات المهاجرة التي تعود أصولها إلى الهند والباكستان والصبن والبحر الكاريبي وأفريقيا وبنغلاديش والاثنيات الأخرى المختلطة بنسبة "8.3" من سكّان بريطانيا بحسب إحصاء سنة 2001. أما نسبة تركّز هذه الجاليات فقد توزع كالآتي: "9% في إنكلترا، 2% في ويلز، و 2% في أسكتلندا، ونسبة أقل من 1% في آيرلندا الشمالية من العدد الإجمالي للجاليات". أما نسبة تشكيل الأديان في بريطانيا حسب إحصاء 2001 فهي: "71,6 من المسيحيين "10% من الرومان الكاثوليك"، و 2.7 % من المسلمين، و 1.0 % من الهندوس، و 0.6% من السيخ، و 0.5 % من اليهود، و 0.3 % من البوذيين، و 0.3 % من الديانات الأخرى و 15.5 % بدون دين"
عمل الباحث مقارنة بين إحصاء 2001 و 2011 فتبيّن أن نسبة الديانة المسيحية قد قلّت من " %71.6" إلى "59%"، بينما ازدادت نسبة الديانة الإسلامية من "2.7%" إلى "4.8%"، أما الناس الذين لا دين لهم فقد ازدادت نسبتهم من "15.5%" إلى "25.1%"، فيما كانت نسبة "7.2%" لشريحة واسعة لم تقدّم إجابة. كما أظهرت المقارنة بين الإحصائين أن الديانة المسيحية قد انخفضت بمعدل "11%"، وأن الديانة الإسلامية قد ازدادت بنسبة "80%"، كما ازداد الذين لا دين لهم بنسبة "83%".
أما التوزيع الجغرافي لإنكلترا فقد بلغ عدد سكان المملكة المتحدة "إنكلترا، أسكتلندا، ويلز وآيرلندا الشمالية" حسب إحصاء 2001 "59.8" مليون نسمة، وقد بلغ هذا العدد بحسب إحصاء 2011 إلى "63.2" مليون نسمة. ربما تكون المعلومة المثيرة في هذا الجانب هو أن عدد المتحولين إلى الإسلام خلال إحصاء 2001-2011 قد تضاعف، إذ قدّر باحثون من مركز الأبحاث الديني "قضايا الإيمان" عدد البريطانيين المسلمين قد بلغ "60699" بريطاني اعتنقوا الإسلام منذ عام 2001، أي أن معدل المتحولين إلى الإسلام قد بلغ "5200" بريطاني سنوياً. وقد أشار مدير المركز أعلاه بأن السبب الرئيس وراء هذا التحول هو بروز الإسلام في المجال العام وفضول البريطانيين لاكتشاف ماهية الدين الإسلامي.
أخذ الباحث عينة تتألف من 458 مهاجراً عراقياً ليعرف دوافع الهجرة فتتبيّن أن "لأسباب أمنية-سياسية، اقتصادية، اجتماعية- لمّ الشمل، علمية لغرض الدراسة، وأسباب أخرى" وأشارت النتائج إلى أن أكثر من 75% هي بدوافع أمنية-سياسية. أما نوع أفراد العيّنة فقد توزع على الذكور الذين بلغ عددهم 246 مهاجراً فيما بلغ عدد الإناث 212 مهاجرة، أي أن نسبة الذكور كانت "53.71" بينما بلغت نسبة الإناث "46.29" وهي نسبة معقولة بنظر الباحث لأن الذكور أكثر قدرة في خوض المغامرات وتحمل المصاعب والسفر لوحدهم. أما توزيع العينة على وفق ديانتهم فقد تدرجت كالآتي: "مسلم، مسيحي، صابئي، إيزيدي، بلا دين، أخرى" وكانت نسبة المسلمين هي الأعلى إذ بلغت "78.82%" فيما بلغ التسلسل السادس "أخرى" نسبة "0.66%" وهي نسب تتكافأ مع مكونات الشعب العراقي.

