فضاءات

حوار مع الشاعر كامل الركابي

إذا كان قدر الشاعر أن يبزغ في خارج السائد، وأن يكون مرآة لمحيطه وهو ينتزع منه ـ رماداً كان أم حدائق غنّاء ـ ناي أنينه وعشبة خلوده، فإن تحديد موقعه في ساحة التناحر بين القيد والهواء وبين الحب والخراب، هو من يفتح المدى لنتاجه. ذلكم كان الدرس الذي إجترحه شاعرنا المبدع كامل الركابي في حياته وفي مئات القصائد التي صارت بحق علامات تجديد في القصيدة الشعبية. "طريق الشعب" إلتقته في مدينة فستروس السويدية حيث يقيم وكان لها معه هذا اللقاء:
 بعد رحلة الإبداع المتميزة هذه، ما هو آخر موضوع تهتمون به اليوم؟
الموضوع ذاته، الإنسان وتحولات الفكر والواقع التى تطرأ عليه هو بالنسبة لي موضوع قصائدي وطموحي يهدف الى التعبير عنه بكل معالم وجوده الظاهرة والخفية. ولم تعجز قصيدة العامة ـ مثلما يتصور البعض ـ عن رصد تجلياته بأشكال ومضامين جديدة إسوة بقصيدة الفصيح، فقد غدت إهتماماتها تبتعد عن النواح والجراح والهجر والصبر ومفردات الريف، وأخذت تلتفت منذ السبعينيات الى حياة الناس اليومية في المدن التي يتدفق اليها وبشكل يومي أبناء القرى وهم يتطلعون الى حياة المدينة ( الفاضلة)! آخر اهتماماتي "السياسية" أن أرى العراق وهو يتجاوز محنته ويهتدي (هل بقدرة قادر؟) الى الحل الوحيد لديمومة وجوده وإزدهاره بتحقيق الشعار: عراق حُر وتعددي، مدني وديمقراطي!
 كيف تنظرون الى واقع الشعر، والشعبي منه بشكل خاص في عراق اليوم؟
القصيدة العامة الحديثة لم تعد تلهب الإكف وتعتلي المنبر بعد تخلصها من الشعار، بل غدت تخاطب أعماق روح الانسان وتتعمق بمصيره وتسلط ضوءاً خفيا على عذاباته وواقعه اليومي وترتقي بذائقته الى مصاف جمالية جديدة. بالطبع لايستطيع الشعر إحداث ثورة وتغيير واقع، إنما هو يؤشر بأصابع من نور الى مواقع العتمة في حياة وواقع الناس! هناك بصمة خاصة او أثر او روح مبدعة، كما يقول لوركا، تترك إنطباعا او يقينا بأن ذلك المنتج الأدبي ( في الشعر) لهذا الشاعر او ذاك. عندما يستدل من النص على روح الشاعر، يكون ذلك الشاعر قد إختط شوطا في تميزه عن غيره وإلا يغدو الشعر والشعراء متشابهين في تناسب نتاجهم كالأواني المستطرقة!
لكن للأسف ينحدر الشعر الشعبي في عراق اليوم من جديد نحو المستنقع ، نفس الألسن التي مجدّت الصنم ومدحت الطغاة، تعود بلبوس العباءة السوداء والمسبحة والعلامات الفارقة، تلك الدائرة على الجبين! نفسها الألسن تتنافس من أجل المكرمة، وتنحدر بالموقف والكلمة الحرة الى الحضيض، حتى غدت الناس تتذكر التاريخ القريب، وتكره من جديد ما يسمى بالشعر الشعبي. وبالطبع توجد إستثناءات من هذا الكم الهائل من النظّامين، المتملقين، الغارقين في تمجيد العدم، وهذه الأقلية المبدعة هي الينبوع الخفي لتدفق النهر!
 الكتاب الذي قرأتموه مؤخراً وتنصحون الآخرين بقراءته؟
كيف يصح لي نصيحة أحد بقراءة كتاب ما مثلا ! آراغون في الزا وعيون الزا، وهو يتحدث عن عشية السقوط ومحنة ابي عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة، او لوركا وهو يردد دون ان يدري أبيات الدليل : ومضيت بها الى النهر، او احبك خضراء خضراء، او يتنبأ بموته، او بوكوفسكي وهو يندفع حد الترنح والجنون في التعبيرعن البؤس الذي تعيشهُ الطبقات الدنيا من المجتمع، او الطبري وابن قتيبة وهما متهمان بأنهما يميلان لمذهبين مختلفين لكنهما يتفقان على جملة تلخص إحدى مميزات عصور الخلافة، إقطع عنقه وإبعث لي برأسه، أو الطبرسي وهو يستدل في كتاب غير مطبوع، بعثه لي بملف صديق مجتهد، فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب! لا أنصح أحدا سوى نفسي، هذا لايعني بالطبع أنانية ولكنني حقيقة وجدت الشباب المثقف بالعراق يقرأون بشكل متواصل ويسهرون الليالي من اجل الكلمة. هذا الشغف أحسدهم عليه وهم يضعون كتباً جديدة وقيّمة على الشبكة الالكترونية استفدنا منها نحن (أدباء الخارج!) لأننا لسنا كل يوم في (المتنبي) مما حفزني الى كتابة قصيدة (مكتبة) مهداة الى أبرز الناشطين في نشر الكتاب على الشبكة الشاعر علي وجيه!
 في العتمة التي تخيم على الوطن، هل ترون ثمة كوة ضوء؟ ومن أين يأتي الأمل برأيكم؟
الواقع الشعري اليوم ملتبس، ولربما هنالك أسباب متنوعة لهذا الإلتباس، أبرزها التشرذم الطائفي والسياسي، سقوط المؤسسات بيد جهلة الإسلام السياسي وليس متنوريه على الأقل. أين هي السينما؟ أين هو المسرح؟ أين هو التراث الشعري من الملحمة الى ثورة التجديد في الأشكال والمضامين الشعرية؟ وهذه الأين تتصدر أغلب النشاطات الثقافية والفنية التي كانت قائمة قبل التغيير، ذاك الذي رافقته أحلام راحت تتلاشى بعد نصب أعمدة المراثي ونشر الأعلام السوداء في أرض السواد! هنالك فقط بعض الأمسيات الحية وسط الخراب لشعراء شباب يقاومون ببسالة من أجل الحياة والشعر، ويتجمهرون عبر وسائل متنوعة في مقاه ثقافية او مراكز أدبية، هؤلاء هم سيغدون أصحاب الشعلة وحامليها. لأ ارى أي بصيص ضوء في نهاية النفق كما يقولون، الا بعد أن تتمكن قوى المجتمع المدنية ذات الروح الحضارية من ان تمثل نفسها في مؤسسات مستقلة، وتطلق روح الثقافة من سجنها المعتم وتفتح الطريق لإزدهار الثقافات والمواهب في بلاد الرافدين ذات النسيج الإجتماعي المتعدد والمتشابك والذي رفدنا عبر التاريخ بقامات مضيئة.