مجتمع مدني

الى ذكرى الشهيد ماموستا دارا في يوم الشهيد الشيوعي * ... عندما اقتحمنا عرين النظام / جلال رومي

في تشرين الثاني من عام 1982 تم التنسيق مع احدى مفارز الاتحاد الوطني الكردستاني في منطقة (شرپاژیر) للقيام بعملية عسكرية مشتركة داخل مدينة السليمانية، وقد تم الاتفاق حسبما أتذكر على يوم 26/11 للقيام بالعملية وتم تحديد الهدف,
وقد تم اختياري لقيادة مفرزة حزبنا الشيوعي ومعي ستة رفاق أتذكر منهم الشهيد البطل دارا وآرام مصطفى وعثمان، أما مفرزة الاتحاد الوطني فكانت بقيادة آمر الكارت الشجاع شورش إسماعيل.
غادرنا المنطقة باتجاه قرية (ولير) في منتصف النهار حيث يجب علينا عبور سلسلة جبال (كويزة) المكتظة بربايا النظام . وصلنا القرية بحدود الساعة السابعة مساءً وقد استقبلنا أهل القرية بالترحاب الشديد وقدموا لنا الطعام الجيد لمعرفتهم من أن وجود الأنصار في هذا الوقت هو للقيام بعملية عسكرية في السليمانية.
نزلنا من القرية باتجاه قرية (قه ركه) القريبة جدا من مدينة السليمانية والمطلة على شارع 60 الدائري والذي تتمركز فيه كمائن القوات الخاصة بقيادة ملازم محسن سيء الصيت لمنع الأنصار من دخول المدينة، وبينما كنا نراقب الشارع وما حوله عن كثب وصل صبي للمكان المتفق عليه وأبلغنا بعدم وجود كمائن للنظام في هذه المنطقة في هذا اليوم وقد شد هذا الخبر المفرح عزاءمنا وأعطانا قوة إضافية لأننا كثيرا ما وقعنا بكمائنهم ولم نتمكن من دخول المدينة وها نحن مستعدون لدخول المدينة ولتكن حرب شوارع حيث كان الجميع جاهزين لكل الاحتمالات.
تسللنا لعبور الشارع الخطر حيث عبرت المجموعة الأولى لتكون نقطة إسناد للمجاميع الأخرى، كان عددنا الكلي 13 نصيرا 6 من اوك و 7 من أنصار حزبنا، أخترنا الرفيق عثمان على حمل سلاح الـ أر بي جي 7 لكونه يمتاز بالقوة البدنية الجيدة وتدرب على هذا السلاح واتفقنا أن أكون بجانبه عند الرماية .
حين وصلنا إلى أطراف منطقة (ازادي) استبشر أهالي المنطقة بدخول مفرزتنا المشتركة فكان استقبالهم لنا رائعا الجميع جند نفسه لخدمتنا قدموا لنا الماء والطعام وأخذوا يقبلوننا ويهتفون بحياة البيشمركة . تم تحديد هدفنا بالضبط وهو الدخول إلى عمق المدينة وضرب قوة من القوات الخاصة المتمركزة في ثانوية كردستان للبنات في منطقة (باغ شيخ لطيف) . المسافة بين مكاننا والهدف ليست بالقريبة في مدينة حرص النظام على إضاءتها إضاءة تامة خوفا من تسلل الأنصار . لذلك تطلب تحركنا داخل المدينة أن يكون حذرا جدا لوجود أعداد هائلة من الجحوش المتواجدة في المدينة والكمائن المحتملة من القوات الخاصة لكن مراقبة ومتابعة أهالي المدينة المناضلة ساعدنا كثيرا، الجميع يعرف إن المهمة ليست سهلة لكن الجميع فرحون ومستعدون للتضحية في سبيل تحقيق الهدف فكلهم شباب في العشرينات من العمر .
كنا أنا وشورش في المقدمة نراقب الموقف بدقة ونتابع باقي رفاق المفرزة وقد اخترنا رفاقاً لأخذ مواقع معينة ككمائن حيث من المحتمل أن تتحرك قوات السلطة لقطع الطرق في حالة تنفيذ العملية لسد طريق انسحابنا . وضعنا في إحدى المقابر التي تشرف على شارع 30 اثنين من الأنصار هما رفيقنا ماموستا دارا والآخر من أوك واسمه رزكار، كما تركنا اثنين من الأنصار بالقرب من شارع 60.