التعددية الثقافية
تناول الباحث عبد الحسين الطائي في المحور الثاني موضوع التعددية الثقافية التي عرّفها بأنها "مجاميع من الناس من مختلف الطوائف والثقافات يعيشون بشكل مستقل جنباً إلى جنب، ويتفاعلون ضمن القواسم المشتركة، ويتبادلون الخبرات الثقافية". يحاول المجتمع الدولي إرساء معايير دولية يجب أن تتقيد بها جميع الدول. وقد لعب إعلان اليونسكو العالمي في بداية القرن الحادي والعشرين دوراً مهماً في تعزيز التنوّع الثقافي. آخذين بنظر الاعتبار أن سياسة الدولة البريطانية داعمة للتعددية، وقائمة على مبدأ الاعتراف بالتنوّع الثقافي للجاليات. وقد أورد الباحث بأن وزير الداخلية في حكومة حزب العمّال روي جيكينز قد أعلن أول تداول لمفهوم التعددية الثقافية في عام 1966 مؤكداً بأن "سياسات الدولة وضعت لإسعاد الجاليات المهاجرة إلى بريطانيا، ولكي تحافظ كل جالية على ثقافتها وهويتها". وقد توسع التعدد الثقافي ليشمل مجالات الحياة كافة وخاصة التشريعات القانونية. ثم انبنت سياسة الدولة على أسس ومبادئ قوية وأخذت تهتم بالمناهج المدرسية التي تركِّز على تدريس تاريخ الحضارات، واللغات، والتربية الدينية، والثقافات المختلفة.
أشار الطائي إلى انتقاد الكاتب والسياسي البريطاني إينوك باول، الذي يمثل الجناح اليميني في حزب المحافظين البريطاني، لسياسة التعددية الثقافية في مجال الهجرة. ونبّه في خطاب له في 20 أبريل 1968 إلى خطورة استقبال "50" ألف مهاجر سنوياً لأنه سوف يرفع نسبة المهاجرين إلى 10% بحلول عام 2000. كما توقع نزاعات اجتماعية يصعب إدارتها أو السيطرة عليها، كما حذّر من حدوث صراعات وأعمال شغب، وقال بأن أنهارا من الدماء قد تسيل. وعلى الرغم من عدم تحقق هذه الرؤى المتشائمة إلا أن أمر حدوثها غير مستبعد في العقود الخمسة القادمة.
أكدّ الطائي بأن المجتمع البريطاني قد انقسم إلى مؤيد للتعددية الثقافية ومناوئ لها بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وما تلاها من تفجيرات إسبانيا ولندن. فالمناوئون يرون أن التعددية تؤدي إلى فوضى وعدم استقرار، وتساعد في انغلاق الثقافة على نفسها، وتنتج عدة أقليات في دولة واحدة، هذا إضافة إلى أن المهاجرين يكلفون الدولة مبالغ هائلة تؤثر سلباً على اقتصاد البلد، وأنهم أشباه متعلمين يشغلون الدولة في أمور ثانوية، كما أن أصحاب السوابق يتسللون إلى بريطانيا تحت مظلة التعددية الثقافية. أما مناصرو التعددية فيعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من النظرية السياسية الليبرالية، وممارسة ديمقراطية تتيح المشاركة لجميع الجاليات في الحياة العامة، وتقلل من حدة الصراع الاجتماعي والتوتر العرقي، ويسهم في تحقيق السلم الاجتماعي وما إلى ذلك.
وفيما يتعلق بالتعددية الثقافية والتطرف فقد قدر جوناثان إيفانز، رئيس المخابرات الحربية، القسم الخامس، وجود نحو ألفين شخص لهم صلة بالقاعدة في الأراضي البريطانية الأمر الذي دفع المسؤولين الأميركيين إلى إطلاق لقب "لندنستان" على العاصمة البريطانية في إشارة واضحة إلى ظاهرة التطرف الإسلامي الذي تمركز في هذه المدينة. وفي السياق ذاته كتب جيل كيبيل مقالة يشير فيها إلى فشل أنموذج التعددية الثقافية في أوروبا وأن لندن تدفع الثمن. والمفارقة أن تُستهدف بريطانيا وهي التي تشجع التعددية الثقافية فيما ظلت فرنسا في منأى من الهجمات الإرهابية وهي دولة علمانية متشددة. يرى الطائي أن منتقدي التعددية يتجاهلون جوهر المشكلة لأن تركيزهم ينصب على نقد التطرف الإسلامي الذي نتج عنه ترويج ثقافة العداء للآخر.
ركّز الطائي على رؤية الكاتب الأميركي جيمس غولدستون الذي لا يلقي اللوم على التعددية التي قطعت فيها بريطانيا شوطاً طويلاً، ولا يريد التضييق على الأقليات، بل يدعو إلى تعزيز المواطنة وتوطيد حكم القانون، ورعاية مبدأ تكافؤ الفرص، ومكافحة أسباب العنف والإقصاء التي تستهدف الأقليات.
توقف الطائي عند خطابين نوعيين لرئيسي الوزراء توني بلير وديفيد كاميرون حيث كان بلير من أبرز المتمسكين بنهج التعددية الثقافية، وكان يدعو دائماً إلى نقد التطرف بكل أشكاله، وفرض قيود على المجموعات الإسلامية المتطرفة وعلى رأسهم الوعاظ الذين يتبنون رؤى متطرفة، وربط بين حق العيش في مجتمع متعدد الثقافات وواجب الاندماج. أما خطاب كاميرون في ميونيخ بتاريخ 2011/02/05، فقد ركّز على فشل التعددية الثقافية في بريطانيا. ودعا إلى ليبرالية قوية، وانتقد سياسة التسامح حتى قيل عن الخطاب أنه متناغم مع طروحات الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتصدى لمفاهيم التعددية الثقافية التي يعتقدون أنها فشلت في بريطانيا.

الدراسة الميدانية
توصلت دراسة الباحث عبد الحسين الطائي إلى عشرة نتائج أساسية وهي: "ليس هناك إحصائية دقيقة لعدد أفراد الجالية العراقية في بريطانيا، وأنها تعيش في حالة شتات وتفصلها حواجز وهمية تعرقل عملية التواصل فيما بينها، لكن دورها إيجابي في التعامل والانفتاح على الآخر البريطاني. وعلى الرغم من أن الجيل الأول يشكِّل النسبة الأكبر إلاّ أن هناك فجوة بين الأجيال. كما أن نسبة التعليم في الجالية العراقية عالية وغالبيتهم من أصحاب المؤهلات والمواهب، فلا غرابة أن ترتفع نسبة العاملين بينهم وفي مختلف التخصصات، وأن النسبة الأكبر تفكر بالاستقرار في بريطانيا، ولا تروم العودة للعراق، لكن ذلك لا يمنع من الإفادة من تجاربهم التي اكتسبوها في بريطانيا".
أما توصيات الباحث فقد أوجزها في ثلاث نقاط أساسية وهي: "السعي لإقامة خيمة عراقية تضم تحتها غالبية المؤسسات والمراكز والجمعيات العراقية المتفرقة التي تعمل على وفق القواسم المشتركة بهدف تشكيل هيئة تمثلها أمام الجهات البريطانية. كما يجب أن تتحمل كل المؤسسات العراقية الموجودة في بريطانيا مهمة المحافظة على التراث العراقي بكل اشكاله الفنية والأدبية وإيصاله إلى الأجيال القادمة. وتحفيز أبناء الجالية العراقية على مشروعية العيش المشترك، وأهمية الحوار، وفهم القيم الدينية، والتصدي للأفكار المتطرفة".