تحركنا باتجاه الهدف وبعد عبور شارع 30 أصبحنا على بعد أقل من مئة متر عنه فتسللنا إلى الأزقة المجاورة للثانوية وأخذنا نراقب ونرصد التحركات داخلها، غير إننا لم نرصد أي تحرك فيها وقدرنا انه ربما لا يوجد كمين للقوات الخاصة اليوم وبعد نقاش بيننا قررنا اختيار هدف آخر داخل المدينة، ولكن شورش تلافى الموقف وقال يجب أن نتأكد من أبناء المنطقة وتوجه إلى أحد البيوت كان يعرفهم حسبما ظهر ويعرف ان أحد أبنائهم من شهداء البيشمركة وعندما طرق الباب خرج رجل تجاوز الستين من عمره وبعد السلام أخبره شورش بأننا رفاق الشهيد صباح ابن العائلة جئنا لضرب القوات الخاصة الموجودة في الثانوية ولم نلاحظ وجودهم، انتفض الرجل وقال بحماس بأنه شاهدهم يدخلون المدرسة قبل الغروب وتابعهم وهو متأكد من وجودهم وإنهم لم يخرجوا من المدرسة وعادة يكون خروجهم عند الفجر، ورافقنا حافيا لغاية الزقاق القريب من المدرسة وقال ها هم لاحظوهم يتحركون ولاحظوا المدفع الصغير معهم الذي وضعوه في الجانب الأيسر للبناية، وهكذا تأكدنا من وجودهم مما أفرحنا لعدم تغيير هدفنا المرسوم مسبقا . قال لنا ابو الشهيد صباح أو بالأحرى أوصانا قبل أن يتركنا ويدخل بيته بوجوب ترك المدينة مبكرا وأن تكون عمليتنا سريعة لأن المنطقة محاطة بالقوات الخاصة والمرتزقة و لتواجدهم في كل مكان ولأن الساعة كانت الحادية عشر والنصف ليلا والخروج من المدينة يحتاج إلى وقت.
كانت خطتنا المتفق عليها للعملية ضرب الهدف بقذيفة RPG7 ورشقات من أسلحة خفيفة، أخبرنا عدد القاذف رفيقنا عثمان بالهدف الذي كان قريبا جدا، وقف رفيقنا البطل بهدوء أمام الهدف وصوب القاذف وأصاب الهدف بدقة تامة تلا ذلك رشقاتنا من الكلاشنكوف بعدها مباشرة دخلنا زقاقا قريب علينا، ومنذ لحظة ضرب الهدف انهالت علينا جميع أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وأنواع القذائف حيث لم نعرف من أي اتجاه تأتي وبرغم الأزقة الضيقة جدا إلا إنها لم تستطع حمايتنا، وكانت مفاجأة لنا بأنهم يستطيعون توجيه نيرانهم إلى هذه الأزقة الضيقة جدا، كان الجميع حذرا وعلى أهبة الاستعداد لأي تقدم للعدو، واستمر هذا الوضع لأكثر من نصف ساعة وكان من الضروري ترك المنطقة ومن ثم المدينة، بعد فترة وجيزة هدأ الوضع وقررنا أن نتجه إلى شارع 30 وبعد عبوره نتجه إلى المقبرة، بدأنا التحرك بحذر شديد والسير بجوار جدران البيوت وفجأة انهمر علينا الرصاص والقاذفات من مختلف الأسلحة ومن كل مكان وكنا وسط النار والإطلاقات تتراقص بين أرجلنا وكنا نرد عليهم ومن حسن الصدف لم نُصب بأي أذى نتيجة حركتنا المراوغة .
قررنا التراجع إلى مكاننا السابق والاحتماء بالأزقة الضيقة والتفكير بحل آخر . كان شباب المنطقة بانتظارنا وكذلك والد الشهيد صباح الذي حذرنا بعدم إمكانية التأخر أكثر لأننا لن نتمكن على الخروج من المدينة إذا حل الصباح . لم يتركنا شباب وصبية المنطقة واقترحوا علينا العبور من بيت لآخر حتى الابتعاد عن المنطقة وهم سيساعدوننا بذلك، فوجدناها خطة صائبة يتوجب تنفيذها .
واصلنا طريقنا عبر البيوت كل نصير يساعد الآخر في عبور سواتر البيوت وبحذر شديد وبشق الأنفس قطعنا مسافة بعيدة عن منطقة العملية ومن منطقة إنارتها ضعيفة عبرنا شارع 30 واحدا بعد الآخر باتجاه المكان الذي كان يفترض أن يكون كمينا لرفيقينا غير إننا لم نجدهما، انتشرنا للتفتيش عنهما وكانت الساعة تقترب من الثالثة صباحا وقد ساعدنا بذلك شباب المنطقة ومن المؤسف إننا لم نعثر عليهما ولم يسمع أهالي المنطقة إطلاق نار مما أثار استغرابنا فما مصير رفيقينا ؟ كان الوقت يداهمنا ويضغط علينا بالخروج من المدينة ووعدنا الشباب بمساعدة الرفيقين إذا وجدوهما لعبور شارع 60 المحيط بالمدينة.
تحركنا باتجاه منطقة (آزادي) حيث تركنا رفيقين أيضا في المنطقة القريبة لشارع 60 فوجدناهما في مكانهما وعند المرور بمنطقة (آزادي) كان الشباب في انتظارنا وقد عبَروا عن فرحهم بنجاح العملية بإحضار الطعام والماء والحلوى، وقبل توديعهم عرضوا علي نقودا وملابسا وحذاء، وأبدوا استعدادهم لإيصال رسالة إلى عائلتي يسلمونها باليد وكذلك عرضوا علي إمكانية الاتصال بأهلي تلفونيا، كل هذا لأنهم عرفوا بأني النصير العربي الوحيد في المفرزة وقد غمرني هذا الكرم بسعادة كبيرة وقدمت لهم الشكر على كل ما عرضوه علي . بعدها عبرنا الشارع الدائري إلى التلال المحيطة بالمدينة متوجهين إلى قرية (وه لير) حيث يستغرق الصعود إلى القرية أكثر من ساعة للمتعبين مثلنا..
في الصباح وصل ناس من المدينة ونقلوا لنا نتائج العملية حيث قتل ستة من عناصر القوات الخاصة التابعة للمجرم ملازم محسن وجرح عدد كبير آخر منهم حيث كانوا متمركزين في المكان الذي أصيب إصابة مباشرة، ونقلوا الخبر المحزن وهو استشهاد رفيقنا الخالد ماموستا دارا وجرح النصير رزكار من أوك على أيدي الجحوش عندما تحركا من مكان الكمين من المفارقات في هذه العملية:
• ونحن في هذه الظروف سحبتني إحدى الفتيات جانبا وقالت أعرف إنك شيوعي وسألت عن صحة وجود مفاوضات بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحكومة العراقية فأجبتها بأن هذا غير صحيح بدليل نحن مفرزة مشتركة، الحقيقة لم يكن لدينا علم بذلك وبعد أشهر قصيرة حدثت مجزرة بشت آشان وإعلان اتفاق أوك والحكومة.
• وصلنا قرية (وه لير) عند الساعة الرابعة والنصف تقريبا وكانت أخت الشهيد دارا في انتظارنا بحرارة طيلة الليل وعندما لم تجد ماموستا دارا معنا بدأت بالبكاء وحاولنا تهدأتها وبعث الطمأنينة في نفسها بأن مكان دارا كان أمينا وسوف يساعده شباب المدينة بالخروج منها ويبدو أن قلب الأخت أعلم بما يجري لأخيها وليس فقط قلب الأم.
خرجنا من القرية عند الفجر باتجاه (شرپاژیر) حيث وجدنا رفاق سريتنا بانتظارنا في إحدى الكهوف وهم متلهفين لسماع أخبار العملية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الشهيد دارا واسمه الحقيقي حسن رؤؤف وهو مدرس وشاعر ترك عمله في جمهورية اليمن الديمقراطية عام 1982حيث كان يعمل مدرسا والتحق في نفس العام بقوات انصار حزبنا الشيوعي في كردستان وهو من مواليد منطقة شرباجير في قرية ولير، شارك في عدة عمليات عسكرية ضد السلطة الى ان ارتفع الى المجد شهيدا في هذه العملية.